حرب جنرالات السودان .. دولة الجنرالات «7»
تاريخ النشر: 26th, August 2023 GMT
حرب جنرالات السودان… (7)
دولة الجنرالاتمهدي رابح
” نِحنَ الجيش دا ما بِنفرِّط فيهو ولا بنخلّي زول يفتي فيهو.” مضيفاً بعد ان أشار الي مسدس مُثبّت على خاصرته ما معناه:” نعم هنالك تفاهمات سياسية تحدث هذه الأيام, لكن هنالك خطوط حمراء, أولا القوات المسلحة لن تسمح لاحد بالتدخل في شؤونها وثانيا يجب ان يحدث توافق سياسي”.
مقتطف من مخاطبة مسجلة للبرهان لدي زيارته التفقدية لمعسكر حطّاب, شمال شرقي الخرطوم في نوفمبر 2022م, مشيرا الي بوادر بداية العملية السياسية والمفاوضات مع قوي سياسية مدنية والتي أعقبت سقوط ما يزيد عن المئة من المتظاهرين المدنيين العزل وجرح الالاف في الاحتجاجات التي لم تتوقف منذ فجر انقلاب ال 25 أكتوبر 2021م.
……………………………………………………………………….
تنسب مقولة “انا الدولة” للملك لويس الرابع عشر ” الملك الشمس Le Roi Soleil” وهي بالفعل تعبّر عن جمعه في شخصه للسلطات الثلاث, التشريعية والقضائية والتنفيذية بل الأربعة اذا اضفنا اليها الدينية, بما ان سلطته كانت تنبع من ادعائه ضمنيا تفويضا من السلطة الإلهية, ووفقا لذلك وكما هو حال جل نظم الحكم الملكية القديمة تتحدد اهداف الدولة ومصالحها بما يخدم الملك, اما في الدولة الحديثة المبنية حول عقد اجتماعي يعبر عنه الدستور, فان اهداف الدولة ومصالحها تُفسّر برؤية تستصحب في جوهرها مصلحة الشعب كونه مصدر السلطات ومالك الدولة ومؤسساتها, وبالتالي تُحدّد طبيعة هذه المؤسسات كأدوات في خدمته لتحقيق مصالحه وعلى راسها بالطبع توفير سلعة الامن للجميع والتي تقع مسؤوليتها علي عاتق الجيش والقطاع الأمني والعسكري بصورة عامة, وهي حالة تشمل حتي الحكومات الشمولية الي يستند غالبها في شرعيتها علي ادعاء بتمثيل الشعب والدفاع عن مصالحه.
في الدول المؤسسية الحديثة, بالمفهوم الذي ذكرناه أعلاه, ديموقراطية كانت ام شمولية, يكون الجيش, أي جيش الدولة, هو احد مؤسساتها واذرعها وادواتها لتنفيذ سياساتها لكن الأهم من ذلك لحماية نظام الحكم القائم فيها, وتكون نخبة الجيش, أي مجموع قياداته من الموظفين الذين يتلقون تدريبا علي حساب الدولة ورواتب شهرية وحوافز من الموازنة العامة, هم المعنيون بتنفيذ سياسات الدولة التي تلي مؤسستهم, وهو ما يعني بالضرورة اتخاذ هذه المؤسسة ونخبتها موقفا سياسيا ضمنيا بخضوعها التام للسلطة السياسية القائمة ودفاعها عنها. اما في الحالة السودانية وعبر تحولات متتالية خلال سبعة عقود فقد انقلبت الآية وأصبحت وبالتدريج الدولة هي دولة نخبة الجيش من الجنرالات بحيث تفسر مصالحها ويحدد أهدافها وتستخدم مؤسساتها لخدمتهم هم وليس العكس.
