المدينة الآثمة بوصفها سردية العار المؤسس: الوليد مادبو وتفكيك الجنسانية السلطوية
تاريخ النشر: 29th, April 2025 GMT
(( المدينة الآثمة: "حديث الجنسانية" للدكتور الوليد مادبو نص يتجاوز التنظير إلى مساءلة الذات السودانية من خلال تشريح علاقتها بالجنسانية والجسد والسلطة )).
ليست هذه المدينة التي يصفها الوليد مادبو مكانًا بعينه، بل وعيًا مكسورًا يمشي على قدمين. مدينة لا تُبنى من حجارة، بل من وجوه، من نفاقات صغيرة، من خيانات ناعمة، من تلك الجُمل التي نتلفّظ بها ونحن نُخفي رغبتنا ونبتسم، من اللغة نفسها وقد صارت خادمة للسلطة وأداة للتبرير.
في هذا النص المدهش، لا يكتب مادبو عن الجنسانية كما يُكتب عنها عادة، بوصفها تيمة بيولوجية أو مجازًا اجتماعيًا، بل بوصفها العقدة العصبية التي تتقاطع فيها السياسة، والدين، واللغة، والتاريخ، والطبقة. كتابه أشبه بتشريحٍ حارٍّ لجسدٍ مصلوب في قلب مدينة بلا قلب. جسد لم يُمنح أن يتكلّم، بل أن يُقال عنه، أن يُقرأ من أعلى، أن يُفسَّر دائمًا بغير لسانه، وأن يُطوى داخل أخلاق ملفّقة ليست سوى تجميل للهيمنة، وإعادة إنتاج للسيطرة.
في فضاء مثل الفضاء السوداني، حيث الجنسانية تُختزل في “الحياء”، ويُدار الجسد كملف أمني، ويُحوَّل الجمال إلى إثبات إدانة، فإن الكتابة عن الجنس ليست تجرؤًا، بل مساءلة للبنية الأخلاقية نفسها. مادبو لا ينطلق من فضيحة، بل من سؤال: من الذي يحق له أن يعرّي من؟ من يملك تعريف الحياء؟ من يصوغ اللغة التي نعبّر بها عن رغبتنا؟ ولماذا تكون الفحولة، حين ترتدي بزّة العسكر أو جبّة الإمام، محلّ احترام، بينما الحنان يُعدّ هشاشة؟ لماذا الفجور المنظَّم هو ما تمنحه المدينة شرعيتها، بينما الحب المتلعثم هو ما تسخر منه؟
هنا، تستدعي أطروحة مادبو استبصار بيير بورديو في “العنف الرمزي”، حيث تتحول أدوات التعبير إلى أدوات للهيمنة، وتُعاد صياغة الرغبة ضمن شروط السلطة. الجسد لا يُمنَع فقط، بل يُعلَّب. لا يُراقب فحسب، بل يُحتَقر.
لا يُخنق فحسب، بل يُختزَل. ولذلك، فإن اغتصاب النساء والأطفال – الذي يناقشه النص بشجاعة وصرامة – ليس انحرافًا فرديًا، بل ذروة نظامية لانهيار الرمز، وانكشاف الكبت كأداة سلطوية تُمارس بوَجهَيْن: الطهارة المدّعاة في العلن، والتوحش المؤسسي في الظل.
لكن ما يستدعي وقفة أطول في نص مادبو هو اشتغاله على اللغة ذاتها، لا بوصفها حاملًا للمعنى، بل بوصفها بُنيةً تشريحيةً للجسد الاجتماعي. هنا، لا يكون النص تفكيكًا لما هو مفعول به في الواقع فحسب، بل أيضًا لما هو مفروض علينا في المعجم. إذ لا يمكن للجنسانية أن تتحرّر ما دامت مفرداتها تُصاغ من داخل مخيلة القامع، ولا للجسد أن يسترد حقه في اللذة ما دام يُكتب بلغة العار.
في هذا السياق، يبرز استخدام لفظ “النياكة” بوصفه مركزًا دلاليًا يُلخّص كيف تتحوّل اللغة نفسها إلى أداة من أدوات الإخضاع.
لا يتحدث مادبو عن هذه المفردة بوصفها فعلًا جنسيًا، بل كمفردة ثقافية، كنظام لغوي متكامل يُعيد تشكيل الجسد ضمن علاقات الخضوع. وحين يستعمل هذا اللفظ، لا يفعل ذلك بهدف الإثارة أو الصدمة، بل ليكشف المسافة الفاجعة بين لغة الرغبة ولغة السيطرة، بين الجسد كحاجة بشرية، والجسد كأداة استعراض سلطوي.
يشير مادبو صراحة إلى أن هذا اللفظ كان ينتمي إلى بنية تعبيرية مشروعة، لكنها أُفرغت من معناها الديني، وصارت تُستخدم لاحقًا للتصنيف والازدراء، كما في قوله: “منيكة ساكت”. وهذا ما يستدعي قراءة سيميائية للنص، لأن اللغة هنا ليست وعاءً بريئًا، بل طرفًا أصيلًا في الجريمة.
إنها اللغة نفسها التي، حين تقول “شرف”، تُخفي اغتصابًا؛ وحين تقول “عفّة”، تُبرّر قتلًا؛ وحين تقول “رجل”، لا تعني نضجًا بل سطوة.
هكذا يتحوّل المعجم من أداة تواصل إلى سلاح تأديب، وتتحول الكلمات من علامات إلى قيود، من رموز للحياة إلى نصوص للعقاب.
المدينة الآثمة، إذن، ليست التي “يحدث فيها الفساد”، بل التي تمنح للفساد لغته النبيلة، وتسميه “مروءة”، وتُنتج خطابًا مخصيًّا، ثم تسميه دينًا. ولذلك، فإن السؤال الجوهري الذي يسكن النص هو سؤال العدالة الرمزية: كيف يمكن أن نعيد للغة بريقها، للأنوثة معناها، وللرغبة لغتها، في مجتمع يجلد الجسد بتواطؤ من النصوص، والشعائر، والميكرفونات؟
أحد أقوى مواضع الكتاب، حين يصف مادبو اغتصاب الأطفال بوصفه “مرآة المدينة” لا استثناءً منها. إنها لحظة سقوط جماعي. لحظة تتكشّف فيها البنية كاملة: الأب الذي لا يُصغي، الأم التي لا تجرؤ، الجار الذي يصمت، الخطيب الذي يحرّض، الدولة التي تبرّر، والصحف التي تهمس.
