الأصل لهذا الكتاب رسالة للدكتوراة من جامعة الخرطوم في 2015 عنوانها "حقيبة الفن والحركة الوطنية". وكان لي شرف الإشراف عليها حتى دافعت عنها عفاف عبد الحفيظ بنجاح في 2015.
مبحث الكتاب عن كيف تخيلت أغنية الحقيبة في عشرينات القرن الماضي وثلاثينياته لشعراء وغاوين ومغنيين الوطن المأمول بعد جلاء الاستعمار في مصطلح عربي إسلامي خالص.

وهو تخيل وقع في سياق حركة وطنية في مركز دائرة الحكم اقتصرت على القومية الشمالية في غيبة شبه كاملة من شركاء الوطن الآخرين.
مكمن قوة البحث الذي من وراء هذا الكتاب أنه عقد في حلال البحث مسألتين بصورة غير مسبوقة. والمسألتان هما الحركة الوطنية وتراث حقيبة الفن. فمباحث الحركة الوطنية معروفة. فهي أما ركزت على السردية السياسة (محمد عمر، مدثر عبد الرحيم، فدوى عبد الرحمن، حسن أحمد إبراهيم مثلاً)، أو نظرت في مؤثرات لها على الشعر السوداني (أو العكس)، أو الصحافة (محمد محمد علي، محجوب عبد المالك). أما الحقيبة، من الجهة الأخرى، فقد اقتصرت دراستها على كتب عشوائية عن مناسباتها، وأصولها، وبلاغتها، وتصويرها لمجتمعها وهلمجرا. ومتى قاربت الحقيبة الحركة الوطنية كانت عن المعاني العامة والعناوين والشجن الوطني.
دخل الكتاب على الحركة الوطنية من زاوية تخيلها للأمة على بينة من نظرية الأكاديمي بنيدكت أندرسون المعروفة ب"الأمم المتخيلة" والتي لم يسبق لبحثنا في الحركة الوطنية توظيفها إلا في ما كتبت الأمريكية هزر شاركي ربما. فاستصحب الكتاب بهذا المدخل المبتكر الحقيبة كأخطر وعاء حامل لذلك الخيال. ومبحث الكتاب بالنتيجة هو الأول من نوعه بتجديده عروق الفكر في دراسة الحقيبة ودراسة الحركة الوطنية معاً.
يوطن الكتاب مبحث الحقيبة في علم الفولكلور بجهد بحثي منقطع النظير ومقنع. فأخذ بالتعريف الذي جاء به الفلكلوري الأمريكي آلان دنديز، وأستاذه رتشارد دورسون قبله، ل "فولكfolk " (شعب) فخرجا به من حظيرة الريف والفلاح الأوربيين في دارج استخدامه في بريطانيا مثلاً إلى بيئة امريكية لم تعرف "الفلاح". وأضطرت المؤلفة لتوسع ضيق "الفلولك" الأوربي لتشمل به أهل الحضر. فصارت المدينة مثل أم درمان منشأة فولكلورية. وصار إبداعها "الشعبي" فولكلوراً. وعليه عدّت الكاتبة الحقيبة "فولكلوراً" في المدينة وسمت فولكها ب"مجتمع الحقيبة".
ثم ركزت المؤلفة على جانب آخر في تعريف الحقيبة كفولكلور. فالفولكلور غالباً ما كان مما نتداوله شفاهياً. فوجدت المؤلفة أن معارف الحقيبة تجري مشافهة بصورة غالبة من حيث الأداء، وتناقل أخبار مجتمعها، وتاريخها. كان هذا مبررها للقيام بعمل حقلي شامل بين مجتمع الحقيبة المعاصر من مثل اتحاد الغناء الشعبي مما يقوم به كل فولكلوري لجمع مادته من شفاه الناس وما في صدورهم. ثم نظرت للحقيبة كفلكلور من زاوية أنه فعل لا يكف عن التجدد والبروز، ولم يصبح فعل الماضي الذي كان الظن أنه موضوع الفولكلور.
ومن أهم أبواب توطين المؤلفة للحقيبة كفولكلور هو نظرها الممحص في علاقة الفولكلور والحركة القومية. فليس من علم ارتبط بمثل هذه الحركة كالفولكلور. فخرجت أمم وسط وشرق أوربا من عباءة الفولكلور في مثل كتابات الألماني جوان قوتفريد هردر، ومن الشغف بحكايات الأخوة قرم الألمان. فمادة الفولكلور عند المفكرين القوميين هي مستودع الأصالة و"شهادة بحث" الأمة التي ظلت حية في صدور غمار الناس دون الصفوة ممن تخطفتها الثقافات الأجنبية الزاعمة الرقي. ولذا بدأت الحركات القومية في وسط وشرق أوربا بالذات بحملات جمع الفولكلور وترويجه لاسترداد الأمة من براثن استتباع الآخرين.
أميز ما تجد في الكتاب هو كتابة المؤلفة لمسرد الحركة الوطنية. فهي شديدة التوفيق من الوهلة الأولى في الإمساك بعظم ظهر فكرة ذلك المسرد وموالاته حتى غاياته. فبحثت في فصلها الثاني مثلاً عن الحركة الوطنية من مصادر الأدب النظري عن القومية. وأوفت الغاية بالرجوع إلى الياس خدوري وتوماس هودجكن وإرنست قلنر وأنطوني سميث وغيرهم من المنظرين الذين لا يكون بحث في الحركات القومية بدون النظر في كتاباتهم. كما أنها فصّلت محاضن الحركة الوطنية بما تجاوز مشهور حركة الخريجين وندواتها ومجلاتها إلى عرض واف لمواعينها في الخدمة البريدية، والسكك الحديدية، ونازع الحضر. وتغلغت أكثر لتبحث أدوار للسينما والتصوير والقصة القصيرة والنقد الاجتماعي كمناشئ للحركة الوطنية. فكتبت بذلك فصلاً لن يفوته باحث أو مهتم بالتاريخ المعاصر للسودان.
ونواصل

 

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحرکة الوطنیة

إقرأ أيضاً:

منظمة دولية: السودان يمضي نحو “الانهيار الشامل”

حذرت منظمة دولية من أن السودان يمضي نحو "الانهيار الشامل" تحت أنظار و"صمت" العالم، مشيرة إلى أن مؤشرات الانهيار باتت تتسارع بشكل مقلق في ظل التبعات الكارثية للحرب المستمرة في البلاد منذ أكثر من 19 شهرا، وقال الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين يان إيغلاند في ختام زيارته للسودان، الجمعة، إن عاما ونصف من الحرب أطلق العد التنازلي"بلا هوادة نحو الانهيار التام في السودان"، حيث يعاني أكثر من 20 مليون شخص من العنف المستعر والجوع المتزايد والنزوح القسري.

ووصف إيغلاند الأزمة الحالية في السودان بأنها "أسوأ أزمة إنسانية في العالم على الإطلاق"، مشيرا إلى الحاجة لإيقاظ العالم وإجباره على فعل كل ما يمكن لإنقاذ حياة الملايين من السودانيين. وأوضح: "عندما اندلعت الحرب في دارفور قبل عشرين عاما، كان لدينا رؤساء ورؤساء وزراء منخرطون في وقف الفظائع هناك، لكن اليوم ورغم أن هناك أضعافا مضاعفة من الأرواح على المحك، إلا أن العالم يقابلها بصمت يصم الآذان".

وعبر إيغلاند عن فظاعة المأساة المتزايدة في البلاد، بالقول: "لقد رأيت للتو بأم عيني، في دارفور وفي الشرق، النتيجة المدمرة للهجمات العشوائية والحرب العبثية.. تخبرنا المجتمعات التي نخدمها عن عنف مروع حيث دمرت قرى بأكملها وأعدم ومدنيون واغتصبت نساء وتدمرت البيوت بسبب القصف والغارات الجوية".

ورأى أن السودان يعيش سياسة "الأرض المحروقة" وبات قريبا من "السقوط الحر" في ظل استمرار المعاناة ومواجهة الملايين خطر المجاعة.

حذر من أن التأخير في اتخاذ الإجراءات والجهود الدبلوماسية غير الكافية من شأنه أن يزيد من معاناة الشعب السوداني.

تبعات صادمة

وتسببت الحرب المستمرة في السودان منذ منتصف أبريل 2023، في تبعات إنسانية وأمنية واقتصادية صادمة للغاية.

