الخليج الجديد:
2025-01-28@02:21:16 GMT

عن المتاهة الأفريقية!

تاريخ النشر: 26th, August 2023 GMT

عن المتاهة الأفريقية!

عن المتاهة الأفريقية!

الفراغ الذي تتركه فرنسا في أفريقيا مرشح لأن تملأه أطراف دولية أخرى، مثل الصين وروسيا، وهذا ليس دائما في مصلحة القارة!

سواء نجحت الضغوط لإعادة الرئيس بازوم أم لم تنجح، فالعجلة لن تعود إلى الوراء، بعد أن أصبحت عدوى الانقلابات العسكرية تنتقل في القارّة من بلد لآخر.

فشل الاتحاد الأفريقي في حل أي مشكلة أفريقية وظلت قراراته على الدوام صدى لمواقف الدول الكبرى، صاحبة المصالح الأساسية بالقارّة، خاصة فرنسا وأميركا.

كل استقرار في أفريقيا هشّ ومرتبط بالخارج لأن الاعتماد على الذات متعذّر وعوامل التفجير الداخلي والحروب الأهلية والبينية قائمة وتشكّل الثروات عوامل جذب دولي.

لم يعد بوسع فرنسا التحكّم بالتحوّلات في أفريقيا، وصلت سياساتها لحالة عجز عن مواكبة التطورات السريعة، ولا تبدو قادرة على ابتكار أساليب جديدة.

* * *

الانقلاب في النيجر محطّة مهمة في سياق سلسلة التداعيات السلبية التي دخلت معها أفريقيا في مرحلة من الفوضى بلا حدود. وسواء نجحت الضغوط في إعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم أم لم تنجح، فإن العجلة لن تعود إلى الوراء، بعد أن أصبحت عدوى الانقلابات العسكرية تنتقل في القارّة من بلد إلى آخر. وكانت البداية في عام 2020، عندما خسرت فرنسا نفوذها في مالي، ومن بعدها بوركينا فاسو 2022، ومن ثم النيجر.

وما تبدو أنها انقلابات ضد فرنسا هي في جوهرها تعبير عن انقسامات داخلية، وصراعات متعدّدة الأطراف، تعبّر عن نفسها في محاولات استيلاء على السلطة، لكنها لا تنتهي بمجرّد نجاح طرفٍ في كسب الجولة.

فكل استقرار في أفريقيا هشّ، ومرتبط بمصلحة دولة خارجية، لأن الاعتماد على العوامل الذاتية متعذّر في الغالبية العظمى من دولها، كما أن عوامل التفجير الداخلي، والحروب الأهلية، وقضايا الحدود متوفرة بكثرة، وتشكّل الثروات عوامل جذب دولي، طالما أنها لن تنضَب بسرعة.

وكلما تقدّم الغرب صناعيا، زادت حاجته لها، وما يعمّق من المأساة الأفريقية أنه ليس هناك دولة قادرة على أن تشكّل مرجعية لمساعدة الأفارقة على حل المشكلات البينية، ومحاصرة النزاعات، والعمل من أجل تنمية القارّة، مثل بناء شبكات طرق للتبادل، وأسواق مشتركة، وبنى تحتية صحية وتعليمية، تعوّض عن الاعتماد على فرنسا والصين.

وقد فشل الاتحاد الأفريقي في حل أي مشكلة أفريقية بينيّة واحدة، وظلت قراراته على الدوام صدى لمواقف الدول الكبرى، صاحبة المصالح الأساسية في القارّة، على نحو خاص فرنسا والولايات المتحدة.

لم يعد في وسع فرنسا التحكّم بآلية التحوّلات في أفريقيا، بل إن سياساتها وصلت إلى حالة عجز عن مواكبة التطورات السريعة، ولا تبدو قادرة على ابتكار أساليب جديدة.

