حقيبة الفن وتخيل الأمة: مقدمتي لكتاب “هوية السودان من خلال نصوص الحقيبة” لعفاف عبد الحفيظ (1-2)
تاريخ النشر: 26th, August 2023 GMT
الأصل لهذا الكتاب رسالة للدكتوراة من جامعة الخرطوم في 2015 عنوانها "حقيبة الفن والحركة الوطنية". وكان لي شرف الإشراف عليها حتى دافعت عنها عفاف عبد الحفيظ بنجاح في 2015.
مبحث الكتاب عن كيف تخيلت أغنية الحقيبة في عشرينات القرن الماضي وثلاثينياته لشعراء وغاوين ومغنيين الوطن المأمول بعد جلاء الاستعمار في مصطلح عربي إسلامي خالص.
مكمن قوة البحث الذي من وراء هذا الكتاب أنه عقد في حلال البحث مسألتين بصورة غير مسبوقة. والمسألتان هما الحركة الوطنية وتراث حقيبة الفن. فمباحث الحركة الوطنية معروفة. فهي أما ركزت على السردية السياسة (محمد عمر، مدثر عبد الرحيم، فدوى عبد الرحمن، حسن أحمد إبراهيم مثلاً)، أو نظرت في مؤثرات لها على الشعر السوداني (أو العكس)، أو الصحافة (محمد محمد علي، محجوب عبد المالك). أما الحقيبة، من الجهة الأخرى، فقد اقتصرت دراستها على كتب عشوائية عن مناسباتها، وأصولها، وبلاغتها، وتصويرها لمجتمعها وهلمجرا. ومتى قاربت الحقيبة الحركة الوطنية كانت عن المعاني العامة والعناوين والشجن الوطني.
دخل الكتاب على الحركة الوطنية من زاوية تخيلها للأمة على بينة من نظرية الأكاديمي بنيدكت أندرسون المعروفة ب"الأمم المتخيلة" والتي لم يسبق لبحثنا في الحركة الوطنية توظيفها إلا في ما كتبت الأمريكية هزر شاركي ربما. فاستصحب الكتاب بهذا المدخل المبتكر الحقيبة كأخطر وعاء حامل لذلك الخيال. ومبحث الكتاب بالنتيجة هو الأول من نوعه بتجديده عروق الفكر في دراسة الحقيبة ودراسة الحركة الوطنية معاً.
يوطن الكتاب مبحث الحقيبة في علم الفولكلور بجهد بحثي منقطع النظير ومقنع. فأخذ بالتعريف الذي جاء به الفلكلوري الأمريكي آلان دنديز، وأستاذه رتشارد دورسون قبله، ل "فولكfolk " (شعب) فخرجا به من حظيرة الريف والفلاح الأوربيين في دارج استخدامه في بريطانيا مثلاً إلى بيئة امريكية لم تعرف "الفلاح". وأضطرت المؤلفة لتوسع ضيق "الفلولك" الأوربي لتشمل به أهل الحضر. فصارت المدينة مثل أم درمان منشأة فولكلورية. وصار إبداعها "الشعبي" فولكلوراً. وعليه عدّت الكاتبة الحقيبة "فولكلوراً" في المدينة وسمت فولكها ب"مجتمع الحقيبة".
ثم ركزت المؤلفة على جانب آخر في تعريف الحقيبة كفولكلور. فالفولكلور غالباً ما كان مما نتداوله شفاهياً. فوجدت المؤلفة أن معارف الحقيبة تجري مشافهة بصورة غالبة من حيث الأداء، وتناقل أخبار مجتمعها، وتاريخها. كان هذا مبررها للقيام بعمل حقلي شامل بين مجتمع الحقيبة المعاصر من مثل اتحاد الغناء الشعبي مما يقوم به كل فولكلوري لجمع مادته من شفاه الناس وما في صدورهم. ثم نظرت للحقيبة كفلكلور من زاوية أنه فعل لا يكف عن التجدد والبروز، ولم يصبح فعل الماضي الذي كان الظن أنه موضوع الفولكلور.
ومن أهم أبواب توطين المؤلفة للحقيبة كفولكلور هو نظرها الممحص في علاقة الفولكلور والحركة القومية. فليس من علم ارتبط بمثل هذه الحركة كالفولكلور. فخرجت أمم وسط وشرق أوربا من عباءة الفولكلور في مثل كتابات الألماني جوان قوتفريد هردر، ومن الشغف بحكايات الأخوة قرم الألمان. فمادة الفولكلور عند المفكرين القوميين هي مستودع الأصالة و"شهادة بحث" الأمة التي ظلت حية في صدور غمار الناس دون الصفوة ممن تخطفتها الثقافات الأجنبية الزاعمة الرقي. ولذا بدأت الحركات القومية في وسط وشرق أوربا بالذات بحملات جمع الفولكلور وترويجه لاسترداد الأمة من براثن استتباع الآخرين.