إنها لحظة تواطؤ لا يمكن تبريره، وهنا يُستدعى تحليل من علم النفس التحليلي الجمعي، حيث يتحول المجتمع إلى “أنا كليّة خائفة” تهرب من اعترافها، وتختبئ خلف قيم مصطنعة. يشبه الأمر ما أشار إليه إريك فروم عن “الشخصية السادية” التي تتلذذ بالسيطرة حين تعجز عن الحب.
ولا يمكن فصل ذلك، كما يرى مادبو، عن سقوط المشروع السياسي ذاته، لا لأن السياسة فشلت في منع الجريمة، بل لأنها أُعيدت صياغتها بوصفها تكنولوجيا للفحولة، حيث السلاح لا يُستخدم لحماية المدينة، بل لإخضاعها. الإنقاذ لم تكن مجرد نظام سلطوي، بل نظام لغوي أيضًا، نظام أعاد تعريف الشرف والخوف والمواطنة والفضيلة، حتى صرنا نُصدّق أن الجمال خطر، وأن المرأة فتنة، وأن العناق خيانة، وأن الجسد عورة، وأن القُبح فضيلة!
وحين يتحدث الكاتب عن زيارته للجنوب، فإن اللغة تهدأ فجأة، وكأن النص يتحول من سِفر الاحتجاج إلى نشيد اعتراف.
يعترف: لقد خذلنا الجنوب. ليس لأننا لم نحافظ على وحدته فحسب، بل لأننا صدّرنا إليه وهم الطهر، بينما كنا نغتصب ذواتنا في الخفاء. الجنوب، في هذا المقام، ليس إقليمًا، بل مرآة. مرآة كنا نخاف أن ننظر فيها لأننا سنرى ملامح الوحش الذي صنعناه، وسنسمع صراخ الأنوثة وهي تُسحق تحت عمامة الفقيه، وفوهة البندقية.
وفي لحظة نادرة من الحفر، يربط مادبو بين انهيار الزواج كمؤسسة، وبين تدمير القدرة على الحميمية. ليس لأن العلاقات انتهت، بل لأن الثقة ماتت. لأن المدينة، حين تتحول إلى مراقب، تقتل الحميمية، وحين تُحاكم اللمسة، تزرع فينا الخوف من أن نُحب. ويكتب: “ما عاد بالإمكان القبول بمحاولات الإصلاح التلفيقية”، وكأن كل محاولة للتجميل ليست سوى تجديد لقناع الجريمة، وأن أول خطوة نحو النجاة هي الاعتراف بأن الجسد لا يُصلح من فوق، بل يُحرّر من الداخل، من المعنى، من الرغبة.
في قلب هذا النص، يتبدّى أن الجنسانية ليست مجرد مسألة رغبة أو تابو اجتماعي، بل هي البنية العميقة التي يعيد النظام من خلالها إنتاج نفسه، وتوزيع الخوف، وتمويه الخضوع.
لقد أدرك الوليد مادبو أن الجسد ليس ساحة هامشية في خطاب السلطة، بل هو المسرح الأساسي للعقيدة السلطوية. تمامًا كما ذهب إتين دو لا بويسيه حين قال إن الطغيان لا يحتاج إلى القمع وحده، بل إلى الخنوع المُستبطن. والمدينة الآثمة ليست سوى التعبير المكثّف عن هذا الخنوع وقد صار سياسة، وصار أخلاقًا، وصار ديكورًا يوميًا للحياة.
لماذا لم يُسمّها “المدينة الساقطة”؟ ولماذا اختار “الآثمة”؟ الكلمة نفسها محمّلة برنين لاهوتي، تحيل إلى الخطيئة، إلى الذنب، إلى لعنة مؤسسة. وكأن مادبو يريدنا أن نعيد تأويل نصنا الأخلاقي الجمعي من جديد: أن نعيد تسمية ما نظنه فضيلة، ونُدقق في ما نظنه إثمًا. ليس الآثم من يرغب، بل من يكبت ويقتل. ليس من يُحب هو المجرم، بل من يجرّم الحب ويُشيد حوله أسوار الحذر. في هذه التسمية يكمن البُعد الما-ورائي للنص، حيث المدينة ليست “مدينة دنيوية” فحسب، بل كيان لاهوتي فاسد، كما تصوّرها أدورنو حين قال: “حيث تغيب الرحمة، تبدأ السياسة”.
والرحمة هنا ليست شعورًا فرديًا، بل هي نظام حياة. ولأن الرحمة لا تُمارَس، فإن الجميلات، في هذا النص، لسن مجرد نساء. هن استعارة مكثفة لمفهوم الجمال حين يتحول إلى عبء. الجمال، في المدينة الآثمة، ليس امتيازًا، بل خطر دائم، يُراقَب، يُشتم، يُزدرى، ويُقمع. يكتب مادبو: “الجميلات هن الجميلات”، جملة تتكرر بشكل شبه جنائزي، وكأنها نشيد لجنازة علنية لحق الجمال في أن يُرى دون أن يُنتهك، وفي أن يُعاش دون أن يُحتقر.
في المجتمعات التي تنتج ذكورة مخصيّة، حيث يُربّى الذكر على الخوف من الحنان، والخجل من الاعتذار، والتباهي بالعنف، تصبح الجميلة هي العدو، لأنها تذكّر هذا الذكر بعجزه، وتمنحه مرآة لا يريد أن ينظر فيها. وهكذا، لا يعود الجمال إغواءً للذات، بل فضحًا لخللها، ومصدرًا لاحتقار الذات المُستلبة، كما عند بول ريكور حين يتحدث عن “الشر الذي لا يُغتفر”: أن تكره من يُظهر لك هشاشتك.