ويتبيّن أن الفراغ الذي تتركه مرشح لأن تملأه أطراف دولية أخرى، مثل الصين وروسيا، وهذا ليس دائما في مصلحة أفريقيا، التي تنتقل من هيمنة إلى أخرى، وتخسر حالة الاستقرار النسبي، التي تكونت بالتفاهم، تاريخيا، مع باريس.

ولأن دول القارة غير قادرة على مواجهة الأوضاع الجديدة بمفردها، فهي مرشحة إلى فوضى وحروب أهلية، تنقلها إلى مرحلة جديدة من الخراب، وتبديد الموارد والضحايا.

وحتى لو لم تكن روسيا متورّطة بشكل مباشر في الانقلابات، ففرنسا يُنظر إليها دائما بصورة المستعمر السابق الذي يوضع ككبش فداء، رغم أن لدى دول الاتحاد الأوروبي، مثل إيطاليا وألمانيا وغيرهما، وجودا عسكريا وماليا قويا في أكثر من بلد أفريقي.

يقع القسط الأكبر من مسؤولية الانهيار في أفريقيا على سياسات الاستعمار القديم الذي شارف على الإفلاس والفشل من كل النواحي، غير أن الضرر المترتب على نهاية هذه الحقبة لن يقتصر على الأفارقة أنفسهم فقط.

وما يشهده العالم من موجات نزوح من أفريقيا باتجاه بعض البلدان العربية، مثل تونس، ليبيا، المغرب، والجزائر، يشكّل مخاطر كبيرة، لأنه يهدّد بارتفاع الأعداد.

وكل من يفشل في عبور البحر نحو الضفة الأخرى لا يعود من حيث جاء، بل يستقرّ في المكان الذي وصل إليه، ما يشكّل تهديدا بدأت تظهر بوادره في تونس التي قامت بحملات لترحيل المهاجرين الأفارقة الذين وصلوا إليها.

وتبيّن أن الاتفاق الذي وقّعه الرئيس التونسي قيس سعيّد مع المفوضية الأوروبية في الشهر الماضي (يوليو/ تموز) لا يمكنه أن يعالج المشكلة، بل يحاول أن يبعدها عن تونس فقط.

ومن هنا، يتطلب البحث عن حلول مستدامة، ووضع مقاربات أفريقية دولية جديدة، على أساس من التعاون شمال جنوب أكثر جدوى وعدالة، بما يساعد على تنمية أفريقيا، ويحدّ من الانقلابات، والنزاعات، والحروب الأهلية، وموجات النزوح.

*بشير البكر كاتب صحفي وشاعر سوري

المصدر | العربي الجديد

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: أفريقيا فرنسا الصين روسيا تونس النيجر محمد بازوم الحروب الأهلية الاتحاد الأفريقي قيس سعيد الانقلابات العسكرية فی أفریقیا قادرة على القار ة

إقرأ أيضاً:

محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق

إن المتدبِّر في محكمات الشريعة ومسلماتها، ليتهادى بين يديه ويقف شاخصا بين عينيه؛ ذلك التطرُّق المصلحي النَّفعي للعباد في تفاصيل الأحكام ولميَّاتها، وتلك المكارم والنفحات الإلهيَّة التي ينصبغ بها الخطاب المؤسِّس للتَّكليف؛ فلا تكاد ترى ذلك الأمر أو النَّهي الجازمين، إلا وترى -في الحين عينه- ذلك التَّحنان والامتنَان الذي يمازجهما ممازجة الدَّم اللحم، فلا ينقطع حضورُ قلب المكلَّف عن شُهُود هذه المعاني، وإن كان الذي يطرقُ السَّمع في معطاه الظَّاهري هو من بابة الحثِّ أو الزَّجر؛ يقول العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلَامِ -رحمه الله- في (قَوَاعِد الأحكام): “التكاليفُ كلُّها راجعةٌ إلى مصالحِ العبادِ في دنياهم وأُخراهم، واللهُ غنيٌّ عن عبادةِ الكلِّ؛ ولا تنفعُه طاعةُ الطائعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصين”.