ففي الجانب الإنساني، شردت الحرب أكثر من ثلث السكان وجردت نحو 18 في المئة من الأسر من مصادر دخلها تماما، وأعجزت 70 في المئة منها عن إلحاق أطفالها بالمدارس، كما تراجعت نسبة القادرين على الوصول إلى الخدمات الصحية إلى أقل من 15 في المئة من مجمل السكان المقدر تعدادهم بنحو 48 مليون نسمة، بحسب دراسة أجرتها الأمم المتحدة.

وانخفضت نسبة الأسر الحضرية التي تتمتع بالأمن الغذائي من حوالي 54 في المئة إلى 20 في المئة فقط، يواجه 76 في المئة منهم صعوبات كبيرة في تلقي المساعدات.

اقتصاديا، سرعت الحرب من التدهور الاقتصادي المريع الذي تعيشه البلاد، وسط تقديرات تشير إلى خسائر شهرية مباشرة بنحو 500 مليون دولار.

وتراجع الناتج الإجمالي بأكثر من 70 في المئة، وفقدت العملة الوطنية أكثر من 400 في المئة من قيمتها حيث يجري تداول الدولار الواحد حاليا عند نحو 2300 جنيه مقارنة مع 600 جنيها قبل اندلاع الحرب، كما ارتفعت معدلات التضخم لأكثر من 200 في المئة وتضاعفت أسعار السلع الأساسية بنسب وصلت إلى 400 في المئة.

أما في الجانب الأمني، فقد تسبب القصف الجوي والأرضي والوجود الكثيف للمليشيات المسلحة في انهيار كامل في العديد من مناطق البلاد.

أبرز مظاهر الانهيار

أكثر من 61 ألف شخص لقوا حتفهم في الخرطوم بين أبريل 2023 ويونيو 2024، بحسب كلية لندن للصحة والطب الاستوائي.
خلال أكتوبر 2024، أدت الهجمات على المدنيين والقتال في جميع أنحاء البلاد إلى مقتل نحو 2600 شخص وتشريد أكثر من 27 ألف شخص، بحسب المجلس النرويجي للاجئين.
تسبب الصراع في السودان في أكبر أزمة نزوح في العالم، فقد نزح أكثر من 11 مليون شخص داخل البلاد، وعبر 3 ملايين آخرون الحدود للجوء في الدول المجاورة، بحسب الأمم المتحدة.
حرمت الحرب نحو 17 مليون طفل من مواصلة تعليمهم، فيما يعاني 3.7 مليون طفل من سوء التغذية ويعيش أكثر من 3 ملايين طفل في مخيمات نزوح تفتقد لأبسط مقومات الحياة، بحسب اليونسيف.
فقد 60 في المئة من السودانيين مصادر دخلهم وخسر الاقتصاد مئات المليارات وتعطلت 80 في المئة من قدراته.
خرجت نحو 70 في المئة من المؤسسات الصحية عن الخدمة في ظل شح كبير في الدواء وانتشار واسع للأمراض الوبائية والمعدية، بحسب نقابة أطباء السودان.
تسود معظم مناطق البلاد فوضى عارمة في ظل شمول الحرب أكثر من 70 في المئة من مساحة البلاد ووجود أكثر من 100 حركة مسلحة.

سكاي نيوز عربية - أبوظبي  

مقالات مشابهة

  • عالم “الجربندية” السياسية
  • منظمة دولية: السودان يمضي نحو “الانهيار الشامل”
  • “الوطنية لحقوق الإنسان” توثق وفاة طالب بالكلية الجوية بمصراتة جراء التعذيب
  • مسيرات حاشدة بالجوف بعنوان “مع غزة ولبنان.. دماء الشهداء تصنع النصر”
  • مسيرات حاشدة بذمار تحت شعار “مع غزة ولبنان .. دماء الشهداء تصنع النصر”
  • 83 مسيرة بحجة بعنوان “مع غزة ولبنان.. دماء الشهداء تصنع النصر”
  • أبناء مشاهير هوليوود يرفضون إرث آبائهم: تمرد أم بحث عن هوية مستقلة؟ ( تقرير)
  • تحذيرات هامة للجميع.. السعودية تعلن عن عقوبة مشددة عند عدم إظهار الهوية الوطنية أو هوية مقيم في هذه الأماكن
  • الصكوك الوطنية تطلق صك “زايد وراشد”
  • استقالة ثلاثة من نواب حزب الحركة القومية في تركيا