ولعل أكثر ما يُحسب لهذا النص، أنه لا يُحمّل الذكر وحده مسؤولية الخراب، بل يرى أن المنظومة بأكملها ـ من المدرسة إلى المسجد، من الأم إلى الخطيب، من القانون إلى الحي الشعبي ـ قد اشتركت في إنتاج هذا العنف المقنّع. الكل، بدرجات متفاوتة، شارك في تربية الذكر بوصفه مشروع اغتصاب محتمل، والأنثى بوصفها مشروع لوم جماعي. ولهذا لا يتردد مادبو في أن يقول: “لقد ساهم أكثرنا بالأنانية والتجاهل والجبن في تشييدها”؛ المدينة، أي مدينة، لا تُبنى فقط بالحجارة، بل بما نمرره من سكوت، وبما نباركه من لغة، وبما نتغافل عنه من فجور مقنّع.
وهنا يجب أن نستعيد البعد الطبقي للنص. فالمتحرش ليس فقط منتجًا فرديًا لاختلال جنسي، بل ابن نظام طبقي يُشعره يوميًا بوضاعته، وبلا جدواه، وبأن المدينة ليست له. وحين لا يستطيع أن يملك المدينة، يملك الجسد. وحين يُقصى من السلطة، يبحث عن ضحية. هذه ليست سردية لتبرير العنف، بل لتفكيكه. وكما يقول إرنست بلوخ: “حين لا يجد الإنسان معنى، يبدأ في تعذيب مَن حوله”. والسوداني المقموع، كما يصفه مادبو، لا يعذّب فقط، بل يعيد إنتاج العذاب تحت اسم الشرف.
ووسط كل هذا الظلام، لا ينعدم الأمل، بل يتخذ شكلاً مراوغًا. الأمل، في هذا الكتاب، ليس شعارًا، بل فعل مقاومة رمزية، تبدأ من استعادة اللغة، ومن استعادة الحق في الكلام عن الرغبة دون أن نُشعر بالذنب. يبدأ الأمل من الاعتراف، لا من الخطابة. من الحنان، لا من الطهرانية الزائفة. من القدرة على أن نقول إن الجسد ليس مؤامرة، وإن الحب ليس خيانة، وإن الحياء لا يُبنى بالجهل، بل بالمعرفة العميقة بالنفس.
وربما يكون أكثر ما يمكن أن يُقال عن هذا النص، أنه يكتب من نقطة في القلب ليست محايدة. فمادبو لا يُحلل فقط، بل يُحاكم. لا بوصفه قاضيًا أخلاقيًا، بل بوصفه واحدًا من الذين ساروا في شوارع هذه المدينة، سمعوا أنينها، وشاركوا – بدرجة ما – في صمتها، ثم اختاروا أن يتكلموا. أن يضعوا الكلام في مواجهة الخوف، وأن يقولوا إن الجنسانية ليست عيبًا، بل العيب أن نعيش عمرنا نرتجف كلما نطقت الرغبة فينا.
في لحظة ما، وأنت تقرأ المدينة الآثمة، تدرك أن الجنوب، ذلك الذي أفرد له مادبو فصلًا شفيفًا، لا يتكلم. الجنوب يُحكى عنه، يُروى بوصفه مكانًا للحظة استبصار، أو كمرآة تعكس تشوهنا في المركز، لكنه لا يظهر كذات. وهذا ليس سهوًا شكليًا، بل فجوة رمزية، تستحق أن تُقرأ في ضوء تحليل الخطاب. إذ لماذا لا نتخيل الجنوب ناطقًا؟ لماذا نظل نضعه في خانة المتلقي الأبدي للخذلان؟ أليس في هذا التوزيع الصامت للتمثيل، ما يعكس استمرارًا خفيًا لمركزية لغوية تتنكّر لما تدّعي تجاوزه؟
قد يكون هذا الغياب، هو أكثر ما يجعل من نص مادبو نصًا صادقًا: لأنه لا يتجمّل. لا يدّعي العدالة المطلقة، بل يترك في سرده فجوات يمكن أن تدخل منها الأسئلة. وهذا ما يجعلنا نتساءل: ماذا لو كتب هذا النص بجسد جنوبي؟ هل كانت المدينة ستكون آثمة بذات الطريقة؟ هل كان الشرف سيتجلّى كخطاب مخصي بنفس التركيب؟ هذه الأسئلة لا تنقض النص، بل تُتمّه. لأنها تُظهر أن ما لم يُكتب، لا يقل أهمية عن ما كُتب. الصمت ليس فراغًا، بل جزء من المعمار الرمزي.
وعليه، فإن الرهان الأكبر لهذا النص هو على إمكانية الاعتراف. ليس الاعتراف الجنسي، بل الاعتراف بالانحراف البنيوي في فهمنا للذات. حين يتحول الاعتراف من فعل فردي إلى ممارسة جماعية، يصبح الجسد ليس فقط موضوعًا للرغبة أو العار، بل موضوعًا للعدالة. العدالة بوصفها استردادًا للغة. فالذي يُحرم من التعبير عن رغبته، يُحرم من اسمه. ومن هنا نفهم كيف أن المدينة الآثمة لا تقتل بالجسد، بل بالصمت.
ما يطرحه مادبو ليس مشروع إصلاح سلوكي، ولا دعوة لمزيد من التنوير المدرسي. إنما هو دعوة لتغيير جذري في الخيال الاجتماعي. الخيال الذي يشكّل تصوراتنا عن الأنثى، عن اللذة، عن الحياء، عن الحب، عن الذكر، عن الغواية. هذا الخيال – كما يرى كورنيليوس كاستورياديس – لا يتغير بالمواعظ، بل بالثورات الرمزية، بتغيير اللغة، وتكسير الصور، وإعادة رسم المتخيَّل العام. والمدينة لا تُشفى بإصلاح البنية التحتية، بل بإعادة صياغة المعنى الذي نحيا به.