في سياق الوضع الكارثي في السودان اليوم وبإعادة النظر مليا لتسلسل الاحداث يمكن ان نرجع احد اهم مسبباته الي تطور سمتين بارزتين لهذه المؤسسة, الاولي هي استقلاليتها عن الدولة وانعزالها عن المجتمع المدني والياته الرقابية, وهو ما انعكس تمترسا قويا خلف منظور ضيق لمفهوم الكرامة الوطنية والامن القومي لا يتعدي حماية امن وكرامة ومصالح نخبها من كبار الضباط في المقام الأول ثم شبكات المصالح المرتبطة بهم, وهو ما يفسّر هذا الرفض المستميت لتدخل المدنيين في شؤونها والذي عبر عنه كبار الجنرالات مرارا وتكرارا وعلي راسهم الجنرال البرهان كما يدل علي ذلك تصريحه المذكور في افتتاحية هذا المقال او حتي المواقف المعلنة من قبل بعضا من حلفائه غير العسكريين, وتأويل مطالب القوي السياسية المدنية بضرورة الإصلاح الأمني والعسكري كمؤامرة تستهدف القضاء علي المؤسسة ذاتها.
بينما الثانية, والمعبر عنها في الفقرة الأخيرة من نفس التصريح أعلاه ” وثانيا يجب ان يحدث توافق سياسي” وهي سمة تمدد العسكريين في الفضاء المدني والتدخل السافر في العمل السياسي وفرض رؤية قيادة الجيش الطامحة ابدا للحكم, وهي هنا وكما عبر عنها تصريح الجنرال البرهان محاولة للتموضع كوصي يعلو علي التباينات السياسية ويفرض توافقا شكليا علي الفاعلين السياسيين بمن فيهم بعضا من وكلائه السياسيين ليحافظ علي جبهة مدنية ضعيفة ومنقسمة تسمح بشرعنة قيادة الجنرالات للدولة تحت مبرر “حرصهم” علي حمايتها من الانهيار, وهو -أي التدخل في العمل السياسي – يعد اهم جوانب التمدد المستمر للجيش في الفضاء المدني والمرتبط عضويا بتمدد نفوذه الاقتصادي والمفروض بالقوة أيضا وبحكم الواقع, وهو ما انعكس, وعلي عكس جيوش العالم المحترفة, حضورا سافرا Visibility في المراكز المدينية وصل قمته, وربما كسابقة وكتعبير مادي متطرف عن ثنائية التمدد السياسي والاقتصادي للجيش, في تشييد مجمع ابنية اشبه بمجمع مكاتب لرئاسة شركة ربحية قابضة داخل مقر قيادته العامة في قلب عاصمة البلاد الخرطوم, حيث صمم فيه مبني قيادة القوات البحرية علي شكل سفينة والجوية علي شكل طائرة وهكذا.
ربما علي راس العوامل الذاتية/الداخلية التي اسست لهذا الوضع الكارثي, هو اقتران الخلل الأساسي اي التكثيف البالغ للسلطة والثروة في المركز كما اوضحنا بإيجاز في المقال السابق, مع قابلية هذه المؤسسة للاستغلال من قِبَل مجموعات صغيرة للسيطرة علي مفاصل الدولة, ويرجع ذلك للطبيعة المؤسسية للجيش, وفي هذا السياق يذكر زولتان باراني في ورقته المهمة القوات المسلحة وعمليات الانتقال السياسي “ان الجيش، بحكم طبيعته، لا يمكن أن يكون ديمقراطيا بسبب المؤسسية الهرمية، وثقافته الاعتبارية، وطبيعة اتخاذ القرارات وإجراءات التنفيذ من القمة إلى القاعدة”, ذلك بالطبع مقترنا بسيطرة قيادة الجيش السوداني التامة علي مفاصل هذه المؤسسة, والتي جمعت خلال 54 عاما من الحكم العسكري الشمولي قيادة السلطة السياسية أيضا, بعيدا عن الرقابة المدنية الرسمية, التنفيذية التشريعية والقضائية, او غير الرسمية كالإعلام ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية والأهلية والمطلبية.
