معتصم أقرع: اليسار والدولة مرة أخري
تاريخ النشر: 29th, April 2025 GMT
– منذ إنطلاق هذه الحرب اندلع جدل في دار يسار بين جماعة منه تدعو لتدمير الدولة وتيار آخر يري في هذا استعجال شديد الخطورة علي مصير الشعب. شاركت هذه الصفحة في هذا الجدال الذي لم يكن موجودا بهذه الدرجة قبل الحرب حيث كانت شعارات اليسار: ديمقراطية، مدنية، عدالة إجتماعية نسبية، والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل.
– الداعون لهدم الدولة أحيانا يصوبون سهامهم نحو الدولة في حد ذاتها واحيانا ضد “الدولة القديمة” . لكن عليهم واجب تحديد المشكلة. فلو كانت مشكلتهم مع تدمير “الدولة القديمة” فهل يعني هذا أنهم يدعون لدولة أخري تحل محلها؟ إن كان الأمر كذلك، فعليهم تحديد القوي الإجتماعية الجاهزة لإستلام الدولة وتجديدها بما أنهم يدعون لتحطيم جهاز هنا الآن والبلاد يستبيحها الغزاة.
– يردد الداعون لهدم الدولة حجة إنها أداء قمع طبقي وسوط الطبقة المتنفذة علي حساب الآخرين. وهذا الزعم عموما صحيح ولكنه ليس كل الحقيقة. إذ أن الدولة أيضا هي التي تنسق المصلحة العامة مثل توفير الأمن وحد من التعليم والصحة والبني التحتية وإنفاذ القانون، والمعايير الصحية والمهنية وإدارة العملة وتنظيم الأسواق والتجارة وحماية الحدود وهذه متطلبات لا تقوم حياة حديثة في غيابها. ولكن حتي الآن لم يحدد الداعون لهدم الدولة هنا الآن من سيقوم بهذه المهام. من سيقوم في سودان ما بعد تدمير الدولة ببسط الامن وحماية المواطن في حياته وبدنه وماله ومن سينظم الصحة العامة ويدير المواصلات والإتصالات ومن يحمي الشعب من الغزاة الطامعين؟
– لا جدال في أن الدولة ليست أداة محايدة طبقيا في أي مكان في العالم ولكن هذا لا ينفي حوجة المجتمعات لها مرحليا، وبالذات مجتمعنا. لذلك فان الطرح عن نزاهة الدولة هو السؤال الخطأ لتحديد الموقف منها. من الممكن رفع الوعي بعيوب الدولة بهدف تجاوزها ولكن لتدمير الدولة يجب علي الداعين لذلك إقناع الراي العام بوجود بديل جاهز أحسن منها وجاهز للقيام بكل مهامها ببساطة لان إنهيار الدولة قد يدفع السودان إلي واقع أكثر تخلفا.
– النقاش حول ضرورة الدولة أو ضرورة حلها يجب أن ينطلق من الواقع الماثل أمامنا ولا يحتاج لنصوص فقهية من تاريخ يسار غربي نظر في سياق تاريخي يختلف تماما عن واقعنا الحالي. وهذا لا يعني عدم الإستفادة من الخلفيات التاريخية والفكرية والفلسفية. ولكن – كما قال الصديق عثمانتو- المرجعية الأخيرة يجب أن تكون لواقعنا الماثل هنا الآن وليس لنصوص أنتجت في أزمنة مختلفة وفضاءات جيوسياسية أشد إختلافا. لذلك فان الداعين لهدم الدولة عليهم إقناع الراي العام بوجود بديل أفضل منها وجاهز للتركيب الآن في أثناء قصف مسيرات الغزاة لحيواتنا وبنانا التحتية.
– حسب تقديري هذا البديل للدولة لا يوجد حاليا في أكثر الدول تطورا في أوروبا وأمريكا واسيا دع عنك في عرصات رجل أفريقيا المريض. لذلك فان تدمير الدولة السودانية حاليا لن يقود إلي فردوس أناركي أو شبه أناركي تزدهر فيه العدالة والحريات. تدمير الدولة السودانية يعني عمليا تصفية نهائية للسودان ككيان إجتماعي، ثقافي ولن ينعم أحد بفردوس ما بعد الدولة ولكن سينتقل جميع أهل السودان للعيش كأقنان في كنف دول إستعمارية أخري ونكون فقط قد استبدلنا دولة السودان بدول أخري أشد بطشا واكثر غربة. وفي المساحات من السودان التي تعافها الدول الإستعمارية إلي حين سيخضع المواطن لحكم عصابات لا تختلف كثيرا عن عصابات الجنجويد ولن يعيش في فردوس أناركي. لذلك فان الدعوة لتدمير الدولة والجيش الآن تعني الدعوة لتصفية السودان ككيان/ات إجتماعية مستقلة وهذا حد بعيد من كراهية الذات وكراهية السودان.