وربما هنا، في هذه النقطة تحديدًا، يصبح لهذا النص ضرورة. لأنه لا يقول لنا فقط أن المدينة آثمة، بل يضعنا، نحن القراء، موضع التورط. نحن لسنا خارج النص. نحن لا نقرأه من علٍ. بل نحن أحد أشكال هذه المدينة. صمتنا جزء منها، حذرنا، تهذيبنا المصنوع، سكوتنا حين يُذكر الجنس، تلك الابتسامة المتواطئة حين تمر امرأة جميلة في شارع مليء بالذكور، تلك الغمزات، تلك النكات، ذلك العجز عن قول “أنا أحتاج” دون أن نخاف من أن نُجرَّم.
لذلك، فإن هذا النص لا يطلب إعجابك، بل يُحرّضك على الخوف من نفسك. لا يطلب التصفيق، بل يجعلك تسأل: هل أنا أحد هؤلاء الذين بنوا هذه المدينة؟ هل كنت فاعلًا أم متفرجًا؟ هل أُحب دون أن أُسيء؟ هل أُرغب دون أن أمتلك؟ هل أستطيع أن أرى جسد الآخر دون أن أختزله؟ هل أملك الشجاعة لأقول إنني أريد، دون أن أُستدعى إلى محكمة الأخلاق؟
وأنت تخرج من هذا النص، لا تحمل حلاً. بل تحمل مرآة. لكن هذه المرآة لا تعكس ملامحك فقط، بل تعكس المدينة بكاملها، وأنت فيها. هذا ليس كتابًا يُقرأ، بل يُنصت إليه كوشوشة آخر الليل، حيث تعود رغباتك القديمة لتقول لك: لم تكن آثمًا حين أحببت. الآثمة كانت المدينة.
هذه المدينة الآثمة لا تحتاج إلى إسقاطٍ جديد، بل إلى اسم جديد للبوح المُحرّر من الوصاية.
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الولید مادبو هذه المدینة أن المدینة هذا النص دون أن أ فی هذا
إقرأ أيضاً:
تحولات العلاقة بين المؤلف والنص
قبل ظهور الذكاء الاصطناعي كانت عملية تأليف النصوص تسير وفقا لقواعد راسخة منذ زمن بعيد، ترى في أن أي نص لابد أن يُنسب لمؤلفه حتى ولو كان هذا النص مقدسا، واستقرت علاقة المؤلف بالنص قائمة على حقه الكامل في ملكيته الفكرية. ولقد اتخذت النصوص أشكالا متعددة في خصائصها اللغوية والأسلوبية وبنيتها الفكرية وتنوعت مجالاتها في الصحافة والأدب والعلم والتوثيق، ومع ذلك فإن هذا التعدد والتنوع كان دليلا على أهمية البعد الإنساني الأصيل في عملية التأليف وتفرد المؤلفين البشر في إنتاجهم للنص وأحقيتهم في ملكيته الفكرية.
ومنذ أن تحولت المعرفة الشفهية إلى الكتابة النصية بدأت رحلة تاريخية طويلة من التفاعل بين الإنسان (المؤلف الذي يحتكر القدرة على التفكير) والتكنولوجيا (ممثلة في أدوات الكتابة والنسخ والمعالجة النصية)، وعلى مدى تاريخ التأليف كانت المعرفة نتاجا للخبرة الإنسانية والتفاعل والقصد الإنساني في المعرفة. وكان للتطورات التكنولوجية أيضا أثر كبير على كفاءة عملية التأليف وفاعليتها في التأثير على المجتمع. وأقصد بالتكنولوجيا، هنا المعنى الأنثروبولوجي المتمثل في تلك الأدوات التي ابتكرها الإنسان لتمكينه من السيطرة على حياته بدءا من القلم وصناعة الورق واختراع الآلة الكاتبة مرورا بالتحول الرقمي نحو ابتكار الحاسوب وبرامجه في المعالجة النصية وصولا إلى ابتكار تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطويرها لنماذج لغوية توليدية.
وبقدر ما واجه المؤلفون عبر هذه الرحلة الطويلة تحديات كبيرة، توفرت لديهم أيضا فرص مهمة أثمرت في تعزيز قدراتهم على التأليف والانتشار وتأكيد حقوقهم القانونية في ملكية النص باعتباره منتجا إنسانيا خالصا. ورغم تعقيدات وتحديات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مؤخراً فسوف يظل البعد الإنساني حاضرا بقوة في بناء المعرفة الآن وفي المستقبل، ويكفي القول: إن كل ما تفعله تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطوير نماذج لغوية بارعة في محاكاة التفكير البشري يعتمد بصفة أساسية على كفاء التطبيقات التكنولوجية الجديدة في استخدام الكم الهائل من المعارف الإنسانية التي أنتجها وشارك في تداولها البشر.
وهذا يعني أن جوهر العلاقة بين المؤلف والنص خلال عملية التأليف تقوم على بعدين أساسيين هما: الجهد الإنساني في احتكاره للتفكير والعمليات العقلية من ناحية. واستخدام التكنولوجيا الداعمة للجهد الإنساني من ناحية أخرى. وخلال المراحل السابقة على ظهور الذكاء الاصطناعي ظلت العلاقة بين البعد الإنساني والتكنولوجيا قائمة على أساس الحفاظ على مناطق النفوذ لكلا الطرفين، بحيث يحتكر الإنسان الجانب المعرفي في التأليف، مقابل احتكار التكنولوجيا للأدوات المادية في تيسير العمل الإبداعي والحد من المشقة الجسدية في عملية التأليف والتمكين من الدقة والسرعة والشمول.