في كتابها المنشور عام 1970 م المعنون (فوهة البندقية: السلطة السياسية في افريقيا) تعلق الكاتبة والناشطة ضد الفصل العنصري, الجنوب افريقية ب. روث فيرست علي تسليم رئيس الوزراء الراحل الاميرلاي (الجنرال) عبد خليل بك السلطة للجيش في ال 17 من نوفمبر عام 1958م :
“عبد الله خليل ركيزة تقاليد المؤسسة البريطانية في السودان والعضو الرائد في المجلس الاستشاري والجمعية التشريعية ثم البرلمان بعد ذلك، والذي تبوأ المناصب العالية في فترتي الحكم الذاتي والاستقلال، استخدم جيشا بريطاني التدريب ليهدم كل البنيان بما فيه التقليد البريطاني المتبع والقاضي بعدم تدخل العسكريين في السياسة.”
مشيرة الي خطوة عبد الله خليل المذكورة أعلاه والتفافه على الهزيمة السياسية المتوقعة داخل البرلمان بتسليم زميله في السلك العسكري الجنرال عبود مقاليد الحكم مدشناً مسيرة طويلة من تصاعد تغول المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية في السودان.
اعتُبر الجنرال إبراهيم عبود ديكتاتورا محافظا, بمعني انه لم يكن يحمل برنامجا لتغيير سياسي واجتماعي راديكالي وهو ما يفسر سلمية سقوط نظامه وقلة أعداد الشهداء خلال انتفاضة أكتوبر 1964م, تلاه, وفي خضم الاستقطاب الكبير بين المعسكرين الغربي والشرقي والانقلابات العسكرية العديدة في دول العالم الثالث, عملية تسيّيس واسعة للجيش من قبل أحزاب سياسية ابرزها عقائدية يسارية تحمل برامجا راديكاليّة، يقتضي من اجل فرضها علي المجتمع, الحصول علي القوة والقدرة اللازمة من قمة سنام السلطة وهو ما تمخض عنه انقلاب الخامس والعشرين من مايو 1969م بقيادة مجموعة الضباط الاحرار التي تجمع ضباط شيوعيين وعروبيين علي راسهم العقيد جعفر النميري, بينما شكّل انقلاب الإسلاميين علي الحكومة المنتخبة في الثلاثين من يونيو 1989م عتبة جديدة في مسيرة التسيّيس المتصاعدة حيث لعبت عمليات الأدلجة الاسلاموية الراديكالية وتصوير حرب الجنوب وكأنها حرب مقدسة ضد الكفار ثم عمليات التمكين المؤسسي وصناعة أجهزة مسلحة موازية كالدفاع الشعبي والامن الشعبي والامن الوطني وحرس الحدود (الدعم السريع لاحقا) دورا محوريا في تسييس كل القطاع الأمني والعسكري وتداخله الصريح المتزايد مع الفضاء المدني، السياسي والاقتصادي والاجتماعي, لكن في تقديرنا فان مفاصلة ديسمبر 1999م التي انقسم فيها النظام الحاكم وانقلب تلامذة الشيخ الترابي علي استاذهم هي النقطة الحرجة التي مالت فيها كفة موازين السلطة تماما لصالح الجنرالات من نخبة العسكريين علي حساب السياسيين المدنيين.
تزامن مع التمدد السياسي تمددا اقتصاديا بدأ بتكوين الجنرال النميري للمؤسسة الاقتصادية العسكرية عام 1982م والتي كانت تهدف الي تخفيف اثار الاجراءات التحريرية الاقتصادية علي الضباط وشراء ولائهم خوفا من انقلابهم المحتمل عليه, كما شكل نظام مايو أيضا نقطة البداية لخروج ميزانية القوات المسلحة عن سلطة المؤسسات المدنية الممثلة في وزارة المالية وأجهزة الرقابة المختصة المستقلة وبداية تمدد موازنتها علي حساب الخدمات الأخرى حتي وصلت الي ما يزيد عن ال 70% في السنوات الأخيرة للإنقاذ.
