الإبادة العرقية.. وجه الغرب الخفي في تدمير الحضارات.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 28th, April 2025 GMT
الكتاب: الغرب نقيضا للحضارة
المؤلف: روبير جولان
المترجم: مراد دياني
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
في العام 1974 وضع عالم الإثنولوجي الفرنسي روبير جولان (1928-1996) هذا الكتاب الذي جمع فيه بعضا من مقالاته، وحوارات صحفية أجريت معه، بالإضافة إلى مقالات باحثين آخرين، تدور كلها حول موضوع "الإبادة العرقية" وممارساتها، بما تعنيه من "إنكار" النظام الغربي وإبادته لأي ثقافة أخرى، لا سيما ثقافات الشعوب الأصلية.
يقول دياني أن الفكرة الرئيسية عند جولان تقوم على أن "روح" الغرب هي روح أحادية ونافية للآخر ومنغلقة على الذات. وبالتالي فإن الغرب أو "الحضارة" الغربية نشأت في عمقها على إنكار الآخر ورفض التعايش معه، وقد تجلى ذلك بوضوح في إبادة السكان الأصليين في الأميركتين. وقد أجرى جولان دراسات على الكثير من السكان الأصليين في إفريقيا وأميركا الوسطى والجنوبية، وأقام لفترات طويلة بين قبائل الهنود الأميركيين الأصليين، حيث تعمّق نضاله ضد ما يسميه "الإبادة العرقية".
حضارة "لا تطيق" الحضارات
يقول جولان إن "الإبادة العرقية" تشير إلى فعل تدمير الحضارة، أي فعل "نقيض الحضارة"، ويمكن أن يستخدم هذا الفعل لتوصيف "الفاعل" المدان بالإبادة العرقية. وهو مصطلح عُرف منذ زمن طويل لكن جرى رفضه لانعدام سياق يسمح باستخدامه، لأن المصارحة الرسمية لمشكلة الإبادة العرقية، بحسب جولان، كانت محظورة منذ قرون، وعُدت استحالة أو مزحة في بلاد الغرب.
ويضيف أنه "في عامي 1947و1948 بحثت اللجنة السادسة للأمم المتحدة مفهوم الإبادة الجماعية، وتمت حينئذ الإفادة بوقائع الإبادة الثقافية، غير أن اللجنة رفضت في نهاية المطاف فكرة الإبادة الجماعية الثقافية بحجة أن ذلك قد يلحق الأذى بمفهوم الإبادة الجماعية. فقد كان العالم خارجا من الحرب والنفوس مهووسة حقا بذكرى أفران المحرقة." ويرى جولان أن الشعور بالذنب المرتبط بتصفية "عرق يُزعم أنه معبر عن إثنية يحجب مشكلات تصفية الشعوب باعتبارها معبرة عن ثقافات وحضارات".
إن "الإبادة العرقية" تشير إلى فعل تدمير الحضارة، أي فعل "نقيض الحضارة"، ويمكن أن يستخدم هذا الفعل لتوصيف "الفاعل" المدان بالإبادة العرقية. وهو مصطلح عُرف منذ زمن طويل لكن جرى رفضه لانعدام سياق يسمح باستخدامه، لأن المصارحة الرسمية لمشكلة الإبادة العرقية، بحسب جولان، كانت محظورة منذ قرون، وعُدت استحالة أو مزحة في بلاد الغرب.في حوار مع جولان نشرته مجلة أرجنتينية يسأله المحاور عما إذا كانت الإبادة العرقية مسألة خاصة بالغرب والعالم الأبيض المسيحي، فيجيب بأنه يراها كذلك بالفعل. ويقول إن الغرب ينظر إلى نفسه باعتباره نموذجا للبشرية في الحاضر والمستقبل، وبالتالي يميل إلى اختزال ما هو ليس كذلك، ويؤدي هذا الميل إلى محاولة للتوسع في كل شيء وغزو العالم.
ويضيف إن الإبادة العرقية هي "في المقام الأول تتعلق بإحداث الاختلال في النظام اليومي للآخرين. أي تدمير نمط تنظيم علاقات الإقامة والجوار بقدر ما هو تدمير نمط تنظيم علاقات الاستهلاك والإنتاج. فعندما لا نعود أحرارا في النوم في منزل كبير مشترك كله راحة، مصنوع من أوراق الشجر، وعلينا باسم التقدم أن نعيش في منزل صغير ومعزول ومصنوع من الأسمنت، فمن الواضح أن هناك تدميرا للبنية الاجتماعية المرتبطة بهذا البيت الجماعي بأسرها". ويرى جولان أن الحضارة الغربية "لا تطيق" الحضارات الأخرى، وهو ما يثبت أنها، على حد قوله، نقيض للحضارة، وبينما يمكن ملاحظة أن الحضارات الأخرى تحترم اختلافات الآخرين فإن الحضارة الغربية بذلت قصارى جهدها لتدمير الآخرين تحت عنوان زائف هو "الاندماج".
ويضيف إن الهنود الأمريكيون الأصليون لم يزعجهم أبدا وجود البيض، بل أن البيض هم من يزعجهم وجود الهنود الأصليون الذين يبدون تسامحا وقبولا للآخرين (الغرب) "أكثر من اللازم"، لكن للأسف يجري تدميرهم برغم ذلك.
الغرب المتعطش للغزو
في فصل من الكتاب مخصص للحركة الهندية الأمريكية يقول جولان إنه منذ بضعة قرون عمد الأوروبيون إلى تملك الأرض بطريقة غريبة، يحركها الاعتقاد بأنهم يمتلكون عليها حق الإحياء وحق الإماتة. فتعاملوا معها، بكل ما فيها، ليست باعتبارها كائنا آخر يمكن عقد تحالفات معه، بل عبدا خاضعا. ويضيف أنه مع ما شهدته أوروبا من عمليات تحديث، "وجدت الحضارات الزراعية فيها نفسها معنّفة، ووجد المزارعون أنفسهم مطرودين من ديارهم، فتطورت طبقة اجتماعية من المحبطين وذوي الشره المرضي".
مع هذا التراكم للهبات الكاذبة، نجد أنفسنا في مواجهة مفارقة صادمة ومثيرة للسخط، إذ يجري تقديم فرنسا باعتبارها الحضارة التي تمنح كل شيء، في حين أنها تأخذ كل شيء، وإن منحت شيئا فهو البؤس والاستغلال..هؤلاء، الذين سيصبحون مستوطنين بعد ذلك، كانوا، بحسب جولان، التعبير الأكثر سطوعا لمعنى الغرب المتعطش للغزو والحصول على "الكون" كله، إلى حد الإشباع، بعد أن حرموا من الأرض. المستوطنون البيض الغربيون، الذين ادعوا اكتشاف أمريكا، سينكرون وجود الهندي الأميركي الأصلي، وبالتالي سيكون شاغلهم الأساسي قتله، "لأنهم كانوا حريصين على كسر العلاقة التي يعقدها الهنود الأصليون بالعالم". وعمليات القتل هذه ستتم بآلاف "الحيل والأعمال الخسيسة.. وبالخيانة أكثر من الشجاعة أو أي من أشكال التفوق، وهذه الخيانة تغذت دائما على نبل الهنود الأميركيين وكرمهم".
لذلك اختلطت المذابح بالمعاهدات، بحسب ما يقول جولان، التي لم تحترم يوما، وبموجبها احتفظ الهنود الأصليون بالقليل جدا من الأراضي التي صارت تعرف ب"المحميات". لكن القتل لم يكن سوى مرحلة أولى من "إكراه" يسعى لتدمير الحضارات الهندية الأصلية، وبعد ذلك إدماج من يتبقى من الهنود في عالم الرجل الأبيض. وقد انتهت عمليات الإبادة الجماعية إلى قتل نحو 150 مليون هندي أميركي أصلي في أميركا الجنوبية، ونحو 50 مليون في أميركا الشمالية، بطرق وحشية.
فرنسا التي تأخذ كل شيء
يتضمن الجزء الأخير من الكتاب دراسة عن الأساليب التي تقدم عبرها كتب التاريخ المدرسية في فرنسا صورة ازدرائية للحضارات غير الغربية. ويرى جولان أن ذلك يحقق ثلاث وظائف أساسية؛ "الأولى الإسهام في الاستدامة الأبدية لأنماط التفكير العنصرية، والثانية تطوير التعصب وعدم التسامح إزاء الآخرين، والثالثة "تسليح" مواطني المستقبل من أجل إشراكهم في حركة إنكار الحضارات الأخرى".
ويضيف أن ما وجده في الكتب المدرسية هذه ينسحب على ميادين أخرى مثل الصحف والمجلات والإذاعات، ما يفسر، بحسب ما يقول، حالة اللامبالاة الغربية أمام ما يجري في العالم من قتل ثقافي للكثير من الشعوب. ومن خلال سرد قصة الاستعمار، وعبر محورين أساسيين هما إضفاء القيمة وتبخيس القيمة بالنسبة إلى ثنائية المستعمِرين والمستعمَرين، سعت كتب التاريخ هذه إلى تخليص فرنسا من أي مسؤولية في غزو مناطق أخرى، والحديث عن أن هذا الغزو أو الاستيطان تحول إلى حرب يلقى فيها اللوم على الخصم. ويبدأ ذلك بإضفاء الشرعية على هذا الاستعمار والاستيطان، وتقديم ذرائع واهية له، ثم إضفاء شرعية أخرى على توسع الصراع، وتقديم الفرنسي على أنه المنقذ الذي يحاول إدخال الآخرين في مسار الحضارة. وبينما يمنح العسكري الفرنسي صفاتا نبيلة ينال الآخر(المقاوم وصاحب الأرض) أحط الصفات وأخبثها.
يقول جولان إن مفهوم الحضارة في هذه الكتب يجري ربطه بالتقدم كما هو متعارف عليه في الحضارة الغربية، وبالتالي فإن كل مجتمع أو شعب لا يعيش وفق هذا المعيار متخلف. "ولا يجري أبدا الاعتراف بخصوصية الحضارات الأخرى وأصالتها، بل يجري إرجاع كل شيء إلى المقارنات". أما المستوطنون فيساهمون إلى جانب العسكريين والمستكشفين والمبشرين في جعل البلاد المستعمرة دولا حقيقية، تمتلك مدنا وطرقا ومصانع ومدارس ودساتير. " ومع هذا التراكم للهبات الكاذبة، نجد أنفسنا في مواجهة مفارقة صادمة ومثيرة للسخط، إذ يجري تقديم فرنسا باعتبارها الحضارة التي تمنح كل شيء، في حين أنها تأخذ كل شيء، وإن منحت شيئا فهو البؤس والاستغلال".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب قطر كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإبادة الجماعیة الإبادة العرقیة کل شیء
إقرأ أيضاً:
تدمير الأراضي في غزة.. ضربة قاسية في خاصرة المزارعين
لم يسبق أن تعرض المزارع عامر مسلم ذو الستة والأربعين عامًا، لصدمة نفسية وخسارة مادية أعمق وأشد من تلك التي تسببت بها الحرب على قطاع غزة، وأدت إلى تجريف مزرعة الفراولة التي تبلغ مساحتها عشرات الدونمات وبلغت تكلفتها أكثر من 100 ألاف دولار أمريكي، لم يكتف الاحتلال الإسرائيلي بتدمير المزرعة والمنازل والسيارات والجرافات الزراعية التي يمتلكها مسلم بل قام الاحتلال الإسرائيلي بالسيطرة على الأرض الزراعية بالكامل شمال بيت لاهيا.
منذ عشرات السنين ومزارعو منطقة بيت لاهيا شمال قطاع غزه يزرعون الفراولة التي يتم تصديرها إلى معظم دول العالم، من منطقة قريبة من أرضه، وبشكل حذر أخذ ينظر مسلم إلى دبابات الاحتلال الإسرائيلي المتمركزة في مكان المزرعة وبقلب مليء بالحسرة عبَّر عن حزنه قائلًا: "لم أر في حياتي أقسى من هذا المشهد الذي رأيت فيه أرضي ومزرعتي وشقاء عمري بتحول إلى خراب، تعرضت الأرض للتجريف في السنوات السابقة لكنني رغم ذلك كنت أقوم بزراعتها وترميمها بشكل سريع، لكن هذه الحرب قضت على الأخضر واليابس ولم تبق لنا شيئا، للعام الثاني على التوالي مُنعنا من الوصول إلى أراضينا وزراعتها ويبدو أن الاحتلال الإسرائيلي عازم على البقاء فيها، أشعر أن قطعة من قلبي قد سُلبت مني، لقد تحولت حياتي إلى جحيم ".
توقف الكلام وأصبح العجز سيد الموقف، لقد تحولت حياة هذا المزارع إلى جحيم بعد أن فقد مزرعته التي كانت كما قال تدر دخلاً على أسرته المكونة من 12 فردًا، إلى جانب عشرات العمال الآخرين الذين كانوا يفتحون بيوتًا وينفقون عليها من رواتبهم الشهرية مقابل عملهم في المزرعة.