غير أن التطور اللافت الآن مع ظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي يكشف عن حدوث تداخل كبير وعميق بين دور الإنسان ودور التكنولوجيا، أو بالأحرى هجوم تكنولوجي كاسح على مواطن قوة الإنسان وتفرده بالعمليات العقلية، حيث بدأت هذه التطبيقات في التوغل بقوة داخل صلب عملية التأليف بمحاكاة النماذج اللغوية التوليدية للعمليات العقلية التي كانت حكرا على المؤلف (الإنسان) وكانت دليلا دامغا على قدرته في تأليف نص دقيق ومؤشرا قويا أيضا على جدارته بحقه في الملكية الفكرية للنص. الآن بإمكان الذكاء الاصطناعي توليد نص متماسك ووثيق الصلة بالسياق ويحاكي الخصائص اللغوية والأسلوبية السائدة في مجالات الكتابة المختلفة، وتستطيع التطبيقات أيضا تأليف آلي لقصيدة واستكمال نص روائي بنفس معايير نبرة الأسلوب الأدبي، وتأليف تقرير صحفي وفقا لقواعد العمل الإعلامي الرصين، وإعداد تقرير علمي مزود بتحليلات جيدة للأدبيات تتوافق مع المعايير الأكاديمية في أسلوب الكتابة العلمية، وهذا يؤدي إلى طمس الحدود الصارمة بين البعد الإنساني والتكنولوجيا في كتابة النص، واختفاء الحدود بين النص المُنْتَج من خلال مؤلف إنسان والنص الآلي المتولد بفعل النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي. وهنا تثار أسئلة جوهرية حول صلب تحولات العلاقة بين المؤلف والنص من قبيل: من المؤلف في النص الآلي؟ وماذا عن حقوق الملكية الفكرية؟ وأين تكمن الأصالة في هذا النص؟ وما الذي يشكل هُويته وأصالته؟ ولكي نستطيع فهم التحولات الجديدة في العلاقة بين المؤلف والنص وتداعياتها على هُوية النص الآلي، يتعين في البداية أن نستعرض طبيعة العلاقة بين المؤلف الإنسان والنص وتطورها في مراحل ما قبل الذكاء الاصطناعي:
تطور علاقة المؤلف بالنص
في البدء كانت المعرفة، وكان السبيل إليها تفاعل البشر وتجاربهم الإنسانية في الحياة اليومية، وتداول هذه المعرفة بطريقة شفهية، وكذلك انتقالها وتعلمها عبر الأجيال بطريقة شفهية أيضا. ويمكن النظر إلى تلك المعارف المتداولة شفهيا مجازاً بأنها نصوص شفهية أيضا، وفي هذه المرحلة المبكرة من التطور البشري قبل عصر الكتابة، كانت المعرفة كامنة في الذاكرة الجمعية لدى كُل جماعة إنسانية، حيث تنشأ المعرفة وتتبدل ويعاد إنتاجها بموجب التفاعل التواصلي بين الناس وعبر الأداء اللغوي (ممثلا في الأقوال والأمثال الشفهية، وإلقاء الشعر، والغناء، والابتهال... الخ)، كما أن عمليات تأليف هذه النصوص الشفهية ظلت إنسانية بامتياز وقائمة على تفاعل حر وطوعي بين البشر في أطر جماعية محددة، غير أن تداول هذه النصوص شفهيا يجعلها متنوعة ومتغيرة من جماعة لأخرى ومن مكان لآخر ومن فترة زمنية لأخرى بموجب التفاعل الإنساني المشترك في الحذف والإضافة. ورغم أهمية دور الفرد في الإبداع، فإن عمليات التداول الشفهي تجعل تأليف النص الشفهي عملية جماعية موزعة وقاسما مشتركا بين كافة أعضاء الجماعة التي تحتفظ بالنص في ذاكرتها الجمعية.
ورغم أهمية دور الراوي أو الشاعر الشعبي الفرد في تعديل النص الشفهي وتكييفه مع الجمهور أثناء عمليات الأداء، فإن سلطة الجماعة في الثقافة الشفهية تظل مصدر اليقين النهائي في تحديد معنى النص الشفهي وملكيته وحمايته من الزوال.
ومع ظهور الكتابة بدأت أولى مراحل التفاعل المعقد بين الجهد الإنساني والأدوات التكنولوجية في إنتاج المعرفة وتداولها، واستمر هذا التفاعل على مدى تاريخ الجنس البشري حتى اليوم. كانت نقطة البداية مع ظهور الكتابة اليدوية بفعل وجود نُخبة مثقفة لديها رغبة جامحة لتداول المعرفة داخل دوائر نُخبوية محددة سواء داخل مجتمع واحد أو عبر عدة مجتمعات تجمعها قومية واحدة. وقد ساهم هذا التحول في وجود نص مدون منسوب لمؤلف محدد يكتسب مصداقيته من المكانة الرمزية لهذا المؤلف في نظر النُخبة وعامة القراء على السواء. ومن ثم أصبحت علاقة المؤلف بالنص المكتوب وثيقة وشخصية وتنطوي على حقوق واضحة في الملكية الفكرية يصعب تجاوزها.
كانت شروط الكتابة اليدوية الجيدة مرهونة بثلاثة عوامل إنسانية وتكنولوجية متداخلة وهي: كاتب لديه قدرات معرفية وقادر على التدوين بحرفية بالغة في الدقة والجهد وحسن الخط، وأدوات تكنولوجية معينة كالقلم أو الريشة المزودة بأحبار، ولوحات من النباتات أو الأخشاب أو الجلود ثم الورق. في هذه المرحلة كان المؤلف هو نفسه من يتولى الكتابة مباشرة بيده، ومن ثم كانت عملية الكتابة يتخللها تفاعل مباشر وعضوي بين التفكير الإنساني والعواطف والمشاعر من ناحية، وأدوات الكتابة ذاتها من ناحية أخرى، حيث كان المؤلف يُفكر فيما يكتب لحظة الكتابة ذاتها، وقد ظل هذا الإحساس قائما إلى وقت قريب لدى تجارب كثير من المؤلفين كبار السن الذين يقترن التفكير لديهم بمجرد الإمساك بالقلم ومحاولة التعبير عن أفكارهم على الورق، وكُلما نَجح المؤلف في كتابة نص محكم بيده يشعر براحة نفسية وسعادة غامرة كأن النص امتداد جسدي وفكري ونفسي له، وكثيرا ما تؤثر هذه العادات على التعلق بالجوانب التكنولوجية كالأقلام والأوراق باعتبارها من لوازم ومتطلبات الكتابة الحميمة والمضنية في الوقت ذاته.
