لجريدة عمان:
2025-04-29@20:34:36 GMT

البابا فرنسيس ورسالة طوبى لصانعي السلام

تاريخ النشر: 29th, April 2025 GMT

البابا فرنسيس أو خورخي ماريو بيرجوليو رمزيّة مسيحيّة كاثوليكيّة لكونه كان لفترة طويلة أسقفا عريقا في مذهبه الكاثوليكيّ، ثمّ أصبح حبرا أعظم (البابا) منذ 2013م وحتّى وفاته في 21 أبريل من هذا الشّهر، هذا الرّجل خرج من الأرجنتين منتميا إلى أمريكا اللاّتينيّة الّتي عانت لقرون من الاستعمار والاستبداد، وعانى حاضرها من الصّراعات السّياسيّة والفقر، فهو مدرك تماما للأنا المتمثلة في السّياسة الغربيّة عموما، والأنا السّياسيّة الأمريكيّة حاليا، وما نتج عن ذلك من حروب وصراعات منذ الحرب العالميّة الأولى وحتّى اليوم.

اختير البابا فرنسيس حبرا أعظم في فترة عصيبة تمرّ بها الكنيسة الكاثوليكيّة من جهة، وما يمرّ به العالم من صراعات سياسيّة من جهة ثانية، خصوصا في المشرق، والمشرق عموما رمزيّة لجميع الأديان في العالم، فمنه خرجت الدّيانات المقدّسة اليوم شرقا وغربا، والّتي يعتنقها غالب البشر، كما أنّ من الشّرق الأوسط خرجت الأديان الإبراهيميّة، وجميعها من مصبّ واحد، وتشترك في جوانب لاهوتيّة وطقوسيّة وتأريخيّة عديدة، وجميع هذه الأديان الثّلاثة ترى في جغرافيّة الشّرق الأوسط - خصوصا مناطق الهلال الخصيب - أنّها مرتبطة بأماكن مقدّسة لقبلتهم وحجّهم وزيارتهم، بجانب مدن وقرى ارتبط بها أنبياؤهم وقدّيسيهم.

ولا يمكن بحال فصل المسيحيّة عن الشّرق الأوسط، فهذه المنطقة مرتبطة بالمسيح والحواريين، وبالعهدين القديم والجديد، وبالأناجيل الأربعة وموعظة الجبل، وبالعشاء الأخير والصّلب والقيامة، وبكنيستي المهد والقيامة، ولا يمكن قراءة النّصوص المسيحيّة الأولى بعيدا عن هذا المكان، وقبل اعتناق قسطنطين المسيحيّة عام 313م كانت أورشليم هي الكنيسة الجامعة للجميع، يتبعها الإسكندريّة، لتكون رمزيّة مكانيّة ثانية بعد أورشليم، ثمّ تليها أنطاكيّة لتمتدّ حضارتها وحضورها من تركيا إلى فلسطين، وتظهر فيها المعارف والإبداعات السّريانيّة، هذه الكنائس الثّلاث الجامعة لم تخرج عن الشّرق الأوسط قبل مجمع خلقودنية 451م، لتنقسم الكنيسة إلى شرق وغرب، أرثذوكس وكاثوليك، يعاقبة وملكيين، لتظهر روما ممثلة عن الكاثوليك بصورة أعمق وإن كان حضورها المسيحيّ أقدم من مجمع خلقودنية، ثمّ تهاجر رمزيّة الإسكندريّة إلى القسطنطينيّة، لتبقى روما كما هي حتّى اليوم رمزا للكاثوليك، ويتوارثها حبر إثر حبر، ويرجعون تأريخهم إلى القدّيس بطرس (ت: 67م)، حيث البابا فرنسيس هو البابا رقم (266)، إلّا أنّ الإسكندريّة بقت رمزيّة روحيّة للمسيحيين عموما، والأرثذوكس خصوصا، فهي كنيسة روحيّة جامعة، إلّا أنّ المكان البابويّ الأرثذوكسيّ انتقل إلى العبّاسيّة في القاهرة، بيد أنّهم لا يعتبرون القاهرة مجمعا كنسيّا جامعا كالإسكندريّة، والّتي توارثها البابوات حبرا إثر حبر منذ مرقس الأول (ت: 68م)، ويمثلهم حاليا البابا تواضروس الثّاني، بابا الإسكندريّة وبطريرك الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة، وهو البابا رقم (118).

