لا يُنكر عاقل أن للدعم وجهاً آخر قد يتحول من أداة حماية اجتماعية إلى عبء اقتصادي إذا أُسيء تطبيقه، لكن الفرق بين “الغباء الاقتصادي” و”الحكمة الاجتماعية” يكمن في كيفية إدارة هذا الدعم،
يعتقد البعض أن الدعم على بعض السلع هو خسارة اقتصادية، متناسيا أن كبار الدول مثل بريطانيا تدعم الصحة مثلا بقاربة 188.5 مليار باوند سنويا، وأن بعض الدول تخسر لشراء السلم المجتمعي، فليس كل خسارة هي خسارة بل أن الاقتصاد ليس أرقام فقط بل أحيانا تخسر الدولة من أجل كرامة المواطن صاحب المال.
فالاقتصاد الجزئي الذي يُنبى على الربح يختلف عن الاقتصاد الكلي للدولة، كما أن الفلسفة التي تدعو لخلق طبقتين هما عمال ورأس مال لخلق دولة صراع ديمقراطي مازلنا بعيدين عنها.
اليوم الدعم متواجد في مختلف الهويات الاقتصادية وهذه نماذج لبعض الدول التي لديها دعم: فبريطانيا ليس وحدها من الدول الكبرى التي تلجأ للدعم بل فنلندا والسويد والنرويج تدعم التعليم والصحة فهي مجانية، وكندا تدعم التعليم العالي بمنح كبيرة وفرنسا تدعم التأمين الصحي الإلزامي والإمارات والجزائر تدعم المشروعات الصغرى والمتوسطة والبرازيل تدعم الفقراء للارتقاء بحياة كريمة.
إن الجدل حول الدعم هو في الحقيقة جدل حول أولويات الحكومات ورؤيتها للمواطن.
فالدولة التي ترى شعبها مجرد أرقام في جداول الميزانيات ستسارع إلى قطع الدعم باسم “الترشيد المالي”، أما الدولة التي تعتبر الإنسان ركيزة التنفس فستسعى إلى عدم المساس بالدعم.
القضية ليست “دعم أم لا دعم”، بل “كيف نُحسن الدعم” لنصنع اقتصاداً يُحقق التوازن بين العقل والقلب.
الأهم من ذلك، أن الدعم يجب أن يكون جسراً للإصلاح، لا بديلاً عنه، وقبل كل هذا يبقى السؤال الأهم هو كيف نوزع الثروة على الناس حتى لا يضطرون للدعم.
لم يعد السؤال “هل نلغي الدعم؟”، بل “كيف نعيد اختراعه؟”، فالدعم في القرن الحادي والعشرين يجب أن يكون نظاماً ذكياً مرتبطا بالتنمية.
وفي خضم الجدل حول الدعم الحكومي للسلع الأساسية، يغفل الكثيرون عن الحكمة العميقة الكامنة وراء هذه السياسات، فالدعم ليس مجرد إنفاق عشوائي يُثقل كاهل الموازنة العامة، بل هو استثمار حقيقي في الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، عندما تتدخل الدولة لضمان أسعار معقولة للخبز أو الوقود أو الكهرباء، فإنها لا تحمي فقط الفئات الهشة من الغلاء، بل تحافظ أيضًا على تماسك المجتمع وتجنبه موجات الغضب والاضطرابات التي قد تكبد الاقتصاد خسائر أكبر بكثير من تكلفة الدعم نفسه.
خذ على سبيل المثال الدول الأوروبية التي تقدم دعماً سخياً لقطاعات مثل الصحة والتعليم، رغم تصنيفها كاقتصادات ليبرالية. وكما ذكرت بريطانيا، التي تمثل أحد أعمدة الرأسمالية العالمية، تقدم العلاج المجاني عبر “خدمة الصحة الوطنية” (NHS) لأنها تدرك أن المواطن السليم هو أساس الإنتاجية والابتكار، فهل يُعتبر هذا الدعم “هدراً” للموارد أم ضماناً لرأس المال البشري الذي تقوم عليه الثروة الحقيقية للأمم؟.
الأمر ذاته ينطبق على “الخسارة المدروسة” التي تتحملها بعض الحكومات لشراء السلم المجتمعي. ففي دول تعاني من تفاوتات طبقية حادة أو تهديدات أمنية، يصبح الدعم درعاً واقياً ضد الانفجار الاجتماعي، التاريخ يخبرنا أن ثورات الجياع كانت دائماً أكثر كلفة من سياسات الدعم، وأن الأرقام الجافة في الموازنات لا تقيس قيمة الأمن أو العدالة التي توفرها هذه البرامج.