ولدواعي تداول النص كان يتم اللجوء إلى أشخاص يعملون كناسخين لنصوص كُتُب قابلة للتداول، وكانت وظيفة «الناسخ» أو «الكاتب» تقتضي مؤهلات تعليم أولية وإجادة للقراءة والكتابة والخط الجيد للعمل به، وتنحصر مهمته في التدوين فقط بصورة منفصلة عن المؤلف. ورغم ما قدمته التطورات التكنولوجية من دور بارز في دعم المؤلف عبر صناعة الأقلام والأحبار والورق لتعزيز النص، فإن فعل الكتابة اليدوية الغارق في الجهد البشري كان مضنيا وصعبا ونادرا بفعل ندرة المهارات لشغل وظيفة «الكاتب»، كما أن الكتابة اليدوية كانت تستغرق وقتا أطول ويتخللها تصحيحات كثيرة تستنزف كثيرا من الجهد والوقت. ومع ذلك فإن هذا الاستغراق الإنساني في فعل الكتابة اليدوية لدى المؤلفين كان يُضفي عليها حرارة إنسانية وملامح أُسلوبية أصيلة وثيقة الصلة برؤية المؤلفين وقاموسهم اللغوي، وهذا يعزز من أصالة النص ويعطي المؤلفين الحق الكامل في ملكيته الفكرية.
وفي القرن الخامس عشر حدث تحول جديد في علاقة المؤلف بالنص بفعل اختراع المطبعة علي يد يوهان جوتنبرج Johannes Gutenberg (1398 م - 1468 م) بحيث انفصلت عملية تأليف النص عن عملية تداوله، وأصبحت مهمة المؤلف تقديم مخطوط قابل للتداول، وتتولى المطبعة مراجعته وإعداده للطباعة بنسخ كثيرة يُمكن أن تصل إلى جمهور كبير من القراء، هذا التطور التكنولوجي أحدث ثورة كبيرة في عالم النشر ومكّْن المؤلفين من اكتساب الشهرة وتداول أفكارهم على نطاق واسع في إطار صناعة منفصلة تماما عن عمليات التأليف، وساهم أيضا في تعزيز أصالة النص بمقتضى نوعين من الحقوق القانونية: حق المؤلف بموجب الملكية الفكرية للنص، والحق المادي في النشر بموجب الطباعة والتوزيع. ورغم ذلك قُوبل ظهور تكنولوجيا الطباعة في البداية بكثير من الشك والريبة خوفا على أصالة النصوص واحتمالات التلاعب بها، حدث ذلك في كثير من البلدان وحتي داخل أوروبا ذاتها وأبرز المخاوف كانت الخشية من انقراض مهن الكتبة والخطاطين وإعداد المخطوطات والخوف على زوال جماليات فن تصميم المخطوطات وتراجع فن الخط، والخوف من الطباعة لأسباب رقابية تتعلق باحتمالات استغلالها في التضليل المعلوماتي والتحريف والتلاعب بالنصوص لإثارة الفتن، ومن المثير أيضا أن رجال الدين في العالم العربي افتوا بتحريم المطبعة ليس فقط خوفا على تحريف الكتب الدينية بل أيضا بالادعاء أن الكتب المطبوعة يمكن أن تقلل من همم الطلاب وعدم حفظهم للعلم ونسيانه.
ظلت عملية كتابة النص الأصلي بيد المؤلف قائمة لأكثر من أربعة عقود في ظل الطباعة باعتبار أن النص الأصلي المكتوب يدويا يُُمثل أساس الملكية الفكرية للمؤلف. وتغير هذا الوضع مع ظهور الكتابة الآلية في أواخر القرن التاسع عشر، عندما تم اختراع الآلة الكاتبة. وبذلك أصبح هناك نوعان منفصلان من الكتابة: الأولى كتابة يدوية للنص كمسودة أولية بيد المؤلف، والثانية كتابة آلية للنص موحدة الملامح نقلا عن مخطوط المؤلف باستخدام الآلة الكاتبة، ويتم إعداد نص الآلة الكاتبة بالاستعانة بآخرين من المحترفين على استخدامها. وهذه النسخة الأخيرة يمكن دفعها للطباعة على نطاق واسع، وساعد هذا التطور التكنولوجي على سرعة الكتابة الآلية الموحدة القابلة للطباعة مع تراجع الكتابة اليدوية التي باتت تنحصر في إطار العملية الفكرية التي يقوم بها المؤلف عند القيام بإعداد النص الأصلي فقط.
مع ظهور الحواسب الآلية الشخصية وبرامج معالجة النصوص في أواخر القرن العشرين حدث تحول آخر نحو ما يسمى بالكتابة الرقمية، حيث مكن هذا التطور التكنولوجي المؤلفين من القيام بالكتابة بأنفسهم باستخدام الحواسب الآلية الشخصية وإمكانية نقل الملفات وتعديل النص بالحذف والإضافة والتنسيق بسهولة وسرعة فائقة. بالإضافة إلى إمكانية نَسخ عدة نُسخ بسهولة وسرعة كبيرة بما يتطابق تماما مع النص الأصلي. وبمرور الوقت بدأ الاعتماد المباشر على نُسخة واحدة يكتُبها المؤلف بِنفسه مُستخدما الحاسب الآلي، وبذلك تراجعت الكتابة اليدوية تماما وحلت محلها الكتابة الرقمية الموحدة باستخدام لوحة المفاتيح على الحاسبات الشخصية. لم يعد هناك نسخة أصلية ثابتة بخط يد المؤلف، بل عِدة نُسخ رقمية قابلة للتحرير والتعديل باستمرار وبسهولة من جانب المؤلف. ويمثل ذلك تطورا كبيرا في العلاقة التفاعلية بين الإنسان (المؤلف) والآلة (الحاسب الآلي) عند كتابة النص، وبقدر ما أدى ذلك إلى مزيد من سهولة تعامل المؤلف مع النص وتحكمه فيه، ساهم أيضا في تحديات تتعلق بإثبات صحة النسخة الأصلية من النص بسبب كثرة التعديلات ما قد يؤثر سلبا على أصالة النص وصعوبة إثبات حقوق الملكية الفكرية للمؤلف.