– في أدبيات اليسار لا أعلم بنصوص تدعو شعب لحل دولته وحده بينما الدول الإستعمارية والطامعة حوله تحافظ وتنمي من مقدراتها العسكرية ومن قدراتها التقنية علي إخضاع الآخرين. حل الدولة أو حل الجيوش في السياق التاريخي الصحيح يكون باتفاق دولي تقوم فيه جميع الدول في نفس الوقت بتصغير جيوشها ثم حلها في إطار تعاون دولي عميق وواسع. لذلك فان دعوة دولة لحل مؤسساتها وجيشها بينما الدول الأخري تحافظ علي هذه الأدوات هي دعوة للإنتحار وعزومة مجانية للغزاة والمغتصبين وتبرع مجاني بالوطن للأجنبى. وهذه هدية يسارية للاستعمار وهي عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
– جوان روبنسون عالمة إقتصاد بحت رفيعة بقامة كينز أو أعلي كانت في هيئة التدريس في جامعة كامبريدج. يقال أن جائزة نوبل تجاهلتها لانها كانت متهمة بالماركسية وكانت من أنصار ماو المتحمسين له. ويجادل البعض أن غياب جوان عن قائمة شرف نوبل فضيحة للجائزة. وبالنظر للتنمية المذهلة في الصين الآن، ربما كان علي لجنة نوبل أن توقظ جوان من الموت وتمنحها الجائزة مرتين.
– ينسب لجوان قولها أن من أفظع الأشياء للعامل أن يستغله صاحب عمل راسمالي ويحلب عرقه قيمة زائدة. ولكن أسوأ من ذلك ألا يجد العامل راسمالي يستغله. هكذا الدولة السودانية. فظيعة جدا ولكن النقطة الأهم هي أن غيابها أفظع. وهذه هي نقطة عمي أعداء الدولة السودانية إذ هم يرون فظاعتها ومن ثم يقفزون إلي إستنتاج متعجل بضرورة تدميرها الآن بينما المنطق يقول أن تدميرها سيقود إلي واقع أكثر جحيمية. وإلي بزوغ شمس مجتمع آخر، علي العامل أن يجد راسمالي يستغله حتي لا يجوع تحت شعارات ثورية براقة. وإلي أن تتوفر شروط الإنتقال لتنظيم إجتماعي أكثر عدالة وكفاءة الدولة بصلة نتنة في فمنا من يدعو لحلها يضع جمرة “حمراء، يسارية”، متقدة، مكانها. ولا أعتقد أن مضغ الجمر حل مناسب لمشكلة البصلة. إنضم لقناة النيلين على واتساب
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الدولة السودانیة تدمیر الدولة لهدم الدولة لذلک فان
إقرأ أيضاً:
البرهان … إياك و(البيض الممزر)!
في 2018 تم استدراج البشير الى توهم أن الخطر كل الخطر فيمن يرفضون ترشيحه في 2020 أو من لم يعلنوا تصفيقهم للفكرة حتى لو كانوا متعايشين معها بغير قناعة، لايمانهم أن تقويم الاعوجاج أفضل من كسر العود، وأن الاصلاح أفضل التغيير.
المهم، انصرف البشير من حل المشكلات الاقتصادية والتنفيذية، وصار يقرب ويؤخر بناء على الموقف من 2020، وأغفل أن النجاح الاقتصادي والتنفيذي هو (بطاقة التأهيل) الحقيقية، وليس المقالات والحملات الاعلامية والمخاطبات واللقاءات الجماهرية، بل الأسوأ من ذلك (التهجيس) الذي جعله يحضن (البيض الممزر) منتظرا أن يفقس له كوادر يحكم بها بعد 2020 من مختلف الأطياف، من الذين انحازوا لترشيحه علنا، وبدأ فعلا في التخلص ممن تم تصويرهم له أنهم غير مخلصين، لأنهم أذعنوا لأمر واقع وغير مقتنعين ب 2020.
بكل صراحة ووضوح، مطلوب من البرهان وقيادة الدولة الآن تأمين الأداء الاقتصادي من الفساد والاختراق، وإدارة دولاب الدولة التنفيذي والولائي، والنزول بطاقم متكامل فورا من رئيس وزراء للمعتمد ومدراء الوحدات الادارية ومنسق احتياطي شعبي وشرطة مجتمعية في اي قرية .. غير كدا سيضيع السودان قولا واحدا.
يجب أن يتقدم هذا الملف للأمام بذات التقدم المحرز عسكريا أو أسرع، والعنصر البشري أهم من الرضا الخارجي، ولا بد من إسقاط الكوزوفوبيا فورا ودون تردد، وليس المقصود هو اعادة نظام سابق ولا يحزنون حسب كلام (المهجسين)، ولكن المطلوب أن تكون يد الحاكم غير مغلولة في اختيار الشخص المناسب والمجرب لأي موقع، لا توجد هواجس داخله، ولا قيود خارجه.