تضاعف تغول المنظومة الأمنية والعسكرية علي الفضاء المدني بجانبه الاقتصادي عقب انقلاب الثلاثين من يونيو 1989م, والذي أسّس لنظام كليبتوقراطي Kleptocratic بامتياز حيث دخل بجانب الجيش فاعلين جدد الي ساحة النشاط الاقتصادي, جلهم مرتبط عضويا بالنخبة الحاكمة وبحزب المؤتمر الوطني , ابرزهم علي الاطلاق الشركات والبنوك التابعة لكل من جهاز الامن الوطني ولاحقا الدعم السريع وآل دقلو. وتميزت هذه الفترة بجانب تمدد المنظومة في كل مفاصل الاقتصاد انتهاج وسائل جديدة تمزج بين القطاعين الخاص والعام وذات ارتباطات عابرة للحدود وعمليات تجاريّة (مدنية وعسكرية) بعيدة عن أي جهاز دولة رقابي كفء ومحصنة كليا من المسائلة العدلية, وهو ما ادي الي بروز طبقة اوليغاركية عسكرية وشبه عسكرية ذات نفوذ واسع وقدرات مالية هائلة.
ثورة ديسمبر 2018م السلمية, وعلى عكس تطلعات الثوار وما نادت به شعاراتهم النبيلة, اعقبتها زيادة متسارعة في تمدد المؤسسات الأمنية والعسكرية في الفضاء المدني ما اوصل السودان الي مرحلة ما اسميته في عنوان هذا المقال ب “دولة الجنرالات”, فمشاركة مجموعة من جنرالات ما سمي باللجنة الأمنية في اسقاط راس النظام وبعض قياداته العليا, فيما بدا حينها انحيازا لمطالب الجماهير, سمح لهم بمشاركة المدنيين في السلطة ظاهريا والاستمرار منفردين في السيطرة على غالب أجهزة الدولة علي أرض الواقع والسعي تلقائيا لإعادة انتاج نظام شمولي جديد.
ساعد في ذلك انهيار الرصيد الأخلاقي لنظام الإنقاذ وبالتالي اهتراء خطابه الأيديولوجي الديني الذي حافظ علي تماسكه النسبي طوال ثلاثين عاما وفتح الطريق امام استبداله بأيديولوجيا مصطنعة جديدة بديلة تنحو الي تقسيم المجتمع الي مواطنين من درجتين عسكريين ومدنيين وتعمل علي تحوير المزايدة علي الجماهير بالدين الي المزايدة بالجيش واستبدال تصنيف المعارضين والمنافسين من كفار الي عملاء ومتآمرين , لكن الأهم من ذلك كله انه وفّر غطاء ملائما لتحوّل الجيش الي حزب سياسي مسلح قائم بذاته, وبدلا من ان تعمل التنظيمات السياسية المدنية علي استغلاله للوصول الي السلطة عبر زرع عملائها داخله كما كان يحدث في الماضي اصبح الان يقوم بشراء ولاء وكلاء عنه في الصف المدني لعين الغرض.
هدف الخطاب المذكور أيضا الي توفير شرعية مفتقدة لنظام حكم شمولي جديد كان يتم الاعداد له بصورة حثيثة وممنهجة من قبل الحليفين آنذاك, الجنرال البرهان وحميدتي ومن حولهما من الجنرالات الذين انخرطوا في التنافس علي الاستحواذ علي تركة النظام السابق بوضع اليد وانتظم هذا السباق المحموم ايضا صفقات تبادلية امنية اخطرها كان تنازل قائد الجيش لقائد الدعم السريع عن سلطته القانونية في حل قوات الأخير كما عن مواقع عسكرية استراتيجية مهمة وسماحه بتمركز قواته داخل عديد المدن وعلي راسها الخرطوم, وهوما فتح الباب واسعا امام الدعم السريع ليتموضع ايضا كحزب سياسي مسلح قائم بذاته ويتطلع الي السلطة، ويتحالف ولو مرحليا مع حزب الجيش.
في المقابل كانت المحصلة الاقتصادية لهذه الصفقات سيطرة حفنة من الجنرالات وشركائهم المدنيين واسرهم ومحسوبيهم علي ما يفوق ال 35% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد وحصولهم علي قدرة متعاظمة لتمويل عمليات سياسية مختلفة أهمها شراء ولاء عديد الزعامات القبلية والدينية بهدف بناء حواضن اجتماعية داعمة.