وهكذا يتضح لنا أن البعد الإنساني ظل حاضرا بقوة عبر كافة مراحل تطور عملية التأليف منذ الكتابة اليدوية مرورا بالكتابة الآلية والمطبعية ثم الكتابة الرقمية، وكانت التحولات التكنولوجية السابقة تُشكل تحديا كبيرا لاحتكار الجسد لفعل كتابة النص (باليد)، بالإضافة إلى ما وفرته من فرص لتعزيز وتدعيم عمليات التأليف في بعدها الإنساني، بحيث طُرحت بدائل جديدة لإتمام كتابة النص بمساعدة الآلة وصولا إلى التخلي عن الكتابة باليد. وقد ساعد ذلك المؤلفين على التحكم أكثر في عملية التأليف براحة ويُسر مع الحفاظ على أصالة النص وانتسابه للمؤلف بموجب حقوق واضحة في الملكية الفكرية. وبظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي انقلبت هذه المعادلة رأسا على عقب وتغيرت معها تماما قواعد اللعبة في العلاقة التقليدية بين المؤلف والنص.
الذكاء الاصطناعي وإعادة رسم
حدود العلاقة بين المؤلف والنص
ثمة تطورات حديثة وغير ومسبوقة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي تهتم بتوليد النصوص من خلال ما يُعرف بالنماذج اللغوية الهائلة Large Language Models، وهي مُصممة للتدخل في مراحل عملية الكتابة عبر معالجة اللغة وصياغة المقالات المطولة في مختلف أنواع النصوص، وبذلك أتاح ظهور الذكاء الاصطناعي في مجالات الكتابة فرصاً كثيرة مهمة أمام الكٌتاب في كافة أنواع الكتابة وبصورة غير مسبوقة أهمها: الاطلاع على البيانات الضخمة والإفادة بها في إثراء الكتابة والتحقق الفوري من المعلومات بشأن الأحداث الجارية بكفاءة بما يفيد الصحفيين من الكتابة بكفاءة وسرعة فائقة. وكذلك إلهام الأدباء بموضوعات جديرة بالسرد القصصي، وإتاحة فرص تجريب أساليب جديدة في الكتابة الأدبية، والإلمام بأبعاد ومعارف دقيقة وشاملة حول الشخصيات والأحداث والأماكن الأساسية في أثناء عمليات السرد الروائي، إضافة إلى سرعة الاطلاع على الأدبيات عند الكتابة الأكاديمية وتلخيص نتائجها بسرعة ودقة فائقة، وتوسيع نطاق المصادر والمراجع اللازمة للنص الأكاديمي، وكذلك مساعدة القائمين على الكتابة التوثيقية على توظيف إمكانيات الرقمنة والفهرسة لنصوصهم بدقة، وسهولة الكشف عن المواد الأرشيفية بشكل أسرع وإمكانية الحصول على الدعم في مجال تحليل النصوص الوثائقية بصورة جيدة.
غير أن التحديات الناتجة عن استخدام النماذج اللغوية الضخمة تكمن فيما تتمتع به من خصائص معرفية جديدة، حيث ساهمت بتعزيز وتطوير الكتابة من خلال الإمداد بالمعلومات والأفكار وتحسين الصياغة والأسلوب اللغوي والقيام بعمليات تنطوي على قدرات عقلية معقدة كالتلخيص والإسهاب والتصنيف والتحليل والمقارنات، إضافة إلى إمكانيات تنظيم بنية النص وتوثيق المراجع والمصادر، والتدقيق اللغوي والنحوي والترجمة وغير ذلك من العمليات المعرفية التي كانت حكرا على المؤلف (الإنسان). وإذا كانت التحولات التكنولوجية السابقة عَزَّزِت ودعّمت الجسد الإنساني بالبراعة اليدوية في فن الخط والكفاءة الميكانيكية في الكتابة والتحرير الآلي وتقنيات الطباعة وتداول النصوص، وقدرات التحرير المرنة في معالجة النصوص عبر الحواسب الآلية الشخصية، فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تقوم بعمليات معرفية تفوق ما كان يحدث من قبل بكفاءة وشمول وسرعة فائقة، وتتوغل بقوة أكبر في محاكاة التفكير الإنساني لإنتاج نصوص شبيهة بالنصوص التي يُنتجها المؤلف الإنسان. وهذا يشكل تحديا كبيرا للقدرات العقلية في آخر وأهم معاقل نفوذ الدور الإنساني في إنتاج النص.
وقد ترتب على توليد النصوص بالذكاء الاصطناعي تحولات جوهرية في عملية التأليف ذاتها بحيث انتقلت من كونها عملية فردية قائمة على قدرات ومهارات المؤلف (الإنسان) إلى كونها أصبحت عملية تشاركية بين المؤلف (الإنسان)، والتكنولوجيا الحديثة (الآلة) ممثلة في التطبيقات الخوارزمية التوليدية للنصوص. كما أنها أصبحت عملية تفاعل مُركبة مع التكنولوجيا لاستيعاب أكبر قدر ممكن من المعلومات والبيانات والأفكار تم جمعها وتحليلها وصياغتها لغويا داخل النص بشكل مُنظم وبسرعة فائقة بما يوفر على المؤلفين البشر الجهد في التفكير والعمليات المعرفية. كما تتسم عملية التأليف الجديدة باعتمادها الأساسي على التوليد الموجه من خلال مدخلات منظمة يقوم بها المؤلف (الإنسان) في توجيه وإدارة للذكاء الاصطناعي في عمليات حفز مستمرة وتفاعلية يتوقف عليها المنتج النهائي للنص.