هذا الشّرق الأوسط اليوم، يعاني من اضطرابات سياسيّة لم تتوقف منذ الاستعمار والتّحرّر منه، إلى نكبة فلسطين 1948م، والّتي حولت (فلسطين – القدس) المكان الّذي يشمل الأماكن المقدّسة في الأديان الإبراهيميّة (جبل جرزيم وجبل صهيون وحائط المبكى والمهد والقيامة والأقصى)، وإليه كان يحجّ الجميع بكلّ اطمئنان، ويمارسون طقوسهم، ويرونه أرض الخلاص من آلامهم، وكانوا متعايشين في تأريخهم، وإن لم تخلو بعض فتراته من صراعات وحروب، بيد أنّها ترجع من جديد إلى أمنها واستقرارها، إلّا أنّ نكبة فلسطين 1948م قلبت الأوراق، فاختلطت السّياسة بالدّين، ظاهرها حروب سياسيّة، وباطنها أبعاد لاهوتيّة وتأريخيّة، فأصبح اليهوديّ المُحارب في الغرب المسيحيّ الكاثوليكيّ لقرون خلت، ولأسباب تأريخيّة ولاهوتيّة، أصبح الغرب اليوم في قسمه المسيحيّ البروتستانتيّ الإنجليكانيّ خصوصا المنبثق من الكاثوليكيّة داعما لليهوديّة الصّهيونيّة، وأصبح اليهوديّ الذي وجد في الشّرق عموما والشّرق الإسلاميّ خصوصا ملاذا له، فكان حاضرا في الحضارة الإسلاميّة والعربيّة معرفيّا وأدبيّا وسياسيّا واجتماعيّا، بقسميه من الفريسيين والقرّائيين؛ أصبح اليوم يمارس العنف في مجازر لم تتوقف منذ النّكبة وحتّى ما بعد 7 أكتوبر 2023م، وفي منطقة حمته لقرون طويلة وحفظته من الإبادة لأسباب تأريخيّة ولاهوتيّة.

هذه الاضطرابات مع السّياسات الغربيّة في جوّها الأمريكيّ، والّتي أعلنها بوش الابن أنّها حرب صليبيّة جديدة، وباسم صليب الخلاص من الخطيئة ذاتها، وعلى رأس الخطايا القتل، وقد جاء في متّى [5: 21]: «قد سمعتم أنّه قيل للقدماء: لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجب الحكم» أي الغضب، فكان حرب ودمار العراق 2003م، وما تبع ذلك من اضطرابات وحروب في المنطقة، تأثر بها المسيحيون عموما ومنهم الكاثوليك، فهم يشكلّون تنوعا في هذه المنطقة، وهم جزء أصيل من هويّتها، في العراق وبلاد الشّام وغيرها، هذا جميعه تناقض كليّا مع رسالة المسيح المخلّص: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السّلام، وبالنّاس المسرة» لوقا: [2:14]، نتج عن هذا هجرات إلى الغرب طلبا للخلاص والأمان، ولأجل حياة آمنة كريمة، فكثر اللّاجئون من المسلمين والمسيحيين، وتعدّدت وجهات نظر المجتمعات الغربيّة إليهم لأسباب عرقيّة ودينيّة ولغويّة، كأيّ مجتمعات قطريّة أخرى يكثر فيها اللّاجئون، ليصبح هؤلاء بين نارين: نار الحروب والفقر، ونار التّشريد والبحث عن هويّة تنظر إليهم بإنسانيّة ورحمة.

في هذه الأجواء كانت رسامة البابا فرنسيس، فهو إمّا أن يرضي مركزيّة السّياسات الغربيّة وعلى رأسها أمريكا اليوم، وإمّا أن يقف مع الإنسان، أيّا كان دينه ولونه وعرقه، فضلا عن معاناة الكنيسة الكاثوليكيّة في بعض الجوانب الطّقوسيّة والأخلاقيّة والماليّة، فآثر أن ينتصر للإنسان، وأن يتحمل تبعات ذلك، متنازلا عن العديد من المزايا الدّنيويّة من الأبهة والغنى والتّظاهر بالملك والرّياسة، ليقترب من الفقراء والمحرومين واللّاجئين، ويعلن تحوّلا إصلاحيّا جديدا في الكنيسة الكاثوليكيّة، وهي العودة إلى مركزيّة الإنسان المتمثلة في رسالة المسيح ذاته، فينظر إلى العالم أنّه بيت واحد للنّاس جميعا، تمثله آيات متّى ولوقا من وصايا المسيح: «وحين تدخلون البيت سلّموا عليه، فإن كان البيت مستحقا فليأت سلامكم عليه، ولكن إن لم يكن مستحقا فليرجع سلامكم إليكم».

لم يكن البابا فرنسيس رجل كلام وبيانات، فمع قصر مدّة رسامته حبرا أعظم حتّى تنيحه (وفاته) بالمفهوم القبطيّ، إلّا أنّه جسّد ذلك إلى جانب عمليّ بعد أقل من عام من رسامته، بدأ ذلك في زيارته للأردن 2014م، ثمّ القدس والأراضي المقدّسة في الأدبيات المسيحيّة، وفي 2017م زار مصر ليلتقيّ بأهم رمزيّة سنيّة في العالم الإسلاميّ أي شيخ الأزهر أحمد الطّيّب، وبثاني رمزيّة مسيحيّة عموما، وأولى الرّمزيات المسيحيّة الأرثذوكسيّة أي البابا تواضروس الثّانيّ، وفي 2019م زار المغرب تمهيدا لبعث رسالة السّلام بين الأديان عموما، وبين المسيحيّة والإسلام خصوصا، تجسّد ذلك في زيارته إلى الإمارات في ذات العام، والّتي نتج عنها «وثيقة الإخوّة الإنسانيّة من أجل السّلام العالميّ والعيش المشترك»، ووقّع عليها البابا ذاته مع شيخ الأزهر، وسبق أن أشرت إليها في إحدى المقالات، وفي عام 2021م يدخل التّأريخ بأول زيارة بابويّة إلى العراق ليلتقي بالأقليّات فيها، وفيها زار أيضا أكبر مرجعيّة شيعيّة في العالم الإسلاميّ أي السّيّد عليّ السّيستانيّ، ليختم جولته لبعث السّلام عام 2022م في زيارته للبحرين، وقد كتبت عنها في جريدة عُمان، وفي عيد الفصح الأخير، وهو عيد الآلام والعشاء الأخير، لم ينس ما يحدث في غزّة، ليكون آخر رسالة له قبل وفاته بيوم أن يعمّ السّلام في فلسطين، راجيا أن تتوقف الحرب، وأن يطلق سراح الرّهائن، ليفارق العالم وهو يحمل رسالة بولس الرسول إلى أهل روميّة «إن كان ممكنا فحسب طاقتكم سالموا جميع النّاس»، فهل من سيأتي بعده سيحمل ذات النّهج، ويتحمل آلام ذلك كما تحمل المسيح، أم سيكون رهينا لشهوات السّاسة وأنانيّتهم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: البابا فرنسیس الکاثولیکی ة الإسکندری ة المسیحی ة الغربی ة الس لام إل ا أن رمزی ة

إقرأ أيضاً:

عملات معدنية وميداليات.. ماذا يوجد داخل تابوت البابا فرنسيس؟

ودع العالم البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، عن عمر يناهز 88 عامًا، بعد معاناة مع مشاكل تنفسية استمرت لأسابيع، حيث تم غلق نعش بابا الفاتيكان، فرنسيس، مساء الجمعة، عشية الجنازة.

قبل وفاته .. عمل خيري للبابا فرنسيس | ما هو؟بناءً على رغبته.. هل صُممت ملابس خاصة بجنازة البابا فرنسيس؟حضور كبير فى جنازة بابا الفاتيكان 

وشهدت جنازة بابا الفاتيكان حضور ملوك روؤساء الدول إلى جموع المشيعين في جنازة البابا فرنسيس بمراسم يطلق عليها اسم "ختم النعش الباباوي".

250 ألفا  عدد الزوار للصلاة وإلقاء النظرة الأخيرة على نعش البابا

ونشر الموقع الرسمي للفاتيكان صورا من هذه المراسم ذاكرا بتقرير أنه بلغ عدد الزوار للصلاة وإلقاء النظرة الأخيرة على نعش البابا نحو 250 ألفا خلال الأيام الثلاثة الماضية.

ماذا يوجد داخل تابوت بابا الفاتيكان ؟

وذكر التقرير أن "رئيس الأساقفة دييغو رافيلي فرش قطعة قماش حريرية بيضاء على وجه البابا، بينما رشّ الكاردينال كاميرلينغو فاريل فرانسيس الماء المقدس، ثم وُضع كيس يحتوي على عملات معدنية وميداليات سُكّت خلال حبريته في التابوت مع البابا".

وتابع: "وُضع الغطاء على التابوت الزنكي، إلى جانب صليب فرنسيس وشعاره، ولوحة تحمل اسم البابا ومدة حياته وخدمته البطرسية، بينما رُتلت صلوات، ثم تم ختم التابوت الزنكي بأختام الكاردينال كاميرلينغو وولاية البيت البابوي ومكتب الاحتفالات الليتورجية ومجمع الفاتيكان".

رحيل بابوي في زمن تحول

جاءت وفاة البابا فرنسيس في وقت دقيق تمرّ فيه الكنيسة الكاثوليكية بتحويلات دينية واجتماعية متسارعة.

وقد عُرف البابا برؤيته الإصلاحية وحرصه على التواصل مع المهمشين، وسط تحديات سياسية داخل الكنيسة وخارجها، ما جعله شخصية محورية في مرحلة معقدة من التاريخ الحديث للبابوية.

وصية بابا الفاتيكان

في الوصية التي نشرها الفاتيكان، طلب البابا أن يُوارى الثرى داخل بازيليك القديسة مريم الكبرى في روما، أحد أعرق المزارات المريمية، حيث كان يعتاد الصلاة قبل وبعد كل زيارة رسولية.

وأوصى البابا فرانسيس بأن يكون قبره في الجناح الجانبي للكنيسة، بين كابيلا "Salus Populi Romani" وكابيلا "Sforza"، دون أي مظاهر زخرفية، وأن يُكتفى بكتابة اسمه "فرنسيس" على شاهد القبر.

رعاية مريمية ومسيرة كهنوتية متجذرة بالإيمان

أكد البابا في وصيته على علاقته العميقة بالعذراء مريم، التي عهد إليها حياته وخدمته الكهنوتية والأسقفية، قائلاً: "أرغب أن تُختتم رحلتي الأرضية الأخيرة في هذا المزار المريمي العريق... لأوكل بثقة نواياي إلى الأم الطاهرة، وأشكرها على رعايتها الوالدية".

طباعة شارك تابوت بابا الفاتيكان تابوت البابا فرنسيس وفاة بابا الفاتيكان البابا فرنسيس تابوت

مقالات مشابهة

  • في فيديو لم ينشر سابقا... البابا فرنسيس للشباب "تعلموا الإصغاء"
  • الآلاف يزورون قبر البابا فرنسيس بعد يوم من دفنه
  • توافد الحشود إلى كنيسة سانتا ماريا ماجوري لزيارة قبر البابا فرنسيس
  • ما الذي نعرفه عن عائلة البابا فرنسيس؟ ومن حضر تشييعه منهم؟
  • بعد وفاة فرنسيس.. كيف بتم انتخاب بابا الفاتيكان رأس الكنسية الكاثوليكية؟
  • توافد الآلاف على ضريح البابا فرنسيس غداة دفنه
  • هذه وصيّة البابا فرنسيس للبنان
  • لماذا طلب الفاتيكان من الحضور عدم التقاط صور سيلفي مع نعش البابا فرنسيس؟
  • عملات معدنية وميداليات.. ماذا يوجد داخل تابوت البابا فرنسيس؟