يعيش العالم تحولات بنيوية تعيد تشكيل النظام الاقتصادي العالمي، كما يعيد تعريف محاور القوى فيه؛ الأمر الذي يجعل البحر يبرز بوصفه الساحة الجديدة التي تشير إلى القوة الجغرافية. العالم الذي اعتاد النظر إلى الموانئ، لعقود طويلة، باعتبارها أدوات لوجستية في معادلة التجارة، فإنه اليوم يرى تحولها إلى ما يمكن أن يكون عقدا استراتيجيا يربط الطاقة بالاقتصاد العالمي، وتسوية التوازنات بين الشرق والغرب.

وتعمل سلطنة عُمان، بكثير من الهدوء، على مشروع عميق لإعادة هندسة موقعها البحري، مستثمرة ما تبقى من الفجوات بين مراكز النفوذ المتزاحمة.

لم يكن منتدى القطاع البحري والموانئ والطاقة الذي بدأت أعماله في مسقط اليوم مجرد منتدى قطاعي، كان واضحا أنه يأتي في سياق التعبير الدقيق عن إدراك عُمان لطبيعة المرحلة، وفهمها أن الموقع الجغرافي لا يكفي وحده لضمان النفوذ أو الاستمرارية. فالقرب من مضيقي هرمز وباب المندب يمنح سلطنة عُمان أفضلية عبور، لكنه لا يضمن دورا محوريا إلا إذا صيغت حوله منظومة لوجستية متكاملة تستجيب للمعايير الجديدة المتمثلة في الكفاءة التشغيلية، والحياد الكربوني، وربط الطاقة بالتكنولوجيا الذكية.

ومن خلال فهم مضامين النقاشات التي شهدها اليوم الأول من المنتدى بدءا من تطوير منظومات الوقود البحري المستدام، إلى تعزيز التحول الرقمي في إدارة سلاسل الإمداد، يتضح التغير الواضح في فلسفة الاستثمار العُمانية. فلم يعد الهدف مجرد توسيع البنية الأساسية، بل الانتقال إلى تكوين بيئة لوجستية مرنة قادرة على امتصاص صدمات الأسواق، ومواكبة تحول الطلب العالمي من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة البديلة.

غير أن هذا التحول يضع عُمان أمام معادلة معقدة: كيف توازن بين طموحاتها اللوجستية ومصالح القوى الكبرى المتنافسة على النفوذ البحري في المنطقة؟ وكيف تبني منظومة طاقة مستدامة في بيئة لا تزال رهينة لتقلبات أسعار النفط والغاز، ومخاطر اضطراب حركة الشحن العالمي نتيجة النزاعات الإقليمية؟

إزاء هذه المعطيات، بلورت سلطنة عُمان استراتيجية مزدوجة المعالم؛ فهي من جهة، تعزز قدراتها المحلية عبر الاستثمارات في موانئ حديثة ومراكز إمداد للطاقة النظيفة؛ ومن جهة أخرى، تنوع شراكاتها الدولية بطريقة تحافظ على استقلال قرارها البحري والطاقي. ونجاح هذا الرهان مربوط بقدرتها على تجاوز منطق الاعتماد الأحادي على الموقع الجغرافي، والتحول إلى قوة معرفية وتقنية قادرة على صياغة الحلول بدل الاكتفاء باستقبال السفن العابرة.

من هذه الزاوية، فإن أهمية المنتدى لا تكمن فقط في استعراض الفرص، بل في كشف التحديات التي تواجه كل دولة تطمح إلى بناء حضور بحري عالمي تتمثل في تصاعد التنافس على خطوط الإمداد، والتغير السريع في تقنيات الطاقة، وتزايد الضغوط الأخلاقية والبيئية على الصناعات البحرية. بمعنى آخر، معركة المستقبل لن تكون فقط حول من يملك الميناء الأكبر أو الأسطول الأوسع، بل حول من يملك المرونة التكنولوجية والبصيرة الاستراتيجية الأبعد.

وإذا استطاعت عُمان أن تواصل الاستثمار في رأس المال البشري والابتكار التقني بالزخم ذاته الذي أظهرته مبادرات مثل مجموعة أسياد، فإنها في طريقها لتكون مركز ثقل أساسيا في معادلة الطاقة واللوجستيات العالمية خلال العقود القادمة خاصة في عالم تتراجع فيه أولوية المسافة لصالح معايير الاستدامة والابتكار التكنولوجي في رسم شبكات التجارة العالمية؛ لذلك فإن موقع سلطنة عُمان يمكن أن يتحول إلى أكثر من مركز عبور، ليغدو نقطة توازن حيوية بين شرق يتصاعد وغرب يعيد رسم استراتيجياته. والذين يدركون مبكرا أن الذكاء والمرونة تتفوقان على الجغرافيا، هم من سيرسمون خريطة البحر الجديد.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

السودان: المُسيّرات التي استهدفت عطبرة حديثة وفّرتها للمليشيا راعيتها الإقليمية

بورتسودان: السوداني/ كشفت وزارة الخارجية السودانية أنّ المُسيّرات الحديثة التي استخدمتها ميليشيا الدعم السريع أمس في هجومها على المدنيين العُـزّل في مدينة عطبرة، وفرتها لها “راعيتها الإقليمية”، مثلما زودتها بالمدفعية الثقيلة بعيدة المدى التي تقتل بها النازحين وتدمر بها المستشفيات والأسواق ومستودعات الغذاء في الفاشر وحولها.

وندّدت الخارجية بما وصفتها بـ”الجريمة الإرهابية النكراء” التي ارتكبتها ميليشيا الجنجويد أمس باستهدافها لمركز إيواء المقرن بعطبرة، وقتل 11 من النازحين، من بينهم 4 شهداء من أسرة واحدة، وكذلك قصفها محطة كهرباء عطبرة التحويلية.

وقالت الوزارة إن الميليشيا الإرهابية، لجأت لهذه الأساليب “الإرهابية الجبانة”، بعد الهزائم المتتالية التي مُنيت بها في الأشهر الأخيرة في كل مسارح العمليات. حيث ظلّت تهاجم محطات الطاقة في مختلف أنحاء البلاد، امتداداً لمخطط الإبادة الجماعية الذي تنفذه، لأن استهداف محطات الطاقة، يعني تعطيل محطات المياه والمستشفيات وكل الخدمات الأساسية.
وأضافت في بيان لها: “يأتي تصعيد الميليشيا لجرائمها ضد المدنيين، بعد أيام بعد تجديد مجلس الأمن بالأمم المتحدة مطالبته لها بوقف هجماتها على النازحين ورفع الحصار عن الفاشر، في تحدٍّ للشرعية الدولية واستخفاف باستنكار العالم بأسره لجرائمها ضد الإنسانية”.

وقالت الخارجية السودانية، إنه “ما لم يتخذ المجتمع الدولي إجراءات ملموسة لإنهاء إفلات ما أسمتها الميليشيا الإرهابية وراعيتها الإقليمية من العقاب، فإن مجرد المطالبات والإدانات لن تجدي مع هذه العصابة المتوحشة”.  

مقالات مشابهة

  • وزير الطاقة يبحث مع ممثلة برنامج الأغذية العالمي في سوريا سبل‏ ‏التعاون ‏لدعم الجهود الإنسانية
  • منتدى القطاع البحري والموانئ يؤكد على دور سلطنة عُمان كمركز إقليمي للربط اللوجستي والطاقة
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • توقيع استثمارات استراتيجية في ختام منتدى "أدفانتج عُمان".. و"الطاولة المستديرة" تستكشف فرص الاستثمار في القطاعات الحيوية
  • منتدى أدفانتج عُمان يختتم فعالياته بتوقيع اتفاقيات استثمار في الطاقة النظيفة
  • وزير الخارجية ونظيره الإيراني يستعرضان مستجدات المحادثات التي ترعاها سلطنة عمان
  • توقيع عقد استراتيجي لربط محطة سكاتك الشمسية بنجع حمادى بالشبكة القومية
  • السودان: المُسيّرات التي استهدفت عطبرة حديثة وفّرتها للمليشيا راعيتها الإقليمية
  • ما هي معاهدة نهر السند بين باكستان والهند التي أعلنت نيودلهي تعليقها