مع الأخذ في الاعتبار أن عملية التأليف أصبحت قائمة على ما يُسمي بالتناص الرقمي (digital intertextuality) أو التناص الخوارزمي (algorithmic Intertextuality) بمعني أن النصوص المتولدة بالذكاء الاصطناعي تستمد مُقوماتها وأسلوبها وبِنيتها اللغوية من مصادر بيانات ونصوص كثيرة موجودة سابقا تم الاطلاع عليها رقميا وإدماجها في إنشاء نص جديد، سواء تم ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ويتسق ذلك مع وجهة النظر السائدة في الدراسات الأدبية بأن جميع اللغات حوارية بطبيعتها، أي أن كل عبارة أو نص هو استجابة لنصوص سابقة وفقا لما أطلق عليه باختين «الطبيعة الحوارية للغة» والتي تعني أن النصوص دائمًا في حوار مع بعضها البعض، وبحسب تعبير رولان بارت بأن النص نسيج من الاقتباسات المستمدة من نصوص أُخرى. غير أن الفارق بين التناص التقليدي والتناص الرقمي في التأليف يكمن في اعتماد الأول على قيام المؤلف بإبراز الفروق الواضحة بين صوته وصوت المؤلفين السابقين عليه.
وعلى ضوء ذلك لم يعُد للمؤلف (الإنسان) السلطة المطلقة على صياغة النص، ولم يعُد المُؤلف ذلك الفرد العبقري المتوج على عرش عملية بناء المعرفة داخل نصوص مؤلفه، بل أصبح شريكا في عملية تأليف متعددة الأبعاد، والمهام، والأدوار، والأطراف. وأصبح انخراط الكاتب في التكنولوجيا بعُمق شرطا مهما لانفتاح المؤلف (الإنسان) على عوالم معرفية كثيرة كانت مغلقة أمامه وعصية على بلوغها وتتطلب وقتا أطول وجهدا مضنيا لا يقوى عليه بمفرده. وأصبح المؤلف (الإنسان) شريكا في عملية آلية لتوليد النص بمقتضي توجيهاته وتلك مهارة مهمة يتعين إتقانها من جانب كل من يستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التأليف المشترك، وبحسب مدى ودقة وكثافة التوجيهات المقدمة من المؤلف يتحدد مدى جودة النص المتولد آليا. وللمؤلف (الإنسان) كشريك في عملية التأليف مسئوليات مهمة، وأحسب أنها أيضا مهارات جديدة تحدد مصير النص المُنّتَج في أصالته وملكيته الفكرية أهمها: المراجعة اللغوية الدقيقة بحسب مدى الملائمة مع أسلوب المؤلف ونوعية الكتابة (صحفية، أدبية، علمية.. الخ)، وإدخال تعديلات بهدف الترابط في الأفكار وتسلسلها المنطقي، ومراجعة صور التحيز القائمة بالنص، ومراجعة المعلومات والمصادر والمراجع للتحقق من مصداقيتها، وتزويد النص بالاقتباسات الضرورية، وربط النص بالسياق. وبطبيعة الحال فإن اتباع هذه المسئوليات أن دور المؤلف اتسع ليتجاوز كتابة جانب من النص بحيث يشمل أدوارا أخرى تتضمن التوجيه وإدارة النص المنتج آليا وإدخال تعديلات عليه ليكتسب أصالته، وهذا يعني ادخال تعديلات بفعل إنساني قصدي على النص المتولد آليا بما يتجاوز مجرد الكتابة التقليدية، بحيث يصبح النص الناتج مزيجا من تناص رقمي وجهد بشري من جانب المؤلف (الإنسان) لا يخلو أيضا من تناص تقليدي، وعلى قدر ما يَبذُل المؤلف من جهد في هذه العملية المُشتركة تتحدد درجة أصالة النص وملكيته، و يَتحدد أيضا دور الذكاء الاصطناعي فيما إذا كان مساعدا أو شريكا في التأليف وتتحدد أيضا هوية النص.
ولقد أثارت التحولات الجديدة في توليد النص بفعل الذكاء الاصطناعي خلافات حادة داخل المؤسسات العلمية والصحفية والأدبية وكذلك المحاكم في كثير من دول العالم حول معنى مفهوم التأليف، وما إذا كان النص المتولد بالذكاء الاصطناعي مؤلَفًا؟ وإذا كان تأليفا فمن يملُك حقوق التأليف والنشر للمحتوي الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي؟ هل المُؤلف (الإنسان) مستخدم التطبيقات هو صاحب حق التأليف؟ أم الذين يقومون بتطوير النماذج اللغوية؟ أم أن حقوق التأليف أصبحت على المشاع بمقتضى خاصية التناص الخوارزمي؟ ومتي وكيف يكون المحتوي المتولد بفعل الذكاء الاصطناعي أصليا لضمان حماية حقوق النشر الناتج عنه؟ وهناك محاولات جادة في تصميم برامج لكشف أصالة النص والتمييز بين النص البشري والنص المتولد بالذكاء الاصطناعي، غير أن الصراع الجاري الآن بين برامج كشف الأصالة والتطور المذهل في محاكاة النص المتولد آلياً مع النص البشري يشبه ما يعرف بسباق التسلح التكنولوجي technological «arms race – حسب تعبير جون ماي John May. وغالبا ما تنظر المؤسسات العلمية ودور النشر و الدوريات العلمية والمؤسسات الصحفية والأدبية والقضائية إلى ضرورة اشتراط التأليف البشري كأساس لحماية حقوق الملكية الفكرية، مع ضرورة إثبات الجهد البشري وإفصاح المؤلف بشفافية عن الفروق بين إسهامه وإسهام الذكاء الاصطناعي في صياغة النص النهائي، باعتبار ذلك التزاما أخلاقيا لا مفر منه. وكل ذلك يعني أن هوية النص في زمن الذكاء الاصطناعي أصبحت مستقلة عن المؤلف ولأول مرة منذ عصر الكتابة اليدوية، وأن عملية إعادة صياغة علاقة المؤلف بالنص على أسس جديدة الجارية الآن، والتي لم تُحسم بعد، أصبحت ضرورة لا مفر منها.
د. سعيد المصري أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة.