لجريدة عمان:
2025-04-29@16:04:43 GMT

نكهة اللبان

تاريخ النشر: 29th, April 2025 GMT

نكهة اللبان

كان مازن يبحث عن كتابٍ يؤنسه في رحلته المقبلة إلى صلالة. لا يريد شيئًا عابرًا يقضي به الطريق الطويل في حافلة المسافرين من مسقط إلى ظفار، بل رفيقًا يعيد إليه الشغف الأول بالقراءة؛ كتابًا يفتح له بابًا إلى عوالم لا تُرى، كما فعل زقاق المدقّ يومًا، حين سحره نجيب محفوظ بكلماته الأولى:

«الإنسان إذ يفقد جوهرة الحب اللامعة لا يتصور أنه سيسعد بالعثور عليها مرةً أخرى.

»

أو كما حدث حين سمع مظفّر النواب يصدح في المنفى:

«أنتَ كما الإسفنجة، تمتصّ الحانات ولا تسكر»

كان يبحث عن ذلك الرجف الخفيّ، عن قشعريرة البداية. لا شيء أقلّ من ذلك.

لكن، ويا للأسف، حتى في أوسع مكتبات المدينة، لم يجد ضالّته. تصفّح الجديد والقديم، العربي والمترجَم، الشعر والرواية، ومع ذلك بقي الشعور بالظمأ كما هو. كأن كل ما هو مطروح قد مرّ بروحه من قبل، فلم يعد شيءٌ يدهشه.

سأل نفسه: أهو الملل؟ فقدان الشغف؟ أبلغ به الركود الروحي هذا الحد؟

أم أن من قرأ المعرّي، وطه حسين، وحنّا مينه، ولوركا، وماركيز، وبلزاك... لم يعد شيءٌ يُدهشه؟

ترى، هل يخدعه الأدب من جديد؟

وماذا عن الشراع والعاصفة؟

هل كانت عظيمة فعلًا أم مجرد بوابة لذاكرته الناشئة، حين كان كلُّ كتابٍ اكتشافًا للذات؟

قرأ عن البحر والصحراء، عن الزمن المفقود والعشّاق التائهين، عن الجبال وسكّانها، عن كلّ شيءٍ تقريبًا... لكنه شعر أن معين الأدب قد نضب، أو أن الدهشة فرّت منه، ولم تعد تعرف الطريق إليه.

ساعةٌ ونصف الساعة قضاها بين أرفف الشعر والرواية وكتب الرحلات والمذكّرات والسيّر، وذلك النوع من الكتب الذي يسميه صديقه الناقد «الأدب النخبوي».

قال له يومًا:

«يا لها من تسميةٍ متغطرسة! أنتم، يا صديقي، تُشبهون علماء تصنيف النبات... و يا للعجب، لا تزال الطماطم من الفواكه، والتفاح ثمرة كاذبة!»

فكّر: من أين خرجت تلك الأقلام التي كتبت لنا الأدب العظيم؟

أليسوا أبناء الحقول والحارات والمقاهي الشعبية؟

ظلّ يقلب العناوين، متجنبًا رفوف التنمية البشرية و«الأكثر مبيعًا».

حتى الأدباء الذين أحبّهم - جبران، توفيق الحكيم، منيف - لم يعودوا يشعلون فيه شرارة الدهشة.

راودته فكرة: ماذا لو جرّب نوعًا جديدًا من الكتب؟ شيئًا لم يقرأه من قبل؟

ربما يجد فيه نكهة لم يألفها.

وفي زاوية معزولة من المكتبة، استوقفه غلافٌ أسود، تتوسّطه دوّامة حمراء كأنّها ثقبٌ زمني. ذكّرته بمسلسلٍ قديم: آلة الزمن.

كانوا يديرون العجلة ويهبطون في أعماق التاريخ. بسيط، لكنه طافح بالدهشة.

مدّ يده والتقط الكتاب.

لا اسم للمؤلف، لا عنوان.

شعر للحظة أن الدوّامة تتحرك بين يديه، كأنها تنبض... كأنها تتنفس.

اضطرب قلبه قليلًا، وأحسّ بانجذابٍ غريب، يشبه ذلك الذي شعر به حين قرأ أول قصة أفزعته، أو أول رواية غيّرت شيئًا في نظرته للعالم.

على الغلاف الخلفي، عبارةٌ واحدة:

«اقرأ بقلبك، تجد المتعة والدهشة.»

كم سمعها! وكم خذلته!

لكن شيئًا ما، دفينًا وعصيًّا على التفسير، دفعه ليفتح الكتاب.

لا مقدّمة، لا إهداء، لا فصول.

فقط دوّامات - بيضاء وسوداء وحمراء - واحدة في كل صفحة، تدور ببطء، ثم تتسارع كلما أطال النظر.

همّ بإعادته إلى مكانه... لكنه لم يستطع.

تسمّرت عيناه على الصفحة الأولى، وفي مركز الدوّامة، دائرة بيضاء، تنبض هي الأخرى.

وحين حدّق فيها، لم يرَ رسومات أو كلمات.

رأى ومضات من طفولته انبثقت كوميض برق:

بيت الطفولة.

رائحة البحر في مطرح.