صمت الرجل لوهلة، ثم تنهد بحزن قبل أن يضيف: "خسرت آلاف الدولارات، وحجم خسائري بلغ أكثر من 100 ألف دولار، لقد أُثقل كاهلي بديون تبلغ 40 ألف دولار لتجار الأسمدة والأدوية الزراعية، بالتأكيد سأواجه أكبر مأساة في حياتي، فالأزمة المالية التي أتعرض لها ستمتد إلى سنوات، في ظل غياب أي أفق لتقديم تعويضات عاجلة لي وللمزارعين من جراء الدمار الذي حل بنا، قمنا بمناشدة وزارعة الزراعة من أجل مساعدتنا وتعويضنا عن الضرر الذي لحق بنا ولكن للأسف حتى اللحظة لم نتلق أي دعم مادي أو معنوي لمساعدتنا".
يشعر مسلم بمرارة مضاعفة، ليس فقط بسبب فقدانه مصدر رزقه، بل أيضاً لتجاهل الجهات المختصة لمحنته ومحنة آلاف المزارعين الآخرين، الذين وجدوا أنفسهم في صفوف البطالة، بلا أي دعم أو تعويض.
ومِثل مسلم، هناك قرابة 40 ألف مزارع فقدوا مصدر رزقهم في بيت لاهيا شمال قطاع غزة حسب الإحصائيات.
ومنذ ستينيات القرن الماضي، كانت غزة تشتهر بزراعة الفراولة في أراضيها الخصبة تحديدًا في مدينة بيت لاهيا ذات التربة الخصبة والمياه العذبة، التي كانت تصدر للمناطق المختلفة، وبفضل مناخ المنطقة ومواردها المائية، ازدهرت الزراعة حتى بلغت المساحات المزروعة 3500 دونم تُنتج 11 طنًّا؛ لكن الحرب الأخيرة أحدَثت دمارًا شاملًا.
في ذات السياق أكّد الناطق الإعلامي باسم وزارة الزراعة في قطاع غزة محمد أبو عودة، أنَّ مزارع الفراولة تعرَضت لتدميرٍ شامل بنسبة 100بالمائة بفعل الحرب الإسرائيلية، وقال أبو عودة: "هذا الدمار الهائل وغير المسبوق هدم إحدى ركائز القطاع الزراعي والاقتصادي بشكل متعمد من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، فالتوت الأرضي "الفراولة" أحد المحاصيل الزراعية التي تُدر دخلاً، وتسهم في دعم الاقتصاد الوطني".
وأشار أبو عودة إلى أنّ حجم الصادرات لمحصول الفراولة من قطاع غزة إلى الضفة الغربية ودول عربية وأوروبية بلغ 5.500 طن، فيما بلغت القيمة المالية لتصدير الفراولة 11 مليون دولار. كما تساهم الفراولة في قيمة صادرات الإنتاج الزراعية بقيمة 13.5%، وهو ما يُشير إلى أن كمية إنتاج الفراولة من كمية صادرات الإنتاج الزراعي شكَّلت 11%.
وفي ختام حديثه قال أبو عودة: "إنّ فقدان نسب ومبالغ كهذه أدى إلى كارثة بالمقاييس كلها على القطاع الزراعي والاقتصادي".
لم يكن حال سماح أبو طير ذات (38) عامًا، أفضل وهي أرملة وأمّ لخمسة أطفال، كانت تعمل في مزارع البطاطا، شرق خانيونس، يعتبر هذا العمل مصدر رزقها الوحيد؛ لكنها وبفعل الحرب نزحت إلى منطقة مواصي خانيونس غربًا بعدما شهدت المنطقة التي تقطن فيها دمارًا كبيرًا امتد إلى الأراضي الزراعية شرق المدينة.
خلال شهور النزوح كانت تأمل بالعودة والعمل من جديد لكن الحرب الإسرائيلية دمرت كل شيء، ومع اجتياح جرافات الاحتلال للأراضي الزراعية، تحولت المزارع إلى أرض جرداء، فخسرت المرأة أملها في تحسين ظروف حياتها واستعادة مصدر دخلها الأساسي.
أصبحت أبو طير تقطن الخيام مُجبرة في جنوب قطاع غزة بعد هدم منزلها وتجريف أرضها، عاجزة عن تأمين قوت يومها. هذه السيدة كغيرها من سيدات قطاع غزة كانت تعلق آمالا واسعة على استئناف عملها، لكن الاحتلال الإسرائيلي ما زال يمنع المواطنين من العودة إلى المناطق الشرقية للقطاع ومن يصل هناك يتم استهدافه من قبل الآليات الإسرائيلية الموجودة في المنطقة.