على سبيل المثال، في مستوى الحكم المحلي، السودان فيه 133 محلية، وكان فيها 133 معتمد، وكان الناجحين والمخلصين هم النصف أو أكثر. وعليه، أي معيار غير النجاح السابق، أي تصنيف مؤسس على هواجس (أجنبية أو قحاتية) يعتبر جريمة في حق السودان لا تقل عن جرائم الجنجويد في ذبح وسرقة المواطنين.
أي محاولة ترقيعية للتجريب وصناعة كوادر وتحويل نظاميين لموظفين، لا يمكن أن تكون هي الأساس .. لا بد أن تبني الحكومة على الموجود وتراعي رغبة المجتمعات الأهلية، بحكم تجربتهم مع المعتمدين السابقين والخيارات الناجحة، وبعد ذلك تضيف بالتجريب.
أساسا الوصول لرقم 133 من المستوى المعقول أو الجيد كلف الانقاذ تجارب مريرة وخسارات واتفاقيات عبر سنين عددا، ولم يكن الموضوع تعيينات تنظيم، هذا كذب صراح، بل عدد من الناجحين تم ادخالهم تدريجيا في المؤتمر الوطني ولا صلة لهم بالتنظيم، يعني الموضوع كان فحص ودخول إجرائي وليس تجنيد، وهذا معروف، لأن الدولة بعد الرابع من رمضان باتت أقوى من التنظيم.
هذا مجرد نموذج في الحكم المحلي، وينطبق على كافة مستويات الدولة.
أي محاولة للتركيز على شخص البرهان وجعل الالتفاف حول ذاته هو (عقيدة الولاء والبراء) ضارة بالبرهان نفسه قبل غيره، وكل من يروجون لهذا الأمر هم (البيض الممزر) الذي لن يفقس، أو النحل الميت الذي لا ينتج العسل.
Dead bees don’t make honey
في حال عدم الإسعاف العاجل للأداء التنفيذي والاقتصادي والولائي حسب الوصفة أعلاه، لا جدوى من التحشيد والتهجيس.
التذاكي والتحايل والوصفات المعقدة بالاستفادة من شخصيات مع إستمرار ابعادهم، أو وجود رجال في الظل لمساعدة آخرين بالريموت كنترول، كلام فارغ، وفاشل.
مما أذكره أن أحدهم من الوطنيين، في عهد قحت، أغلق الأبواب وهمس لي دايرين اعلاميين منكم بس ما يكونوا ظاهرين، قلت له (اعلامي ما ظاهر) دا فاشل، زي عطر لا رائحة له أو (بيرفيوم برائحة الماء) لن يشتريه إلا مغفل!
أساسا الإعلامي الناجح ظاهر ومعروف وحوله دائرة من الجدل هي جزء من ظهوره وفعاليته، وتقاس جدواه بأثره وليس بانتماءه حقيقي كان مزعوما.
واضفت له من عندي نعم صحيح أن هنالك وظائف ليس من ضمن مواصفاتها الظهور، مثل (مهندس بترول شاطر) لكن الاعلام والدبلوماسية مثلا غير ذلك تماما .. الشخص هو نفسه أداة التنفيذ، لا يوجد معه بوكلين ولا ورشة لحام بالأوكسجين، من تراه أمامك الآن ويحدثك هو نفسه (عدة الشغل) لو دايره بدون عدة معناها ما دايره، ولن يسلمك علاقاته ولا شبكاته، لأنها هي ذاتها متغيرة ومتجددة غير ثابته و السيطرة عليها Manual.
هذا ليس في السودان، بل في العالم الاول نفسه لضمان النفاذ في المجتمع السياسي والمدني، يتم التعاقد مع الفاعل وليس شراء علاقته ووزنه وشهرته، ولا حتى (خطته المدونة)، لأن العمل جزء كبير منه قائم على ثغرات العدو وهي مسألة متغيرة أثناء الصراع، وليست وفق خطة، مثل قصة (أبوالقدح بعرف محل يعضي رفيقه)!
هم أنفسهم يقولون Results-oriented يعني التقييم بالنتائج وليس الخطة وأرقام هواتف الاصدقاء هذا جهل مريع بالعمل الإعلامي والمدني.
نصيحتي للبشير حول الاداء الاقتصادي والتنفيذي كانت مشابهة، في مقال (كلمات لا بد منها عن ترشيح البشير) في أول تعليق، مقالي في هذا البوست نشر في اغسطس 2018.
شاء الله أن تكون نصيحتي التالية هي لحمدوك في أغسطس 2019، في أربع نقاط، ونشرت سكرين من نصيحتي ورده علي (أتفق معك يا صديقي) في بوست سابق.
وكان رده مجرد مجاملة، أو كلام الواتس تمحوه (المزرعة)!
ونصيحتي للبرهان الآن … البيض الممزر لن يفقس ولو حضنته العنقاء في قمة جبل.
مكي المغربي