أميز ما تجد في الكتاب هو كتابة المؤلفة لمسرد الحركة الوطنية. فهي شديدة التوفيق من الوهلة الأولى في الإمساك بعظم ظهر فكرة ذلك المسرد وموالاته حتى غاياته. فبحثت في فصلها الثاني مثلاً عن الحركة الوطنية من مصادر الأدب النظري عن القومية. وأوفت الغاية بالرجوع إلى الياس خدوري وتوماس هودجكن وإرنست قلنر وأنطوني سميث وغيرهم من المنظرين الذين لا يكون بحث في الحركات القومية بدون النظر في كتاباتهم. كما أنها فصّلت محاضن الحركة الوطنية بما تجاوز مشهور حركة الخريجين وندواتها ومجلاتها إلى عرض واف لمواعينها في الخدمة البريدية، والسكك الحديدية، ونازع الحضر. وتغلغت أكثر لتبحث أدوار للسينما والتصوير والقصة القصيرة والنقد الاجتماعي كمناشئ للحركة الوطنية. فكتبت بذلك فصلاً لن يفوته باحث أو مهتم بالتاريخ المعاصر للسودان.
ونواصل
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحرکة الوطنیة
إقرأ أيضاً:
حماية الإعلام الحر في السودان- “السودانية 24” بين مطرقة السلطة وسندان الحقيقة
في زمنٍ يُفترض أن تكون فيه الكلمةُ سلاحًا لبناء الوطن، تتحول بعض الأصوات الناقدة إلى أهدافٍ تُحاصر بحملات ممنهجة، وكأنَّ سردية الوطن لا تكتمل إلا بإسكات من يجرؤون على سؤالها. في هذا المشهد، تبرز قناة "السودانية 24" كضحيةٍ جديدةٍ لمعركةٍ قديمةٍ بين الإعلام الحر وقوى تحاول اختطاف الحقيقة لصالح أجندات ضيقة. ما حدث مع برنامج "دائرة الحدث"، وما تعرَّض له ضيوفه من تهديدات، ليس مجرد حادثة عابرة، بل هو اختبارٌ حقيقيٌّ لإرادة السودانيين في الدفاع عن حقهم في إعلامٍ لا يُزيّف الواقع، ولا يخضع لابتزاز السلطة.
السياق التاريخي: إعلام الثورة ومخلفات النظام البائد
منذ ثورة ديسمبر المجيدة، حمل الإعلام السوداني أمانةً ثقيلة: أن يكون صوتًا للشارع، ورقيبًا على السلطة، وجسرًا بين الثورة ومطالبها. لكن تركة النظام السابق لم تختفِ، فما زالت ثقافة التكميم والتخويف تُلوّح في الأفق كلما ارتفع صوتٌ ينتقد الفساد أو يفضح التواطؤ. قناة "السودانية 24"، التي تأسست في خضمِّ الثورة، مثّلت نموذجًا للإعلام الوطني المستقل، الذي رفض أن يكون بوقًا لجهةٍ سياسية، أو أداةً لتمرير الأجندات الخارجية. اختارت أن تكون منصةً للحوار الجريء، تستضيفُ المختلفين دون إقصاء، وتناقشُ الملفات الشائكة دون تردد. هذا الجرأةُ نفسها هي ما جعلتها تحت مجهر القوى التي لا تريد للضوء أن يُسلَّط على عوراتها.
تفاصيل الأزمة: حين يُصبح النقد جريمة
لم تكن حلقة برنامج "دائرة الحدث" التي ناقشت "فشل التدخلات الخارجية وقصور الحلول الداخلية" سوى حلقةٍ في مسارٍ طويلٍ من النقاشات الجادة التي تبثها القناة. لكن ما ميّز هذه الحلقة هو حضورُ ضيوفٍ مثل الأستاذ محمد سيد أحمد الجاكومي، الذي يُعتبر صوتًا نقديًّا لاذعًا لسياسات الحكومة الانتقالية، والأديب ماهر أبو الجوخ، الذي يُعبِّر عن تيارٍ ثقافيٍّ رافضٍ للوصاية الأيديولوجية على الإبداع. طرح الضيوان أسئلةً حرجةً عن دور المجتمع الدولي في تعقيد الأزمة السودانية، وعن تقصير النخبة المحلية في تقديم حلولٍ جذرية. لم تكن الأسئلة جديدة، لكنها – للأسف – اصطدمت بجدارٍ من الرفض العنيف، تحوَّل إلى تهديداتٍ مباشرةٍ للضيوف والطاقم الصحفي، وإلى حملة تشهيرٍ تُتهم فيها القناة بـ"خيانة الأمن القومي".
الرسائل الخفية: لماذا تُخاف بعض الأصوات؟
وراء هذه الحملة تكمن مخاوفُ عميقةٌ من خطابٍ يرفض الانصياع للوصاية المزدوجة: وصاية الخارج الذي يُدير الأزمات من خلال مبادراتٍ شكلية، ووصاية الداخل الذي يُريد إعادة إنتاج نظام الحزب الواحد تحت شعاراتٍ ديمقراطيةٍ زائفة. فالقناة، عبر برامجها، كشفت عن فشل المسار التفاوضي الحالي، وعن تنامي النفوذ الخارجي في صناعة القرار السوداني، وهو ما يُهدد مصالحَ فصائلَ داخليةٍ تعتمد على التمويل الأجنبي، أو تسعى لتحقيق مكاسبَ شخصيةٍ تحت غطاء "الوطنية".
