في فجر يومٍ قاتمٍ من أبريل 2025، اجتاحت جرافات قوات الاحتلال بلدة نعلين، شمال غرب رام الله، مصحوبة بآليات ثقيلة تستنفر قلبَ كل زاوية. كان الدكتور رائد سرور وأخيه نائل يقفان أمام منزليهما المشيدين بتعب السنين، ينظر إلى جدرانهما اللاتي ارتوت بذكريات العمر، عندما سمعت أخاه نائل صراخَ تنبيه الهدم.

لم تكن صرخة تضجّ بحمايةٍ من الموت؛ بل تحذر من تدمير المأوى.

ارتعدت أركان المنزل تحت وطأة المطرقة الميكانيكية، وتهاوى الجدار الشمالي لمنزل رائد خاضعًا لقانون القوة، التي زلزلت بيت نائل، وسوته بالأرض.

رائد، الذي قضى الليل يحلم بطفله الصغير يركض في باحة المنزل، وجد نفسه أمام سحابة من الغبار تنبعث من تعبّد حاضره وهموم مستقبله. قال بصوتٍ مبحوح: «كل حجرٍ كان يعنيني. سقط الحجر وسقط أملنا». وفي ركنٍ بعيد، تسللت دمعة صامتة على وجنة نائل، فاتحًا نافذة الماضي التي سكنت بين صدى الضحكات وصدى الأحلام.

حجارة الهدم تصيب القلب

نهال شكري، زوجة رائد التي وقفت يوم الهدم أمام الباب تتحدى الأيادي الغليظة، تسرد بحسرة: «حسبي الله ونعم الوكيل. شو بدي أقول؟ مقدرش أقول أي شيء! مقدرش أقول: دارنا وانهدت. ولادنا بقوا في الشارع». وتنهش الكلمات قلبها قبل أن تتوقف، والطرقات الحديدية تغلّق باب الأمس في وجه أهله.

صوت الانهيار تردد في قلب البلدة، كنبضٍ يمتدّ عبر حيِّ نعلين الصاعد غارقًا في الصمود. «سنتين بنسمع في أخبار غزة وتعبانين نفسيًا، فيجي علينا لسه أشياء ثانية أكبر. والله صعبة. والله كأن الحجارة كانت بتنزل في قلبي» هكذا نظرت نهال حيث رحل الأمان، وظلت السماء تراقب أهل نعلين.

وفي المساء ذاته، حل الظلام على أطلال المنزلين، فاختزل البيت قصصه في أطلالٍ وصدى. جلست نهال على ركام ما تبقى، واضعةً وسادة طفلها الملونة على رأسها، وعقدت العزم أن تنام على باب الدار المهدم، تجربةً ما عاشه أطفال غزة.

قالت بعزمٍ مشتعل: «أنا الليلة بدي أنام على باب الدار، ولا ممكن أسيب هاي المنطقة. أنام هنا. أجرب زي ما ناموا. أنام في العراء زيهم».

هجمات وتجريد وإرهاب يومي

المنطقة (ج) في الضفة الغربية تحددها اتفاقيات أوسلو لتخضع للسيطرة المدنية والإدارية الإسرائيلية الكاملة، مما يجعلها ساحة مفتوحة لسياسات الاحتلال في اقتلاع الفلسطينيين. امتدت في هذه البقاع خريطةُ هدمٍ وتجريفٍ وحرقٍ، لتعكس صراعًا يستهدف قلب الوجود. تتراكب في هذه القرى حقول الزيتون على أطلال الأمل، بينما تواصل الجرافات رسم معالم الاستيطان الجديد.

الاحتلال لا يكتفي بهدم المنازل، بل يتجاوز ذلك ليمتدّ إلى تجريف الأراضي وحرمان المزارعين من موسم الزيتون. ففي قرى نعلين، وسنجل، ودير جرير، قُطع الربيع قبل أوانه، وظلّت الأيادي الفلسطينية معلقة بين حجر وسنبلة، تراقب الحروق تحت أشعة الشمس. الماءُ الملوّث والريحُ العاتية باتت من تبعات التوسع الاستيطاني، يقف الفلسطيني أمام جذوره بلا دفاع

لا تقل اعتداءات المستوطنين تحت غطاء الحماية عن وحشية الجيوش النظامية، فهم يأتون في الليل ليلتهموا أجزاء من حياة الأهالي، يركضون بين بيوت القرية ويشعلون العزب حرقًا. يختزل هذا الإرهاب اليومي معاناةً مستمرة فارضةً واقعًا مريرًا على السكان، من أطفالٍ وأمهاتٍ وكبار في السن.