وهذه الكليَّة الشرعية المتدبَّرة في التَّوجيهات الإلهية والنبوية؛ لتُوحي لمعاشر المجتهدين وفئام النُّظار، أنه لن يُستفرغ الوسعُ، ولن تُؤدى رسالةُ البلاغ، ولن تلامسَ الأرواح برْدَ اليقين؛ ما لم يكن العطاء المحاسني والإيحاء المقاصدي عضيدًا للألفاظ في ساحة مدلولاتها، وأنيسا للأقيسة في سماءات إلحاقاتها؛ يقولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه اللهُ- في (مجموع الفتاوى): “وَإِلَى سَاعَتِي هَذِهِ؛ مَا عَلِمْت قَوْلًا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدهِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَحَاسِن الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ وَالْعَدْلِ التَّامِّ”.

إنَّ هذا المشهد والذي يضرب فيه المددُ المحاسني بعمقٍ، ليسجلُ هذا التجلِّي أن يكون المكوِّن المحاسني حاضرا في ميادين العلوم وساحات الفنون الشَّرعية، ولياذننَّ أن يتبوئَ من مقعدها خير متكئٍ، وأن يتفيئَ من باسقها أوفر ظليليةٍ؛ فهو القادح لزناد المقايسات العليَّة، والناظم لجمعيَّة الدلالات اللفظيَّة، وهو الذي يتصدر جيدُه وينبض وريدُه، ويُلقي أسمال الحياة ويبعث إكسيرَ الخلود في شخوص تلك الفروع وطُوليات الأحكام المسبحة بكمال وجمال إرادة الربِّ الشرعية؛ يقولُ الشيخُ وَلِيُّ اللهِ الدِّهْلَوِيُّ -رحمه الله- في (حجة الله البالغة)، وهو يؤسس لعملقة

هذا الفنِّ النَّوراني: “هذا؛ وإنَّ أدقَّ الفنونِ الحديثيَّة بأسرِها عندي، وأعمقَها محتدًا، وأرفعَها منارًا، وأَوْلى العلومِ الشَّرْعِيَّة عن آخرها فيما أرى، وأعلاها منزلةً وأعظمها مقدارًا: هو علمُ أسرارِ الدِّين، الباحثُ عن حِكَمِ الأحكامِ ولمِّياتِها، وأسرارِ خواصِّ الأعمال ونِكاتِها؛ فهو -واللهِ- أحقُّ العلومِ بأنْ يَصْرِفَ فيه مَنْ أطاقَه نفائسَ الأوقات، ويتَّخذَه عُدَّةً لمعادِه بعدما فُرِضَ عليه من الطاعات؛ إذْ به يصيرُ الإنسانُ على بصيرةٍ فيما جاء به الشرع، وتكونُ نسبتُه بتلك الأخبارِ كنسبةِ صاحبِ العرُوضِ بدواوين الأشعار، أو صاحبِ المنطق ببراهين الحُكماء، أو صاحبِ النَّحْو بكلامِ العَرَبِ العَرْباء، أو صاحبِ أصولِ الفقه بتفاريعِ الفقهاء، وبه يأمنُ من أن يكونَ كحاطبِ ليل، أو كغائصِ سيل، أو يخبطَ خبطَ عشواء، أو يركبَ متنَ عمياء”.

ثم إنه -بعد وارق هذا الفَنَن- لم يلبث قلمُ الفكر الإسلامي، وفي وقت مبكِّرٍ من الولادة التدوينية: أن تمسَّ أناملُ الصَّنعة وأن تبحرَ سفائنُ الكَشف، عن ذلك الخِدر الطَّاهر والخِبء النَّادر والمشرع المورود؛ فأفصحَ لسانُ الحقيقة والمجازِ عن سُدَّة الإعجاز، وتطاوحت هامة العقلِ المبجَّل ساجدةً بين يدي إحكامات وإتقانات الوحي المنزَّل، وأمطرت زُبُرُ الأحكام وصُحُف التكليف غَيثًا غَدَقًا مُجَلَّلًا طبَقًا؛ حتى اخضَّرت أرواح النَّاظرين والمتدبِّرين، وَرَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيجٍ.