هذه المكتسبات السياسية والاقتصادية الضخمة التي استحوذ عليها الجنرالات عقب ثورة ديسمبر لم يكن هنالك سبيل للحفاظ عليها دون السيطرة المطلقة علي الحكم وتحويل جيش الدولة الي دولة الجيش او بالاحري الي دولة جنرالاته بصورة كاملة ونهائية وهو ما تُرجم في محاولة الانقلاب الاولي يوم 3 يونيو 2019م والتي ارتكب فيها الشريكين عن سابق إصرار وترصد مجزرة اعتصام القيادة العامة سيئة الذكر ثم الثانية الناجحة هذه المرة في ال 25 من أكتوبر 2021م والتي انتجت في نهاية الامر نظام حكم فاشل ومعزول انتهي بتصاعد حدة الخلافات بين الشريكين, حزب الجيش وحزب الدعم السريع, وازدياد حدة تقاطع المصالح بين الجنرالات وداعميهم وعلي راسهم عناصر النظام السابق وصولها اخيرا الي نقطة الانفجار في ال 15 من ابريل 2023م.
…………………………………………………………………………
“ان الهيئة المسلحة, والمنضبطة بحكم جوهرها الوظيفي, تشكل خطرا علي الحرية, وتكون مدمرة للمجتمع اذا كانت غير منضبطة.”
إدموند بيرك, مفكر وسياسي بريطاني 1729- 1797
يتبع…
الوسومالجيش الدعم السريع حرب حرب الجنرالات مهدي رابحالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الجيش الدعم السريع حرب حرب الجنرالات
إقرأ أيضاً:
استقلال شعب لبناء دولة فاشلة
لا شك أننا نهني الشعب الليبي بالذكرى الثالثة السبعين للاستقلال، الرقم الأخير يجب أن يكتب بالبنط العريض، الدولة الليبية لها أرض وشعب ولكن لم تتكون منظومة المؤسسات بها خلال الثلاثة أجيال الماضية، وهو ما يثير السؤال الهام لماذا لم تستكمل الدولة ركائزها المتوجة بنظام مؤسساتي متقدم؟ رغم أن كتابة الدستور الليبي كان قبل الاستقلال نفسه، وتحت إشراف الأمم المتحدة، ومن مبعوث هولندي مخضرم هو أدريان بلت.
عودة إلى التاريخ كان ارتباط أجزاء ليبيا الثلاث ضعيفا في الفترة العثمانية والإيطالية وكان التعامل بين أجزاء الوطن عن طريق الغازي أكثر من الداخل، حتى أن مجاهدو الغرب والشرق الليبي منفصلين تماما، ولا يعلم أحدهم عن الآخر، وحتى قرار الحكومة الايطالية (القانون الاساسي وهو إعطاء جنسية لليبين) نفذ في زمنين مختلفين في الاقليمين، بل أن الجهاد نفسه لم يتبلور على أسس وطنية بل أنه دفاع عن الشرف والدين وهذا لم يساعد على تكوين تاريخ نضالي مشترك كما في تونس أو الجزائر مثلا، ولا شك أن ترابط الجنوب من الغرب الليبي إقتصاديا وإحتماعيا أكثر بكثير من التعامل مع قبائل برقة التي لها أرتباطات إقتصادية وإجتماعية مع مصر.
بعد الحرب العالمية الثانية، وسيطرة الإنجليز على الشمال الليبي، والفرنسيين على الجنوب وفشل أي اتفاق بين الفرقاء لتقسيم الأراضي الليبية بينهم، تم إسناد الأمر للأمم المتحدة التي قامت باستفتاء، وكانت النتيجة مطالبة الليبيين بالحرية والاستقلال، وهو تتويج لجهود الاحزاب في ذلك الوقت، عينت الأمم المتحدة مبعوتا لها هو أدريان بلت، لبناء مؤسسات ليبيا، بدأ هذا الرجل بزيارات للأقاليم الثلاثة لأكثر من 180 اجتماع، كان هناك أحزاب كثيرة في الغرب الليبي تطالب بنظام الجمهورية وقيام دولة واحدة، إلا أن أدريان كوسيط، إختار سبعة أشخاص من كل إقليم لإنشاء اللجنة التحضيرية، وهو ما يعرف بلجنة الواحد والعشرين وكان الهدف هو تمثيل آراء الأقاليم ومناقشة أفكارهم وإحتياجاتهم وليس التمثيل السكاني، حيث أن عدد السكان في ذلك الوقت بطرابلس الغرب 900 الف وهناك 13,000 يهودي ويوناني وإيطالي، أما برقة فيوجد بها 300 ألف نسمة وفزان 50 ألف نسمة.
حيث أن النظام القبلي في الشرق الليبي كان قويا أخذ نسق التساوي في اللجنة التحضيرية قاعدة لتشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور والتي عرفت بلجنة الـ60 أي 20 عضو لكل إقليم بعيدا عن التمثيل السكاني السابق، وكان هذا في 25 نوفمبر 1950 نتج عن هذا الإجراء تشكيل لجنة فرعية لكتابة الدستور التي أقرت شكل دولة وعلمها وبأنها ملكية وراثية مع مبايعة محمد إدريس السنوسي ملكا على ليبيا، دون أي إتفاق من الاقاليم.
أقر الدستور النظام الفيدرالي الذي يمثل قوة الأقاليم بل وتنافرها على حساب الدولة المركزية، وبه تعطلت مؤسسات الدولة بسبب تصرف الأقاليم خارج سياسات الحكومة المركزية، وخاصة في مجال النفط مما جعل الشركات الغربية تضغط على الملك والحكومة للتحول إلى نظام اتحادي مركزي، بعد انقلاب سبتمبر 1969 توقف العمل السياسي وتم حكم البلاد بأحكام عرفية لاكثر من أربعة عقود بلا دستور.
أوجدت ثورة السابع عشر من فبراير سنة 2011 أمال جديدة للبحث عن نظام ديمقراطي حديث يلبي طموحات الشعب الليبي إلا أن الاختلال المعرفي الذي حدث مع كتابة دستور 1951 خيم بظلاله على جميع الجهود الخيرة، فمثلا، في سنة 2013 تم قفل الطريق الساحلي عند الوادي الأحمر من ميليشيات قبلية في الشرق الليبي، وفرضت على المجلس الانتقالي تبني المحاصصة 20 عضو لكل إقليم من أجل كتابة الدستور دون الاعتراف بقيم المواطنة أو التواجد السكاني، بل رفض حتى التوافق على كتابة الدستور، مما جعل الامازيغ والطوارق يقاطعون لجنة الصياغة، بعد ذلك تكون ثلاث حكومات في الشرق الليبي جهوية لم يعترف بها العالم، وأغلقت حقول النفط باسم برقة، وتكبدت ليبيا خسائر تتجاوز 180 ملياردولار، نتج عنه تخفيظ سعر الدينار الليبي من 1.3 للدولار إلى أكثر من 7 دينار للدولار في الاشهر الماضية. صدر دستور 2017 ولكنه مبني على المحاصصة وعدم الاعتراف بالمكونات واستبدال المواطنة بالمحاصصة الجغرافية، الأسوأ من ذلك قانون الانتخابات الذي أوجد فيتو للاقاليم في الانتخابات ومحاصصة صارخة غير مقبولة، أي صوت واحد في الجنوب يساوي عشرين صوت في الغرب الليبي، وتسعة أصوات في الغرب لصوت واحد في الشرق.
من الواضح أن دستور 1951 قد تجاوزه الزمن في نواحي كثيرة، منها الملكية الوراثية وصلاحيات الملك، وضعف منظومة الانتخابات النيابية في ذلك الدستور، ومن ناحية تغيير المكونات، لم يعد هناك يهود وإيطاليين، ولقد حان الوقت لرد حقوق المكونات ليبيا الحالية بعدالة ومساواة.
كل ذلك يؤكد أن المشكلة الليبية المستعصية سياسيا لا تحل إلا بتغيير ثقافي عميق لمفهوم الدولة ونظامها ومؤسساتها وتبني قيم الديموقراطية وعلى راسها قيم المواطنة والحكم الرشيد، وهو يفتقده الكثير من قطاعات الشعب الليبي وساساتها الحاليين.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.