تفحم عزب (سنجل) بنيران الاستيطان

في ليلةٍ سوداءٍ بضوء القمر الخافت، اجتاح مستوطنون بلدة سنجل شرق رام الله. أحرقوا عزبًا ومنازل تعود لأهالي المزرعة الشرقية، تاركين وراءهم دخانًا أسود يتصاعد في السماء، كقصة تنتهي قبل أوانها.

قال أحد السكان الذين فوجئوا باحتراق منزل، في غيبة أهله، على يد فرقة من المستوطنين، وقد ارتجت كلماته بين غضب وحسرة: «جاءوا فجأةً، أحرقوا البيت وكل أغراضه بداخلها؛ لم نكن هنا لنواجههم، كل شيء في المنزل تفحم». لم تكن تلك الكلمات مجرد سرد لمشهد مروع، بل صرخة حارقة تعكس حرمان أهل البلدة من ملاذِهم الآمن.

وروى شابٌ من العائلة المجاورة كيف تسلل نحو الموقع فور سماع دوي الحرائق، فتفاجأ بعشرين مستوطنًا يحرقون المكان دون اكتراثٍ لصرخات الجيران.

يقول الشاب علاء اشتية، ووجهه يحمل آثار الدخان: «لو كنا موجودين لما وصلوا إلى البيت، لكنهم أحرقوه بسرعةٍ فائقة حتى قبل أن يتسنى لنا الوصول». وحملت صرخته تساؤلاً عن غياب أي ردّ فعلي من قوات الاحتلال التي صمتت أمام اعتداءٍ بلغ حدّ التجزئة المنهجي للحياة الفلسطينية.

رجل مسن كانت يقف على بعد أمتار، اختلج صمته عند سؤاله عن دور المجتمع الدولي. أشار بيده نحو الأفق وقالت بصوتٍ متهدج: «هذا اضطهادٌ للشعب الفلسطيني... نُلاحق في أرضنا، في دورنا، في بيوتنا وأحلامنا. إلى متى نظلُ بلا حماية؟ أين الصوت الذي يدافع عن حقوقنا؟». كانت نظراته مليئة بمرارةٍ تشي بأن سنواتٍ من الانتظار لم تحمل سوى مزيدٍ من الصمت.

تجريف قوت الناس في دير جرير

مع بزوغ شمس اليوم التالي، خرجت جرافة الاحتلال من مخابئها لتجرف هدوء قرية دير جرير الواقع شرق رام الله. وقف المزارع محمود أبو زيد على بقايا أرضه المقلوبة، والأكوام الترابية تعلو حيث كانت تثمر أشجار الزيتون.

يقول بصوتٍ متهدجٍ وقد ارتعش له لسانه: «رأيتُ الجرافة تلتهم أرضي بشراهة، كأنها تريد أن تمحو هويتي قبل جذوري. حين حاولت الصراخ لأوقفها، وجدتُ نفسي وحيدًا أمام آلة لا تعرف الرحمة».

لم يكتفِ المستوطنون بإغلاق المدخل الرئيسي للقرية؛ بل انتقلوا إلى قلع الأراضي الواقعة غرب جبل تل العاصور، حيث زرع أجداد الأهالي زيتونهم قبل عقود.

تذكر أيمن علوي، رئيس المجلس القروي لدير جرير، كيف احتشد المستعمرون بصمتٍ غريبٍ، ثم أنزلوا الجرافة وسط الطريق الرابط بين سلواد والدير.

ويوضح علوي متألمًا: «لاحقوا الحياة هنا بخبث؛ أغلقوا المدخل وأحكموا الحصار على السكان، ثم شرعوا في تجريف الأراضي حتى لا يبقى للفلسطيني مكان يعود إليه».

تركت عمليات التجريف آثارًا عميقة على الأهالي، إذ فوجئوا بأطنان من التربة تحاصر بساتينهم بلا إنذارٍ مسبق. تقول فاطمة غنيمات، التي كانت تملك قطعة أرض صغيرة لتأمين قوت أسرتها: «عندما جئت لأجدّ الماشية، رأيت الأرض مشتعلةً بالتربة، وكأنهم يريدون أن يدفنوا حاضرنا. لم أكن أتخيل أن يتجرؤ أحد على انتزاع لقمة العيش من يدي».

وبينما استمرت الآليات في حفر الأرض، توافد سكان دير جرير لمراقبة قلب مزارعهم، يحملون فوق أكفهم لهيب غضبٍ يرفض الخضوع. تردد صدى أصواتهم بين أكوام الأتربة: «لن نترك أرضنا. ستبقى شجرة الزيتون رمز صمودنا».

وفي الأفق بدا أن الحبر الملطخ على خريطة القرية قد تغير مسار الأحياء، ولكن عزيمة الأهالي تبقى ثابتة، تنبئ بأن زمام الأرض لم يزل في قبضة ساكنيها الأصليين.