الأمر الأكثر إثارةً للقلق هو تحوُّل الخطاب النقدي إلى "جريمة أمنية"، حيث تُستخدم مصطلحات مثل "الخيانة" و"تهديد الأمن القومي" كأدواتٍ لقمع الحريات. هذه الآليةُ نفسها استخدمها النظام السابق لإسكات المعارضين، وهي تُعيد اليوم إنتاج نفسها تحت مسمياتٍ جديدة، وكأنَّ الثورة لم تُسقط نظامًا فحسب، بل يجب أن تسقط معه عقليةَ الخوف من الكلمة.
التأثيرات المجتمعية: حين يتحول الإعلام إلى ساحة حرب
لا يقتصر خطر هذه الحملات على الصحفيين وحدهم، بل يمتد ليهدد الوعي الجمعي للسودانيين. فإسكاتُ منصاتٍ مثل "السودانية 24" يُعزز الإحباطَ الشعبي، ويدفع المواطنين إلى الاعتماد على مصادرَ إعلاميةٍ أجنبية، تفقد معها الدولةُ سيطرتها على سردية هويتها. كما يُرسخ ثقافةَ الخوف، حيث يتراجع المثقفون والناشطون عن المشاركة في النقاش العام، خشيةَ التهديد أو التشويه.
في المقابل، تُصبح المنصاتُ الأجنبيةُ ملاذًا للرأي الآخر، لكنها – للأسف – لا تخلو من تحيزاتٍ تخدم مصالحَ دولها. وهكذا، يُحرم السودان من إعلامٍ وطنيٍّ حرٍّ قادرٍ على موازنة الخطاب، وتقديم روايةٍ محليةٍ للأحداث، بدلًا من رواياتٍ مستوردةٍ تُشوّه الواقع.
الدور التاريخي للإعلام: من التأسيس إلى التضحيات
ليست هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها الإعلام السوداني للاستهداف. فخلال عقود النظام الديكتاتوري، سُجن الصحفيون، وعُذّبوا، وأُغلقت الصحف، لأنها تجرأت على قول الحقيقة. لكن الثورة أثبتت أن الإعلام الحر هو الضامن الأول لاستمرار مسار التغيير. فالصحفيون الذين وثّقوا انتهاكات النظام السابق، والذين نقلوا صور الشهداء إلى العالم، هم أنفسهم من يحتاجون اليوم إلى الحماية، لا إلى التهديد.
"السودانية 24" ليست مجرد قناة، بل هي جزء من ذاكرة الثورة. فبرامج مثل "دائرة الحدث" كانت من أوائل المنصات التي فتحت حوارًا مع قوى الثورة المهمشة، وناقشت ملفاتٍ مثل الفساد العسكري، وانتهاكات مليشيات النظام السابق. إسكاتها يعني محو جزءٍ من تاريخ النضال السوداني الحديث.
النداء الأخير: وقفة قبل فوات الأوان
أمام هذا الخطر الداهم، لا بد من وقفةٍ جادةٍ من كل مكونات الشعب السوداني:
الحكومة الانتقالية: عليها أن تفي بوعود الثورة، وتحمي الإعلام الحر كحقٍّ دستوري، لا أن تكون طرفًا في انتهاكه. فمهاجمة منصاتٍ وطنيةٍ تحت ذرائعَ أمنيةٍ واهيةٍ يُعيد إنتاج نفس أدوات القمع التي ثار عليها الشعب.
المجتمع المدني: يجب أن يتحول من دور المتفرج إلى الفاعل، عبر حملات ضغطٍ محليةٍ ودولية، ورفع الدعاوى القضائية ضد من يهددون الصحفيين. فالصمتُ اليوم يعني المشاركة في الجريمة غدًا.
الإعلاميون أنفسهم: عليهم التمساك بوحدة الصف، ورفض الانقسامات التي تزرعها السلطة. فالتاريخ لن يرحم من يقف في الصف الخاطئ.
الشعب السوداني: عليه أن يدرك أن معركة الإعلام الحر هي معركته. فمن دون إعلامٍ صادقٍ، لن تُبنى دولةٌ ديمقراطية، ولن تُحاسب السلطة، ولن تُحفظ حقوق الضحايا.
الخاتمة: الكلمة.. الباقية
في النهاية، تبقى الكلمةُ أقوى من الرصاص، والحقيقةُ أبقى من التهديد. قد تُغلق قناة، أو يُسجن صحفي، لكن روح الثورة التي أطلقتها أصواتُ الشباب في الشوارع لن تموت. "السودانية 24" ليست مجرد شاشةٍ تبث الأخبار، بل هي رمزٌ لإرادة شعبٍ يرفض أن يُعاد إلى زمن الظلام. فليكن ما يحدث اليوم جرس إنذارٍ للجميع: أن الوطن لا يُبنى بأكاذيب السلطة، بل بأقلامٍ ترفض أن تنحني.
zuhair.osman@aol.com