لطالما شكّل قطاع الزراعة في قطاع غزة دعامة أساسية للاقتصاد في القطاع، حيث وفر فرص عمل واسعة وأسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الخضروات والفواكه، ما حدّ من الحاجة إلى الاستيراد بل كان هناك تصدير للكثير من الأصناف إلى الأسواق العربية والدولية.
لكن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي استمرت لعام ونصف العام، وجهت ضربة قاصمة لقطاع الزراعة، تاركة المزارعين في مواجهة كارثة اقتصادية غير مسبوقة، طال الإفلاس العديد منهم، وتوقفت عجلة الإنتاج، مما أدى إلى نقص حاد في الخضروات والفاكهة، وإن توفرت، باتت أسعارها باهظة تفوق قدرة الفئات الأكثر هشاشة على شراءها.
كما أظهر تقييم أجرته منظمة الأغذية والزراعة أن نحو 30% من مساحة البيوت البلاستيكية (الدفيئات الزراعية) في قطاع غزة لحقت بها الأضرار حتى يوم 23 أبريل، فيما شهدت مناطق مدينة غزة وشمال غزة أشد الأضرار (نحو 80% من مساحات البيوت البلاستيكية فيها دُمرت). وتضررت مئات المباني الزراعية ولحقت الأضرار بها، بما فيها 537 حظيرة منزلية و484 مزرعة دجاج لاحم و397 حظيرة أغنام و256 مستودعًا زراعيًا، فضلًا عن نحو 46 في المائة من الآبار الزراعية في غزة (1,049 من أصل 2,261 بئرًا).
وبحسب مختصين في مجال البيئة فإنّ ما تستخدمه "إسرائيل" من متفجرات ممنوعة دوليًا، يؤثر على الأراضي الزراعية حيث إن المواد الكيميائية المنبعثة من الصواريخ المتفجرة مثل النحاس والرصاص وغيرها تترسب في التربة؛ مما يؤدي إلى تلوثها على المدى القريب والبعيد، ويجعل التربة غير صالحة للزراعة، وهذا سيؤدي مستقبلًا إلى تقليل الإنتاجية الزراعية، ولذلك يجب ترميم ومداواة الأرض بطرق آمنة ليتمكن المزارع من زرع البذور.
ويؤكد المركز الأورومتوسطي أن الغالبية العظمى من هذه الأراضي التي باتت ضمن نطاق المنطقة العازلة التي يحظر على السكان والمزارعين الوصول إليها كانت تمثل الجزء الأكبر من مساحة الأراضي الزراعية في قطاع غزة، وعمل الجيش الإسرائيلي على تجريف وتدمير جميع المباني والمنشآت فيها بشكل شبه كامل، مبينًا أنها كانت تضم مئات المزارع المقامة على مئات الدونمات المزروعة بالخضروات والفواكه إلى جانب مئات مزارع الطيور والمواشي.
ولم يقتصر التدمير على هذه الأراضي، بل هناك أراض خارج هذه المنطقة العازلة تعرضت أيضًا للتدمير خلال التوغلات الإسرائيلية أو جراء القصف الجوي والمدفعي، والذي طال ما لا يقل عن 34 كيلو مترًا مربعًا من الأراضي الزراعية والشوارع التي تخدمها، وبذلك يكون إجمالي الأراضي المدمرة هو 36.9%، وهذه المساحة تمثل أكثر من 75% من المساحة المخصصة للزراعة في قطاع غزة، وفق المركز "الأورومتوسطي".
وأبرز الأورومتوسطي أن فرقه الميدانية وثقت تعمد الجيش الإسرائيلي قتل العديد من المزارعين خلال عملهم أو محاولتهم الوصول إلى أراضيهم ومزارعهم، فضلًا عن تدمير آلاف المزارع والدفيئات الزراعية وآبار المياه وخزاناتها ومخازن المعدات الزراعية، إلى جانب قتل عدد من الصيادين وتدمير مرافئ الصيد وغالبية قوارب الصيد منذ بداية الهجوم؛ ما يدلل على أنها عملت عن عمد لتدمير مقومات الحياة والبقاء دون أي ضرورة، وهو ما سيكون له أثر على توفير الغذاء الصحي المناسب لأكثر من 2.2 مليون فلسطيني في قطاع غزة، محذرًا بأن الآثار ستبقى لعدة سنوات قادمة حتى بعد وقف الهجوم العسكري الإسرائيلي.