ختاماً، فإن الحديث عن المساس بالدعم في ظل غياب الدولة مثل ليبيا يعتبر نوعا من “الغباء الاقتصادي” أو ما يمكن ان نطلق عليه (الغباء المدعوم)، ورفع الدعم أو استبداله في هذه الظروف تبسيط يفتقر إلى الرؤية الشمولية في ظل دولة لا تملك مواصلات عامة ولا طيران اقتصادي ولا سكك حديد.
كما أن تحويل الدعم إلى نقد سيزيد من حجم التضخم فكل شيء مرتبط بالوقود من الخبز إلى نقل الدواء إلى تذاكر السفر، كما أن الحكومة غير قادرة على توفير المرتبات في موعدها فلا بالك بإضافة الدعم، والمواطن لم يعد يثق في الحكومة التي وعدته بدفع نقدا للدعم على المواد الغذائية ولم يرى ذلك نهائيا.
الحل في جودة العملية الظبطية لأن مهما رفعنا السعر سيظل يهرب الوقود، فمثلا في السودان سعر اللتر يصل إلى 6 دينار ليبي مهما رفعت الدعم ستظل هنالك فرصة للتهريب.
أخيرا نقول إن الاقتصاد الناجح ليس ذلك الذي يحقق فائضاً مالياً على الورق فقط، بل الذي يضمن حياة كريمة لمواطنيه ويبني مجتمعاً متوازناً قادراً على النمو المستدام. لذلك، قبل إطلاق الأحكام، علينا أن نسأل: هل نريد اقتصاداً يخدم البشر، أم بشراً يُضحَّى بهم في سبيل اقتصاد وهمي؟.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
إقرأ أيضاً:
معتصم أقرع: اليسار والدولة مرة أخري
– منذ إنطلاق هذه الحرب اندلع جدل في دار يسار بين جماعة منه تدعو لتدمير الدولة وتيار آخر يري في هذا استعجال شديد الخطورة علي مصير الشعب. شاركت هذه الصفحة في هذا الجدال الذي لم يكن موجودا بهذه الدرجة قبل الحرب حيث كانت شعارات اليسار: ديمقراطية، مدنية، عدالة إجتماعية نسبية، والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل. ولم يكن حل الدولة أو الجيش علي طاولة الحوار العام ولا في أوساط فقهاء اليسار ولا أدري لماذا اشتعل بعد الحرب ولكن من الطبيعي لي تخميناتي.
– الداعون لهدم الدولة أحيانا يصوبون سهامهم نحو الدولة في حد ذاتها واحيانا ضد “الدولة القديمة” . لكن عليهم واجب تحديد المشكلة. فلو كانت مشكلتهم مع تدمير “الدولة القديمة” فهل يعني هذا أنهم يدعون لدولة أخري تحل محلها؟ إن كان الأمر كذلك، فعليهم تحديد القوي الإجتماعية الجاهزة لإستلام الدولة وتجديدها بما أنهم يدعون لتحطيم جهاز هنا الآن والبلاد يستبيحها الغزاة.
– يردد الداعون لهدم الدولة حجة إنها أداء قمع طبقي وسوط الطبقة المتنفذة علي حساب الآخرين. وهذا الزعم عموما صحيح ولكنه ليس كل الحقيقة. إذ أن الدولة أيضا هي التي تنسق المصلحة العامة مثل توفير الأمن وحد من التعليم والصحة والبني التحتية وإنفاذ القانون، والمعايير الصحية والمهنية وإدارة العملة وتنظيم الأسواق والتجارة وحماية الحدود وهذه متطلبات لا تقوم حياة حديثة في غيابها. ولكن حتي الآن لم يحدد الداعون لهدم الدولة هنا الآن من سيقوم بهذه المهام. من سيقوم في سودان ما بعد تدمير الدولة ببسط الامن وحماية المواطن في حياته وبدنه وماله ومن سينظم الصحة العامة ويدير المواصلات والإتصالات ومن يحمي الشعب من الغزاة الطامعين؟
– لا جدال في أن الدولة ليست أداة محايدة طبقيا في أي مكان في العالم ولكن هذا لا ينفي حوجة المجتمعات لها مرحليا، وبالذات مجتمعنا. لذلك فان الطرح عن نزاهة الدولة هو السؤال الخطأ لتحديد الموقف منها. من الممكن رفع الوعي بعيوب الدولة بهدف تجاوزها ولكن لتدمير الدولة يجب علي الداعين لذلك إقناع الراي العام بوجود بديل جاهز أحسن منها وجاهز للقيام بكل مهامها ببساطة لان إنهيار الدولة قد يدفع السودان إلي واقع أكثر تخلفا.
– النقاش حول ضرورة الدولة أو ضرورة حلها يجب أن ينطلق من الواقع الماثل أمامنا ولا يحتاج لنصوص فقهية من تاريخ يسار غربي نظر في سياق تاريخي يختلف تماما عن واقعنا الحالي. وهذا لا يعني عدم الإستفادة من الخلفيات التاريخية والفكرية والفلسفية. ولكن – كما قال الصديق عثمانتو- المرجعية الأخيرة يجب أن تكون لواقعنا الماثل هنا الآن وليس لنصوص أنتجت في أزمنة مختلفة وفضاءات جيوسياسية أشد إختلافا. لذلك فان الداعين لهدم الدولة عليهم إقناع الراي العام بوجود بديل أفضل منها وجاهز للتركيب الآن في أثناء قصف مسيرات الغزاة لحيواتنا وبنانا التحتية.
– حسب تقديري هذا البديل للدولة لا يوجد حاليا في أكثر الدول تطورا في أوروبا وأمريكا واسيا دع عنك في عرصات رجل أفريقيا المريض. لذلك فان تدمير الدولة السودانية حاليا لن يقود إلي فردوس أناركي أو شبه أناركي تزدهر فيه العدالة والحريات. تدمير الدولة السودانية يعني عمليا تصفية نهائية للسودان ككيان إجتماعي، ثقافي ولن ينعم أحد بفردوس ما بعد الدولة ولكن سينتقل جميع أهل السودان للعيش كأقنان في كنف دول إستعمارية أخري ونكون فقط قد استبدلنا دولة السودان بدول أخري أشد بطشا واكثر غربة. وفي المساحات من السودان التي تعافها الدول الإستعمارية إلي حين سيخضع المواطن لحكم عصابات لا تختلف كثيرا عن عصابات الجنجويد ولن يعيش في فردوس أناركي. لذلك فان الدعوة لتدمير الدولة والجيش الآن تعني الدعوة لتصفية السودان ككيان/ات إجتماعية مستقلة وهذا حد بعيد من كراهية الذات وكراهية السودان.
– في أدبيات اليسار لا أعلم بنصوص تدعو شعب لحل دولته وحده بينما الدول الإستعمارية والطامعة حوله تحافظ وتنمي من مقدراتها العسكرية ومن قدراتها التقنية علي إخضاع الآخرين. حل الدولة أو حل الجيوش في السياق التاريخي الصحيح يكون باتفاق دولي تقوم فيه جميع الدول في نفس الوقت بتصغير جيوشها ثم حلها في إطار تعاون دولي عميق وواسع. لذلك فان دعوة دولة لحل مؤسساتها وجيشها بينما الدول الأخري تحافظ علي هذه الأدوات هي دعوة للإنتحار وعزومة مجانية للغزاة والمغتصبين وتبرع مجاني بالوطن للأجنبى. وهذه هدية يسارية للاستعمار وهي عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
– جوان روبنسون عالمة إقتصاد بحت رفيعة بقامة كينز أو أعلي كانت في هيئة التدريس في جامعة كامبريدج. يقال أن جائزة نوبل تجاهلتها لانها كانت متهمة بالماركسية وكانت من أنصار ماو المتحمسين له. ويجادل البعض أن غياب جوان عن قائمة شرف نوبل فضيحة للجائزة. وبالنظر للتنمية المذهلة في الصين الآن، ربما كان علي لجنة نوبل أن توقظ جوان من الموت وتمنحها الجائزة مرتين.
– ينسب لجوان قولها أن من أفظع الأشياء للعامل أن يستغله صاحب عمل راسمالي ويحلب عرقه قيمة زائدة. ولكن أسوأ من ذلك ألا يجد العامل راسمالي يستغله. هكذا الدولة السودانية. فظيعة جدا ولكن النقطة الأهم هي أن غيابها أفظع. وهذه هي نقطة عمي أعداء الدولة السودانية إذ هم يرون فظاعتها ومن ثم يقفزون إلي إستنتاج متعجل بضرورة تدميرها الآن بينما المنطق يقول أن تدميرها سيقود إلي واقع أكثر جحيمية. وإلي بزوغ شمس مجتمع آخر، علي العامل أن يجد راسمالي يستغله حتي لا يجوع تحت شعارات ثورية براقة. وإلي أن تتوفر شروط الإنتقال لتنظيم إجتماعي أكثر عدالة وكفاءة الدولة بصلة نتنة في فمنا من يدعو لحلها يضع جمرة “حمراء، يسارية”، متقدة، مكانها. ولا أعتقد أن مضغ الجمر حل مناسب لمشكلة البصلة.