وفي هذا العمر الوليد من تاريخ التدوين الإسلامي، وفي قرنه الرَّابع الهجري، وهي طبقةٌ مبكرةٌ، ربما لم تشبَّ فيها بعضُ العلوم المركزيَّة؛ أطلَّ علمُ محاسن الشريعة، وأيُّ إطلالة كانت؟! فقد سُجِّل في هذا القرن عددٌ من مصادر ومدوَّنات هذا الفن التشريعي، ثم قدمت هذه المصادرُ مادة إثرائية رائدة، وكأنَّه عصر من عصور النَّهضة والنُّضوج العلمي؛ وقد كان من أقطاب هذا النَّتاج المبتكر والمفتخر:

– الإمام الحافظ العارف الزاهد، أبو عبد الله محمَّد بن علي بن الحسَن بن بشر الحَكيم التِّرمذي؛ صَاحب المصنَّفات الكبار في أُصول الدين ومعاني الحَديث، والذي عاش إلى حدود سَنة (320هـ)؛ وذلك في كتابه الذي مَزَعَ قرطاسةَ هذا الفنِّ: إثبات العِلل.

– ثمَّ أَبو زَيد أحمد بن سهل البَلْخِي؛ صاحب التَّصانيف المشهورة، وأحد كبار النَّظار والفلاسفة، والذي تُوفي سنة (322هـ)؛ وذلك من خلال أطروحته الفلسفية عن إعجاز التشريع، المسمَّاة: (الإبَانة عن علل الدِّيانة).

– ثم أبو الحَسَن مُحمد بن يُوسف العَامري النيسَابوري؛ عالم المنطق والفلسفة اليونانية، والذي تُوفي سنة (381هـ)؛ والذي قدَّم طرحا توليديًّا لمعاقد وفصول وأطروحات المادة المحاسنية، حتى قدَّم لنا بابا كان خليقا بكل مضارعة ومشاكلة، وإن تُحفظ على فكره العَقَدي، وهو باب: القَوْل فِي الشُّبَهَاتِ الَّتِي يَتَسَلَّقُ بها المُعَانِدُونَ للإسلام، وذلك في كتابه: الإعلام بمناقب الإسلَام.

– ثم محمَّد بن علي بن حسين بن مُوسى بن بابويه القُمي، المعرُوف بالشيخ الصَّدوق وبابن بابويه، من علماء الشِّيعة في القرن الرابع الهجري، والمدفون بالرَّي سنة (381هـ)؛ وذلك في مصنَّفه: علل الشرائع.

ثم بعد هذه الثَّورة التدوينية والدَّفق التصنيفي الكبير، والذي ربما توارى منه عن حركة الرصد التراثي بعضُ المخرجات؛ شهد هذا الحقلُ الشَّرعي فتورًا لافتًا، وأيُّ فتور كان؟! فقد توالت القرونُ المتطاولة، ونضجت المذاهب الفقهية، ولاحت أسرارُ الشريعة في أصول الأحكام وفروعها، وأينعت منها الثِّمار، واستقر على عرش التدوين جهابذة النظار وأساطين المفكرين؛ ولم تنبس شفةٌ، أو يخط يراعٌ، أو يُسود كاغدٌ، فيما بان من مطويَّات المطبوع والمخطوط؛ بل كانت رسومَ نقش لا يُرى منها إلا أطراف البنان، وإطلالة حييٍّ لا يبين منه إلا ذؤابة اللثام، وجرت بعد طيِّ هذه السنين مجرى اللمَامة من القَول، بعد أن كانت على أعواد منابر العلوم خطيبًا مصقعًا مفوهًا؛ فلم يُرَ فيما وُقف عليه، من المصنَّفات التراثية في محاسن الشريعة، والتي هي مستقلةٌ بذاتها في هذا الباب، بعد المائة الرَّابعة؛ إلا:

– كتاب (مَحَاسِن الإسلام)؛ لأبي عَبد الله مُحمد بْن عَبْد الرَّحْمَن بن أَحمد البُخاري الحُنفي، الواعظ المفسر المعروف بالزاهد، توفي في جمادي الآخرة سنة (546هـ).