يد أبيه المنمّشة.

ملامح أمّه الوادعة وهي تحكي له عن سندباد البحّار.

وصوتٌ قديم يهمس في أذنه:

«في البدء كانت الحكاية...»

قلب الصفحة.

كلماتٌ قليلة، كأنها تخرج من تلافيف الذاكرة:

«كان يا ما كان...»

«أيها السائل عن وطني، إنه الكلمات...»

«من يبدّد هذا الظلام؟ من يشعل جمرة المعنى؟»

«كلّما ازددتُ معرفة، ازددتُ وجعًا.»

ثم صُوَّر متقطعة:

ظلّ امرأة.

طفلٌ يلوّح لمركبٍ يغادر.

شجرة ليمون.

جدار طينيّ كُتبت عليه ذكريات وأحرف عربية.

ملعب ترابيّ في الحارة.

ثم سمع تهويدة أمّه:

«لومية يا لومية

مزروعة في الشمال

وعروقها في مسقط

ومظللة على عُمان...»

ثم - فجأة - انتهى كلّ شيء.

لا يدري كم مضى من الوقت.

الصفحات التالية كانت فارغة، والسابقة كذلك.

كأنّ ما رآه لم يكن موجودًا أصلًا، أو أن هذا الكتاب - بطريقة ما - قد نفض التراب عن كل ما سقط في بئر الذاكرة.

تنهد، وأعاد الكتاب إلى الرفّ المعزول.

لعلّ من سبقه تركه هناك عمدًا، كما سيفعل هو الآن.

لعلّه، مثله، أراد لغيره أن يقع في الدهشة.

وما زال مازن بحاجة إلى كتابٍ للرحلة.

مشى بين الأرفف بلا هدف، حتى قادته قدماه إلى قسم المجموعات القصصية.

لم يحبّها من قبل، لكنه بحاجة إلى شيء مختلف: أعمال قصيرة، مكثّفة، وقد تشدُّ القارئ - وهذا ما يحتاجه الآن.

سحب أول كتاب من الرف.

العنوان: العابرون فوق شظاياهم

الكاتب: عبد العزيز الفارسي

قلب الصفحات سريعًا، وقعت عيناه على هذه الجملة:

«وتختفين يا نكهة اللبان..»

استوقفته القصة، أجبرته على قلب الصفحة التالية، فقرأ:

«يا أيها القلب المدجج بالخواء: وطني المسافات التي نفت الغريب إلى أقاصي العاصفة»

أحس بقشعريرة خفيفة.

ابتسم، وهمس لنفسه:

ها قد عاد ذلك الرجف القديم.

سعد السامرائي قاص عراقي

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

فهد بن معيان يروي تفاصيل ضرب والدته له بسبب كتاب شمس المعارف .. فيديو

الرياض

كشف المحامي فهد بن معيان عن موقف طريف حدث له خلال محاولته قراءة كتاب “شمس المعارف”، انتهى بتعرضه للضرب من قبل والدته.

وقال بن معيان خلال استضافته عبر برنامج «الأول» : ” أنا ما قرأت شمس المعارف رغم أني حصلت عليه ودفعت مبلغًا، لكن اتضح أن النسخة لم تكن أصلية، وما قرأته، لأنه فيه مراحل تمهيدية لازم تمر بها، مثل الكورسات الأساسية والوصايا العشر، وأنا فعلاً بدأت بالكورسات، لكن أمي قفطتني وضربتني لما شافت الكتاب”

وأضاف مبتسمًا: “أمي – أطال الله في عمرها – لا تزال تضربني إلى اليوم، حتى الصيفية الماضية أدبتني وضربتني، وأنا لا أزعل منها، ليش أزعل؟ سواء أمي أو أبوي أو حتى أحد أعمامي ضربني وأدبني، سواء كنت كبير أو صغير”

https://cp.slaati.com//wp-content/uploads/2025/04/Yc_2-Vwdpvt1nJcn-1.mp4

أقرأ أيضاً

قصة المحامي فهد بن معيان والقاضي الذي أدّبه وعاقبه بحرمانه وعزله من القضية.. فيديو

 

مقالات مشابهة

  • وقوع الأدب في سحر الذكاء الاصطناعي ماذا يحدث حينما يتخذ الكتاب من الذكاء الاصطناعي إلهاما؟
  • الإبادة العرقية.. وجه الغرب الخفي في تدمير الحضارات.. قراءة في كتاب
  • كتاب مؤسسة التصوف والصوفية كمؤسسة اجتماعية متأصلة عبر الزمن
  • إطلاق كتاب «الأَلَقُ الشّعريّ - قراءة نقديّة في شعر سلطان بن علي العويس»
  • كتاب بغلاف مصنوع من جلد قاتل أُعدم قبل نحو 200 عام.. ما قصته؟
  • "الوثائق والمحفوظات" تصدر كتاب "منظومة المرأة العُمانية"
  • افتتاح معرض مرايا الروح للتشكيلى سامى أبو العزم بجاليرى المشهد.. الثلاثاء
  • فصول من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. (6) وصايا الجد
  • فهد بن معيان يروي تفاصيل ضرب والدته له بسبب كتاب شمس المعارف .. فيديو