مخطط (ج): الفلسطينيون أقلية

تُظهر البيانات الصادرة عن مركز الميزان الفلسطيني لحقوق الإنسان في تقريره الصادر بتاريخ 15 مارس 2025 أن محافظة رام الله والبيرة قد شهدت خلال الفترة من 1 مارس 2024 حتى 28 فبراير 2025 هدمًا لـ 350 منشأة سكنية وتجارية، وتعريض أكثر من 500 دونم للحرائق والتجريف برعاية قوات الاحتلال والمستوطنين.. إذ تهدف خطة التوسع الاستيطاني إلى ربط مستوطنات كتلة رام الله–البيرة ببؤر جديدة، تمتد من شمال سنجل حتى جبال البيرة الجنوبية، لتفصل شمال الضفة عن وسطها.

يستهدف مشروعُ «الطوق الاستيطاني» المحيط برام الله إقامة بلوك استيطاني ضخم يضم أكثر من 20 بؤرة استيطانية جديدة، ويستوطنها ما يزيد على 15 ألف مستوطن خلال السنوات الخمس المقبلة. ويؤكد محللون فلسطينيون وإسرائيليون أن الهدف هو تقليل الكثافة السكانية الفلسطينية في هذه المنطقة لتصبح أقلية في ديارها، مع قطع خطوط الاتصال المثلى بينها وبين باقي محافظات الضفة الغربية.

الاحتلال يصدر قرارات وضع يد على مساحات شاسعة، إذ تم اعتماد خطة ضمّ 30 دونمًا في شمال سنجل كمرحلة أولى، وفتح مناقصات لإنشاء طرق التوصيل للمستوطنات الجديدة، إلى جانب مخطط لربط بؤرة «موشاف هار جيلو» بمستوطنة «بيت إيل» عبر شبكة طرق معزولة، لتسهيل حركة المستوطنين وتأمينها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: رام الله

إقرأ أيضاً:

بأكثر من نصف مليار ريال.. أمير منطقة تبوك يطلع على المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة

المناطق_تبوك

اطلع صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن سلطان بن عبد العزيز أمير منطقة تبوك، بحضور صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سعود بن عبدالله بن فيصل بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة تبوك، على عدد من المشاريع البلدية والإسكانية التي تنفذها وزارة البلديات والإسكان بالمنطقة، وتنوعت ما بين مشاريع البُنى التحتية، وسفلتة الطرق، وتطوير الميادين، وأنسنة المدن، وتصريف مياه الأمطار، ودرء أخطار السيول، إضافةً إلى مشاريع إسكانية، واستثمارية، وبيئية، وبُنى تحتية مستقبلية تقدر تكلفتها الإجمالية بـ 4.335 مليار ريال.

جاء ذلك خلال لقاء سموه مساء أمس بالقصر الحكومي، المواطنين ورؤساء المحاكم والقضاة ومشايخ القبائل ومديري الإدارات الحكومية بالمنطقة، حيث بدأ اللقاء بتلاوة آيات من الذكر الحكيم، ثم استُعرضت أبرز المشاريع البلدية والإسكانية والاستثمارية والخدمية، والتي قدَّم أمين منطقة تبوك، المهندس حسام بن موفق اليوسف، عنها عرضاً موجزاً عبر الشاشات المرئية أمام سموه والحضور، تضمّنت أكثر من 43 مشروعاً يجري تنفيذ البعض منها وترسية الأخرى، بقيمة إجمالية تصل لـ674 مليون ريال، في مجالات متعددة شملت النقل العام بالحافلات، وسفلتة مخططات المنح، وتطوير الطرق الرئيسية بالمنطقة، إضافة إلى رفع كفاءة الطرق بإنشاء جسرين على تقاطع طريق الملك فيصل مع طريق الأمير فهد بن سلطان (دوار صحاري) وتقاطع طريق الأمير محمد بن سلمان مع طريق الملك فهد، وأنسنة المنطقة من خلال تطوير ساحات عدد من الجوامع، وتنفيذ شبكات تصريف مياه الأمطار، والتي ستساهم في معالجة 32 نقطة تجمع صغيرة و3 أخرى كبيرة، ليصل مجموع ما تم معالجته من نقاط التجمع الكبيرة لـ 20 نقطة من أصل 24، وتنفيذ مشاريع لدرء أخطار السيول، ومشاريع مستقبلية تتجاوز تكلفتها التقديرية مليارين وستمائة مليون ريال.

أخبار قد تهمك أمير منطقة تبوك يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة ما تحقق من إنجازات في مسيرة رؤية المملكة 2030 في عامها التاسع 25 أبريل 2025 - 6:08 مساءً برعاية أمير منطقة تبوك.. انطلاق فعاليات المؤتمر الدولي الرابع للحوسبة وتقنية المعلومات بجامعة تبوك 13 أبريل 2025 - 5:54 مساءً

وفي جانب الاستثمارات، استعرض المهندس اليوسف المشاريع الاستثمارية الجاري تنفيذها، والتي تجاوز عددها 48 مشروعاً بتكلفة إنشاء تقديرية تتخطى المليار ومائتي مليون ريال، تشمل قطاعات طبية وتعليمية ورياضية وترفيهية ولوجستية، بما يلبي احتياجات السكان والزوار، ويفتح آفاقاً جديدة لفرص العمل المباشرة وغير المباشرة، ومن بين هذه المشاريع: مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بسعة 200 سرير و100 عيادة طبية، ومركز ألفا الطبي الذي يضم أربع عيادات متخصصة وصيدلية وشققاً فندقية (90 غرفة)، ومركز رؤية الطبي الذي يحتوي على 18 قسماً ومركز غسيل كلى مجاني، إضافة إلى مشروع فندق المريديان الذي يضم 150 غرفة وجناحاً فندقياً، ومركزاً لإيواء أكثر من ألفي معدة ثقيلة لضمان عدم تعطّلها داخل الأحياء السكنية.

وفي الشأن البيئي، تناول العرض مشروع المردم البيئي الجديد، الذي يمثل نقلة نوعية في إدارة النفايات بالمنطقة، حيث تم إنشاؤه بأكثر من 35 مليون ريال شرق مدينة تبوك، وبعكس اتجاه الرياح، وبمعدات أوروبية حديثة تضمن معالجة النفايات الصلبة بطريقة علمية متطورة، ويتضمن المشروع محطة طاقة استيعابية تصل إلى 80 طناً في الساعة، وخلايا هندسية عازلة لمنع تسرب العصارات، إلى جانب منظومة متكاملة لفرز النفايات وإعادة تدوير المواد القابلة للاستفادة، وتحويل المخلفات العضوية مستقبلاً إلى طاقة بديلة وسماد عضوي.

كما اطلع سموه والحضور على مجسم لواجهة فالي تبوك والتي تقع على مساحة إجمالية تقدر بـ 778 ألف متر مربع تتضمن 874 وحدة سكنية و4 مساجد وجوامع و5 حدائق ومنتزهات وعدد 5 مراكز تجارية ومجمعات تعليمية تحتوي على 5 مدارس.

وفي ختام اللقاء، ثمّن سمو أمير منطقة تبوك جهود أمانة تبوك في تنفيذ هذه المشاريع الحيوية، مؤكداً أهمية استكمالها بما يسهم في تعزيز التنمية المستدامة وتحسين جودة الحياة، وتحقيق تطلعات سكان منطقة تبوك ضمن مستهدفات رؤية المملكة 2030.

وقال سموه في تصريح صحفي: “بأن هذه المشاريع ولله الحمد مشاريع مبشرة بالخير وتصب في خدمة المواطن والمواطنة، وتوفر الخدمات اللازمة لهم”.

منوهاً سموه بما توليه القيادة الحكيمة -أيدها الله- من اهتمام وعناية بكل ما يخدم الوطن والمواطن من المشروعات التنموية، وتسهم في رفع مستوى جودة الحياة، وتعزز النقلة الحضارية الكبيرة التي تعيشها المنطقة.

داعياً سموه المستثمرين ورجال الأعمال للاستفادة من الفرص الاستثمارية الواعدة التي تطرحها أمانة المنطقة والبلديات التابعة لها بالمحافظات.

مقالات مشابهة

  • بالصور.. شيري عادل تخطف قلوب متابعيها من أمام البحر
  • كانت معدّة للتهريب.. شاهدوا كميات البنزين الكبيرة التي تم ضبطها في عكار (صورة)
  • بأكثر من نصف مليار ريال.. أمير تبوك يطّلع على المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة
  • بأكثر من نصف مليار ريال.. أمير منطقة تبوك يطلع على المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة
  • بأكثر من نصف مليار ريال.. أمير منطقة تبوك يطلع على المشاريع التي تُنفّذها أمانة المنطقة
  • إيده كانت هتتقطع.. قرار من النيابة بشأن التعدي على شاب في الهرم
  • القاهرة الإخبارية: غارة الاحتلال على منطقة «الحدث اللبنانية» كانت مباغتة
  • اعترفت بحيلة كانت تلجأ إليها أمام الكاميرا.. نجلاء بدر تقول إنها استعادت شكلها بعد عمليات شد عميق
  • ضبط حدث يقود جرافة في الشارع العام