– وكتاب (كشف الأسرار عما خفي عن الأفكار)؛ من تأليف العلامة شهاب الدين أحمد بن عماد الأقفهسي، الشَّافعي المعروف بابن العماد، تُوفي سنة (808هـ).

ومع هذه المفارقة الغريبة المتصدِّرة لهذا المشهد؛ فهو في قرنه الأول وبواكير نُشوئه ومخايل ولادته، يُسجل نشاطا مذهلا، يتعدَّى الحجم المتوقَّع لكتابة الأحرف الأولى في العُلوم المبتكَرة، ثم لم يمكث غيرَ بعيد إلا ويتهاوى هذا الشِّهاب من سماء الوجود، وتذوي أعذاقه الشَّامخات في جوف كل عنقود، ويتفرق جمعُه، ويدبر نُسَّاكه؛ وهو يقع من علوم الشَّريعة موقع الحسنة من الوجه الطَّاهر المشراقِ، ويقوم في سُوقها مقام المنافح المسدَّد المقدَام.

وقد كنتُ أُفاتح فضيلةَ شيخَنا العالم الجليل، الدكتور أحمد بن عبد الله بن حميد -حفظه الله- في ذلك، وكنَّا نُقلب أوجه الظنِّ في استكشاف السَّبب الذي يقف وراءَ هذا الانقطاع التأليفي المتطاول؛ ولعل مما يمكن تسجيله في هذه المقالة السَّببان التالية:

أولًا: أنَّ هذا الحقلَ مِن التَّصنيف الشَّرعي، قُدِّرَ له -في هذا العُمر المبكِّر- أنَّ أكثرَ من يطرقُه هم أصحاب العلوم الكلاميَّة والمناهج الفلسفيَّة، سواءٌ أكانوا معتزلةً أم صُوفِيَّةً أم شيعةً؛ وربما صدَّر هذا الاختصاصُ الاتِّفاقي بين أصحاب هذه المناهج انطباعًا تحفظيًّا على هذا المنحى التَّأليفي، وربما ظُنَّ به الافتئاتُ على أصول أو مسلَّمات النَّظر الشرعي في هذه المتعلَّقات التكليفية؛ هذا إذا ما ضَمَمْنَا إليه ذلك النَّهج التأسيسي والبنائي الذي تعيشه المذاهب الفقهية في هذه الفترةِ، وأنَّها كانت أمام متطلباتٍ من الوجودِ والبقاء ورسم خرائط العطاء والإنتاج الفقهي، ما كان كفيلاً بالانشغال عن ذلك الطَّرح المتقدِّم والثَّوري بالنسبة إلى هذه الفترةِ الحرجة من أعمار المذاهب الفقهيَّة؛ الأمر الذي جعل من هذا الحقلَ المحاسني أولويةً متأخرةً في هذه الروزنامة الفقهيَّة، خاصَّة وأنها قد تشوكَّت بهذا الطرح الفلسفي والكلامي، والذي ربما احتاج إلى عملياتٍ متضاعفةٍ من التَّنقيح والتَّسديد والمقاربة.

