اقْتِصَادَات الحَل العَسْكَري المُتَوَهَّم
تاريخ النشر: 28th, April 2025 GMT
اقْتِصَادَات الحَل العَسْكَري المُتَوَهَّم
The Economics of a Delusional Military Solution
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
مع دخول الصراع في السودان عامه الثالث وتمسك طرفي الحرب بالحل العسكري الوهمي، بات من الضروري تفكيك البُعد الاقتصادي لهذا الحل بالنسبة لكل طرف، وفهم تأثيره على فرص السلام، وعلى مستقبل الحراك المدني وقواه السياسية.
فبالنسبة للمحددات الاقتصادية التي المتعلقة بافتراض انتصار عسكري للجيش، فسوف يواجه تحالفه الاعتماد على ميزانية عامة منهارة قوامها نذر يسير من الموارد الرسمية المحدودة المحصورة في عائدات الموانئ والضرائب والشركات العسكرية. حيث إن إنتاج الذهب لا يُدار بكفاءة بسبب ضعف الرقابة والفساد. وذلك فضلاً عن الدمار الشامل الذي خلفه الانتصار العسكري في ولاية الخرطوم يعني فقدان أهم المراكز الاقتصادية الرئيسية والضرائب المرتبطة بها لعدة سنوات. ومن ناحية أخرى فإن الانتصار العسكري لن يتأتى إلا بتبعات مالية طائلة ممثلة في تمويل الجيش والمستنفرَين واستيراد الأسلحة والمعدات، مما يشكل عبئاً ثقيلاً على الموارد الشحيحة، وربما يجُر التزامات خارجية تؤثر سلباً على استقلالية المسار. كما أن الجيش سيواجه أزمة حادة في توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والخدمات الصحيّة والبنية التحتية شبه المنهارة، مما يؤثر على جوهريّاً على النشاط الاقتصادي. ويعزز كلَّ هذه الضغوط الاقتصادية بفقدان الدعم الدولي، حيث إن المؤسسات المالية الدولية لا تعترف بحكومة بورتسودان الداعمة للجيش، مما يحرمها من القروض والاستثمارات. كما أن العقوبات الغربية المفروضة تعيق قدرة الحكومة على الوصول إلى أصول الدولة السودانية المجمدة في الخارج. أما من حيث التجارة الداخلية والخارجية، فإن الحل العسكري بافتراض انتصار الجيش سيخلف فقدان السودان للسوق المحلي والخارجي بسبب تبعات الحرب وانعدام الأمن، فضلاً عن تراجع الإنتاج الزراعي والصناعي المؤدي إلى انخفاض الصادرات وزيادة أسعار السلع، خاصة أزمة الوقود وارتفاع تكاليف النقل المعوقة لحركة التجارة.
وبافتراض تحقيق انتصار عسكري للدعم السريع وحلفائه، فإنه سوف يواجَه بالاعتماد على اقتصاد (مافيوي) موازٍ قائم على تهريب الذهب، والنهب، والابتزاز، وربما يتلقى دعماً سريَّاً خارجيَّاً، إضافة إلى شبكات تهريب إقليمية. بيد أنه ربما لا يواجه بتحمل تكاليف لوجستية لقواته لان أغلبها تُموَّل نفسها ذاتيَّاً (لا مركزيَّاً) من موارد السيطرة الجغرافية. ويفاقم من حدة هذه المآلات الاقتصادية العزلة الاقتصادية الدولية، فالدعم السريع لا يحظى باعتراف دولي، مما يمنعه من الحصول على تمويل دولي أو استثمارات ذات مصداقية. وذلك فضلاً عن أن التعاملات المالية الخارجية للدعم السريع وحلفائه تحفها مصاعب جمّة بسبب العقوبات الدولية على شبكاته المالية. ونظراً لمحدوديّة خبرة الدعم السريع في إدارة الدولة فسيواجَه بصعوبات كبيرة في توفير الخدمات في كافة أنحاء السودان بسبب ضعف الموارد والكوادر، وانعدام البنية التحتية مما يجعل نقل الإمدادات والبضائع صعباً ومكلفاً. ومن ناحية أخرى ستواجِه الدعم السريع وحلفاءه تحديات كأداء في التحكم في الاقتصاد المحلي بسبب معاناة معظم الأسواق من الفوضى الأمنية وغياب مؤسسات الدولة، مما يحد من أي نشاط اقتصادي منظم.
أما بالنسبة للتحديات المشتركة التي ستواجه طرفي الحرب من خيار الحسم العسكري فإنهما يشتركان في مواجهة تحديات لا قبل لهما بها تشمل، فيما تشمل، انهيار قيمة الجنيه السوداني بتواصل فقدانه قدراً كبيراً من قيمته بسبب الحرب وصل إلى نحو 350%، مما يؤدي للتضخم الجامح الذي يؤجج السخط الشعبي عليهما. وتجدر الإشارة إلى ارتفاع معدلات التضخم بعد عامين من الحرب لأكثر من 400%، ووصلت نسبة البطالة إلى نحو 50%، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بـنحو 41%، وانخفضت الإيرادات العامة بنسبة تصل إلى 75%، حيث يقدر تراجع الجهد الضريبي إلى نحو 2% مقارناً بنحو 5% قبل اندلاع الحرب. كما أن انعدام الأمن وانتشار السلاح سيلقي بآثار سالبة على الاقتصاد تؤدي لهروب المستثمرين وانهيار القطاعات الإنتاجية، خاصة قطاع الزراعة المتضرر أصلاً من النزوح وانعدام الأمن، مما يؤدي لتفاقم انعدام الأمن الغذائي. كما أن الحسم العسكري سيقود كليهما لغياب النظام المصرفي الفعال نظراً للنهب والدمار الذي لحق بالبنوك مما يحصر معظم التحويلات المالية في السوق السوداء ويعيق التجارة والاستثمارات. كما أن الشركاء التجاريين للسودان سيحجمون عن التعامل مع أي من الطرفين بسبب الغموض السياسي والتردي الاقتصادي. وستؤدي كل هذه التحديات لفقدان الثقة الشعبية في طرفي الحرب بتجلي اهتمامهما بالبقاء في السلطة أكثر من إصلاح الاقتصاد. وسيشكل تدمير البنى التحتية إحدى التحديات الكأداء التي تواجه الطرف المنتصر عسكرياً حيث انهارت شبكات الكهرباء، المياه، الطرق، المدارس، والمستشفيات، إضافة إلى انهيار مؤسسات الدولة التنفيذية والمالية، ما يصعب إعادة تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين. ومن ناحية أخرى فأي طرف ينتصر عسكرياً سيواجه ديوناً خارجية ضخمة تتجاوز 62 مليار دولار، معظمها متراكم من فوائد التأخير، مما يعقد أي جهود مستقبلية لإعادة الإعمار أو التنمية ويجعل إدارة الديون تحدياً مركزياً لأي حكومة منتصرة عسكرياً. ولا شك فإن الانتصار العسكري سيورث من يحققه كارثة إنسانية غير مسبوقة بسبب النزوح الجماعي للسكان، ونقص الغذاء والمياه والأدوية، وتفاقم الأوضاع الصحية، مما يتطلب استجابة عاجلة وموارد ضخمة غير متوفرة لإعادة الاستقرار المجتمعي. وفوق كل ذلك فإن الطرف المنتصر عسكرياً سيواجه بعزلة ومقاطعة دولية تفاقم ضعف الثقة المحلية والدولية بسبب تواصل الحكم العسكري وغياب حكومة مدنية موحدة مما يؤدي لحرمان السودان من الدعم المالي والمنح والقروض الدولية الضرورية لتخفيف الديون وإعادة الإعمار. ويُرجَِّح أن يؤدي ذلك إلى انفجار الاضطرابات الأمنية والسياسية التي ربما تجعل استمرار الطرف المنتصر حاكماً للسودان صعب التحقيق.
تشير هذه المآلات الاقتصادية القاتمة الناتجة عن الانتصار الافتراضي لأي من طرفي الحرب في إطار الحل العسكري إلى حتمية اللجوء لخيار الحل التفاوضي. ذلك أن اقتصادات كسر العظم لإنهاء الحرب الكارثية في السودان تبرز ضرورة اللجوء للحل السياسي كسيناريو أقل تكلفة وأكثر واقعية اقتصادية لجميع الأطراف، وفوقهم كلهم أقل تكلفة للشعب السوداني الذي دخلت معاناته من ويلات هذه الحرب الفاجرة عامها الثالث. حيث إن اختيار طرفي الحرب لوسيلة إنهائها يجب ألا ينحصر فقط في الموازين العسكرية الوهميَّة، بل يجب أن يُبنَى الخيار على حسابات اقتصادية دقيقة تتعلق بالخسائر والمكاسب واستدامة النتائج. وعليه يتحتم على الجيش والدعم السريع وكذلك القوى المدنية فهم أبعاد الاقتصاد السياسي لمآلات الحرب، وما يوفره الاقتصاد السياسي من فرص، أو يلحقه من ضرر قبل الاندفاع الاشتهائي نحو الحل العسكري المُتَوَهَّم الذي يعود عليهما وعلى الشعب السوداني بمآلات وَبِيلة.
melshibly@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحل العسکری الدعم السریع طرفی الحرب کما أن ة بسبب
إقرأ أيضاً:
الإنفاق العسكري العالمي يسجل أعلى مستوى له منذ نهاية الحرب الباردة: هل نحن على حافة سباق تسلح جديد؟
شمسان بوست / وكالات:
كشف تقرير صادر عن مركز أبحاث رائد في مجال النزاعات أن الإنفاق العسكري العالمي بلغ 2.72 تريليون دولار في 2024، بزيادة 9.4 عن عام 2023 وهو أكبر ارتفاع على أساس سنوي منذ نهاية الحرب الباردة على الأقل.
وأظهرت البيانات الصادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن التوتر الجيوسياسي المتصاعد شهد زيادة في الإنفاق العسكري في جميع مناطق العالم، مع نمو سريع على وجه الخصوص في كل من أوروبا والشرق الأوسط.
وقال المعهد “رفعت أكثر من 100 دولة حول العالم إنفاقها العسكري في عام 2024”. وأضاف “مع تزايد إعطاء الحكومات الأولوية للأمن العسكري، وغالبا ما يكون ذلك على حساب مجالات الميزانية الأخرى، يمكن أن يكون للمقايضات الاقتصادية والاجتماعية تداعيات كبيرة على المجتمعات لسنوات قادمة”.
وأدت الحرب في أوكرانيا والشكوك حول التزام الولايات المتحدة تجاه حلف حلف شمال الأطلسي إلى ارتفاع الإنفاق العسكري في أوروبا (بما في ذلك روسيا) بنسبة 17 بالمئة، مما دفع الإنفاق العسكري الأوروبي إلى ما هو أبعد من المستوى المسجل في نهاية الحرب الباردة.
بلغ الإنفاق العسكري الروسي نحو 149 مليار دولار في 2024، بزيادة 38 بالمئة عن 2023 وضعف المستوى المسجل في عام 2015. ويمثل ذلك 7.1بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا و19 بالمئة من إجمالي الإنفاق الحكومي.
ونما إجمالي الإنفاق العسكري الأوكراني بنسبة 2.9 بالمئة ليصل إلى 64.7 مليار دولار، وهو ما يعادل 43 بالمئة من الإنفاق الروسي. وبنسبة 34 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. وكان العبء العسكري لأوكرانيا هو الأكبر من أي دولة في عام 2024.
وقال معهد ستوك هولم “تخصص أوكرانيا في الوقت الراهن جميع إيراداتها الضريبية لجيشها. في مثل هذا الحيز المالي الضيق، سيكون من الصعب على أوكرانيا الاستمرار في زيادة إنفاقها العسكري”.
وارتفع الإنفاق العسكري للولايات المتحدة بنسبة 5.7 بالمئة ليصل إلى 997 مليار دولار، وهو ما يمثل 66 بالمئة من إجمالي إنفاق حلف حلف شمال الأطلسي و37 بالمئة من الإنفاق العسكري العالمي في عام 2024.
وتواصل إسرائيل حربها في قطاع غزة، وفي عام 2024 ارتفع إنفاقها العسكري بنسبة 65% ليصل إلى 46.5 مليار دولار، وهذه أكبر زيادة منذ حرب الأيام الستة في عام 1967، وفق سيبري.
في المقابل، انخفض إنفاق إيران بنسبة 10% ليصل إلى 7.9 مليارات دولار في عام 2024، “رغم انخراطها في النزاعات الإقليمية”، بحسب سيبري، لأن “تأثير العقوبات حد بشدة من قدرتها على زيادة الإنفاق”.
وبعد الولايات المتحدة، تأتي الصين في المرتبة الثانية وهي تستثمر في تحديث قواتها المسلحة وتوسيع قدراتها في مجال الحرب السيبرانية وترسانتها النووية، وهي الآن تستحوذ على نصف الإنفاق العسكري في آسيا وأوقيانوسيا. وفي عام 2024، زادت ميزانيتها العسكرية بنسبة 7% لتصل إلى 314 مليار دولار.