«الوطن» داخل أكبر مركز ترميم آثار في العالم.. عودة الروح لمومياوات مصر
تاريخ النشر: 26th, August 2023 GMT
مبنى زجاجي يتوسطه شكل هرمي.. يقف شامخًا كأنّه طائر أسطوري بُعث من جديد، يدهشك كلما اقتربت منه وكأنّك في سفينة محملة بكل ما طاب، تدخل من بوابته فتخالها كأنّها صنعت لعمالقة، وعن يمينك ويسارك يستقبلك ملوك وملكات ملأوا الدنيا ضجيجًا وعاشوا بفخر، فهذا تمثال رمسيس الثاني، السيد بلا منازع، يقف رافعًا رأسه ناظرًا إلى الخلود قابضًا على مكانة لا يمكن أن تهتز، وبوجه تعلوه ابتسامة كأنّه يرحب بالقادمين نحوه والعابرين جواره، وحولك تماثيل من حقب شاهدة على تاريخ ملوك ودروب حفروها؛ خلدتهم ووضعتهم على صفحة التاريخ، هنا المتحف المصري الكبير الذي يقع بالقرب من أهرمات الجيزة.
ذلك الصرح الكبير الذي بُني على مساحة 491 ألف متر مربع؛ شُيد ليكون أكبر متحف في العالم يروي قصة تاريخ الحضارة المصرية القديمة، ليستوعب 5 ملايين زائر سنويًا، مع عبور بوابته العملاقة وحينما تسير قليلًا بين ممرات حتى يأخذك الذهول إلى مبنى تعلوه لافتة «مركز ترميم الآثار»، تعبر بوابته وتجد خلية عمل منتظمة، كل شيء يعمل في صمت.. التحرك في صمت.. التعامل مع القطع في صمت.. حتى المناقشات بين فريق العمل لا تكاد تسمع لها صوت.
على مساحة شاسعة شيد مركز ترميم الآثار بالمتحف المصري الكبير، تسير في بداخله في خط مستقيم، وتتراص على جانبيه معامل الترميم المختلفة، فكل منهم مخصص لترميم نوع معين من الآثار الفرعونية القديمة، فهذا معمل الأخشاب ويتمّ بداخله ترميم التوابيت وغيرها من الآثار الخشبية، وقد شهد هذا المعمل ترميم الكثير من كنوز الملك توت عنخ آمون، ومعمل الأحجار وفيه ترمم وكل الآثار المصنوعة من الحجر، وآخر للآثار العضوية ويتولى ترميم الآثار العضوية من بينها البردي والنسيج والمواد التي تحتاج إلى تعامل دقيقة بطريقة خاصة، وغيرهم من المعامل التي المتخصصة.
19 معملاً متخصصة في مركز الترميم بالمتحف المصري الكبير، ما بين معامل أخشاب وحلي وآثار عضوية وآثار ثقيلة وغيرها من المعامل المجهزة بأحدث أجهزة الصيانة والترميم والأشعة الرقمية، تضم بين جنباتها جيشًا من المرممين المهرة نجحوا بأناملهم الذهبية في إعادة الحياة للآلاف من القطع الأثرية التي شقت طريقها بالفعل نحو قاعات العرض المتحفي للمتحف المصري الكبير، في انتظار الافتتاح المبهر للمتحف الذي ينتظره العالم كله منذ إعلان فكرته.
وسط العمل الجاد بالمتحف، التقت «الوطن»، بالدكتور حسين كمال، مدير عام مركز الترميم بالمتحف المصري الكبير، ليروي كواليس ترميم القطع الأثرية للقطع التي ستعرض جهود الجنود المجهولة المشاركين في القطع الأثرية، يقول إنَّ فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير تعود إلى سنة 1998، وكان الهدف منها أن يكون المتحف الوطني لمصر، وخاصة في ظل امتلاء المتحف في ميدان التحرير بالقطع الأثرية، فجاءت فكرة إنشاء متحف وطني للحضارة المصرية القديمة، في شكل يليق بقيمة وعظمة التاريخ المصري القديم، وكان مركز الترميم هو الخطوة الثانية في الإنشاء، وبعده تشيد المتحف نفسه، «السر في إن يكون انشاء مركز الترميم قبل المتحف نفسه، عشان المركز يشتغل على القطع الأثرية اللي هتعرض، لما يخلص المتحف نفسه تكون القطع اترممت وأصبحت جاهزة للعرض».
في عام 2010، شُيد مركز الترميم على مساحة 32 ألف متر مربع، والرغبة في إنشائه لم تكن منصبة على استقبال القطع الأثرية من المخازن والمتاحف الأخرى، وترميمها لعرضها في المتحف المصري الكبير فقط، «هدفه كمان أنه يكون مركز ترميم إقليمي للحفاظ على التراث الثقافي في منطقة الشرق الأوسط بأكملها»، لذلك تمّ تجهيز المركز بأحد المعدات والأدوات العالمية اللازمة لعمليات الترميم».
والاهتمام لم يكن على مستوى التجهيزات فقط، بل كان الاهتمام منصبًا على العناصر التي تؤدي تلك المهمة، إذ تخرج جميعهم من كليات الآثار قسم ترميم، ومنهم باحثين للماجستير والدكتوراه، كما تمّ منحهم تدريبات استمرت لسنوات مع جهات وهيئات دولية كبري لرفع كفاءتهم ومهارتهم من بينها الوكالة اليابانية للتعاون الدولي «چايكا»، وغيرها من الجهات الدولية التي لديها خبرات كبيرة في مجال ترميم الآثار، فعمل المرممين لم يقتصر على الترميم فقط بل تصل مهامهم لنقل الآثار وتثبيتها بالقاعات، وترقيم وتوثيق الآثار ومتابعة الصيانة الوقائية للقطع ومتابعة الحرارة والرطوبة لكل قطعة بعد وضعها في قاعات العرض.
عمل على قدم وساق استمر لسنوات لفريق الترميم، تمكّنوا فيه من إنجاز مهمة كبيرة بالعمل على القطع الأثرية لتصبح جاهزة للعرض في المتحف، «استطعنا إننا نرمم 57 ألف قطعة أثرية حتى الآن، من ضمنها كامل المجموعة المختارة للعرض بالمتحف».
مراحل عدة تمر بها عملية الترميم القطع الأثرية، تبدأ حتى قبل أن تصل تلك القطع إلى المتحف نفسه، فالبداية تكون قبل نقل الأثر إلى المتحف، إذ تتواجد لجنة لتقييم القطع الأثرية والقيام بعملية التغليف للحفاظ عليها وبدء عملية النقل للمتحف، «بتوصل المتحف في منطقة التجهيز، ويتمّ عمل فحص للقطع الأثرية وتوثيق الحالة اللي وصلت عليها من فريق مكون من مجموعة خاصة بالصيانة الوقائية، واللي بيحددوا أي إصابات حشرية أو مكروبيولوجية، قبل دخولها لمعامل الترميم»، ففي حالة الإصابة يتمّ إجراء حجر للقطعة الأثرية ومعالجتها بالتبخير بالنيتروجين.
3 مبادئ يعتمد عليها فريق الترميم قبل البدء في ترميم أي قطعة أثرية، الأولى: الضرورة التي تستدعي التدخل، فلابد من تحديد حالة القطعة الأثرية والأسباب التي تستدعي التدخل، وثانيًا: طريقة التدخل ويكون من خلال اختيار أفضل وسيلة يتمّ من خلالها ترميم القطعة الأثرية، وأخيرًا: ألا يغير هذا التدخل من مظهر أو طبيعة القطعة الاثرية، كي لا يفقدها أصالتها أو يغير من قيمها سواء الأثرية او التاريخية أو الفنية.
آثار عدة يحويها المتحف المصري الكبير، يحكي عنها مدير عام مركز الترميم بالمتحف المصري الكبير، من بينها «قاعة الملك توت» والتي تضم لأول مرة كل القطع التي عُثر عليها في مقبرة توت عنخ آمون، والتي تعرض لأول مرة مجتمعة منذ اكتشافها سنة 1922، إذ كانت موزعة على أماكن عدة، «الزائر سيشعر وهو في قاعة العرض أنه يكتشف المقبرة من جديد، لأنّها صممت بطريقة عرض جذابة وشيقة».
من بين القطع الأثرية المميزة التي ستعرض في المتحف أيضًا «الدرج العظيم»، وتتلخص فكرته في إعداد سلم صاعد، يقود إلى قاعات العرض بالمتحف، ويحتوي تماثيل للملوك الفراعنة في استقبال الزائرين وقطعًا من الآثار المصرية القديمة، تعبّر عن مراحل التاريخ المصري القديم، سواء مرحلة الدولة القديمة، أو الدولة الوسطى، أو الدولة الحديثة وغيرها، ويمتد الدرج العظيم لمسافة 64 مترًا، ويرتفع 24 مترًا، وعرضه 85 مترًا، في الأسفل، و17 مترًا في الأعلى، ومن القطع التي يضمها الدرج العظيم، تمثال لرأس «بسماتيك الأول»، وتمثال «الملك رمسيس الثاني» الضخم، وتمثال للملك «سنوسرت»، الدرج العظيم يتميز بموقعه المتميز، وهو أول مستقبل لزوار المتحف.
ومن بين الآثار التي ستعرض في المتحف المصري الكبير، المسلة قادمة من «صان الحجر» والتي تمّ ترميمها بأسلوب علمي حديث ، بالإضافة إلى تمثال رمسيس الثاني، هو أول ما تراه عين الزائر عند دخول المتحف هذا التمثال الضخم الفريد، التمثال منحوت من الجرانيت الوردي ويزن 83 طنًا بارتفاع نحو 12 مترًا، ويعود إلى 3200 عام.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: المتحف المصري الكبير الأثار المصرية الأثار الفرعونية الحضارة المصرية القديمة بالمتحف المصری الکبیر المتحف المصری الکبیر القطع الأثریة ترمیم الآثار مرکز الترمیم فی المتحف المتحف ا من بین
إقرأ أيضاً:
محطة المتحف الكبير .. ربط حضاري يعيد رسم خريطة الاقتصاد والسياحة في مصر
في خطوة استراتيجية تعكس رؤية مصر في الربط بين إرثها الحضاري والبنية التحتية الحديثة، تستعد الدولة لافتتاح محطة مترو "المتحف المصري الكبير"، ضمن المرحلة الأولى من الخط الرابع لمترو الأنفاق، تزامنًا مع الافتتاح الرسمي المنتظر لأضخم صرح أثري في يوليو المقبل.
هذا المشروع لا يُمثل مجرد تطور في وسائل النقل، بل نقطة تحول في ربط الثقافة بالاقتصاد والتنمية المستدامة.
حلقة وصل حضارية وسياحيةمحطة مترو المتحف المصري الكبير ليست مجرد وسيلة نقل، بل جسر حضاري يربط بين شبكة المواصلات المتطورة وأهم المعالم الأثرية في مصر. هذا الربط يسهل على ملايين الزوار، سواء من داخل مصر أو خارجها، الوصول إلى المتحف باستخدام وسائل نقل نظيفة وحديثة، مما يعكس حرص الدولة على تقديم تجربة سياحية متكاملة وآمنة.
منظور اقتصادي أعمقيرى الدكتور رمضان معن، أستاذ الاقتصاد بكلية إدارة الأعمال، أن الخط الرابع للمترو له تأثيرات اقتصادية بعيدة المدى. فهو لا يسهم فقط في تخفيف الازدحام المروري وتقليل الوقت المهدور، بل يشكل محفزًا قويًا للنمو الاقتصادي والسياحي.
من أبرز هذه التأثيرات:
تحفيز الاستثمار الأجنبي والمحلي بفضل توفير بيئة تشغيل مستقرة وموثوقة.
تعزيز القطاع السياحي من خلال تسهيل الوصول إلى المواقع الثقافية، مما يرفع من معدلات الزيارة.
خلق فرص عمل جديدة خلال مراحل الإنشاء والتشغيل.
تنشيط التجارة الداخلية والخارجية نتيجة تحسين كفاءة نقل البضائع وتقليل تكاليف الشحن.
استثمارات في المناطق المحيطةيشير الدكتور معن أيضًا إلى أن المناطق المحيطة بالمتحف المصري الكبير مرشحة لأن تصبح بؤرًا للاستثمار العقاري، الفندقي والتجاري. فوجود بنية تحتية قوية وشبكة مواصلات متطورة يجعلها جاذبة للمستثمرين، ما يسهم في دفع عجلة الاقتصاد وتعزيز السياحة الثقافية بشكل خاص.
بنية تحتية تدعم النمو المستدامشبكة الطرق الحديثة التي تتكامل مع الخط الرابع للمترو لا تدعم فقط النقل الجماعي، بل تؤسس لاقتصاد قوي من خلال دعم سلاسل الإمداد والتوزيع وزيادة كفاءة العمليات التجارية. هذه البنية هي حجر الأساس لأي مشروع تنموي مستقبلي، سواء كان صناعيًا أو خدميًا.
عندما تُلهم الحضارة التنميةالربط بين محطة مترو المتحف المصري الكبير والمشروع السياحي العملاق يعكس توجه الدولة نحو تحقيق التكامل بين التنمية الاقتصادية والهوية الثقافية. فبينما يروي المتحف قصة حضارة عظيمة، تسير عربات المترو في طريقها لبناء مستقبل اقتصادي واعد، يؤكد أن مصر تجمع بين المجد القديم والطموح الحديث في مشهد واحد.