ثانيًا: وربَّما يجيب على استبقاء هذا الانصراف التَّأليفي عن محاسن الشريعة، حتَّى بعد تعدِّي هذه الأطوار المؤرِّقة من تكوِّن المذاهب الفقهيَّة، ووجود المساحات الواسعة والنِّزهة والقامات المتينة والمكينة من أوجه الإبداع والإثراء والفتح العلمي؛ وهو أنَّ الطَّريقة الاجتهاديَّة والأطروحة البنائيَّة التي انطلقت منها فكرة محاسن الشريعة وانقدحت عندها شرارتها الأولى، هي التزام القولِ بالتحسين والتقبيح العقليين، وهذا الالتزام سجَّلت أمامه المدرسةُ الأشعريَّة، والتي تمثِّل جمهورَ المذاهب الفقهيَّة المتَّبعة، موقفًا علميًّا عقيمًا من التَّعاطي مع هذه النظرية التَّشريعية، وذهبت منها مذهبَ التَّعطيل والإلغاء والتَّفريط، ولم تقدِّم الاتزان المتواجب في هذا المشتبه الاستدلالي؛ يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في (مفتاح دار السعادة): “وَكَذَلِكَ الإِمَام سعد بن علي الزنجانى بَالغ فِي إِنْكَاره على أبي الْحسن الأشعرى القَوْل بِنَفْي التحسين والتقبيح، وَأَنه لم يسْبقهُ إِلَيْهِ أحد، وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِم الرَّاغِب، وَكَذَلِكَ أَبُو عبد الله الحليمي، وخلائق لَا يُحصونَ؛ وكل من تكلم فِي علل الشَّرْع ومَحَاسِنه وَمَا تضمنه من الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد فَلَا يُمكنهُ ذَلِك إِلَّا بتقرير الْحسن والقبح العقليين… فَلَو تَسَاوَت الْأَوْصَاف فِي نَفسهَا لانسد بَاب الْقيَاس والمناسبات وَالتَّعْلِيل بالحكم والمصالح ومراعات الْأَوْصَاف المؤثرة دون الْأَوْصَاف الَّتِي لَا تَأْثِير لَهَا”.

إنَّ هذه المفارقة البحثيَّة في تاريخ التَّدوين في محاسن الشريعة؛ لتفتح آفاقًا واعدةً من الدِّراسات والتَّحقيقات التراثية، والتي تُنقِّب في الرَّصيد المخطُوط للأمَّة، بحثًا عما يمكن التبشيرُ به من مصنَّفات تسدُّ العوزَ العِلمي الذي يشوبُ هذا الحقل الشَّرعي الرَّائد، كما أنها تفتحُ أبوابًا مشرقةً أُخرى من الدِّراسات المنهجيَّة التي تؤطِّر عمليَّات توظيف وتفعيل المعطى المحاسني والمصالحي في الأحكام الجزئيَّة، بعيدًا عن هَلَكة الإفراط أو التفريط في نظرية التحسين والتقبيح العقليين؛ إنَّ مثل هذه الدِّراساتِ ونظائرها لتخفِّف على المجتمع المقاصدي والفروعي من وطئة عنوان هذه المقالة: محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق، وتُعيد ذلك المجدَ التَّليد لينطق شامخًا من جديد.

مقالات مشابهة

  • 6 ملايين جنيه.. حصيلة قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة
  • الشرطة تستجيب لاستغاثة مريضة غير قادرة على الحركة وتنقلها لمستشفي الساحل
  • في لفتة إنسانية.. الحماية المدنية تنقل عجوز إلى المستشفى بالقاهرة
  • في مؤتمر المحاكم الأفريقية.. رئيس مجلس الشيوخ يشيد بمساعي مصر لوحدة أفريقيا
  • وزير الدفاع يتفقد قاعدة البحر الأحمر البحرية ويؤكد: القوات المسلحة قادرة على حماية الوطن وصون مقدساته.. شاهد
  • الحماية المدنية بالقاهرة تستجيب لاستغاثة سيدة مريضة وغير قادرة على الحركة
  • معضلة التحرر في منطقة الشرق
  • أمراض عدة.. ما الذي يكشفه لون اللسان؟
  • الأفول الفرنسي في أفريقيا.. قراءة في الأسباب
  • محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق