بعد أن أنجزت الحرب الدائرة في السودان ـ إن كان للحرب إنجاز- بعد شهرها الرابع مهامها، تبودلت الاتهامات وتعالت أصوات التخوين والعمالة بين السياسيين السودانيين، وذلك بإلقاء التهم حول من يتحمل مسؤولية الحرب، في تنصل واضح من نتيجة ما آلت إليه الحرب، التي لم تقد إياً من طرفي الصراع إلى الهدف الذي اختيرت له الحرب، كوسيلة ناجزة للوصول إلى نتيجة سعت الأجندات السياسية إلى تحقيقها.
إن الهبة الشعبية في ديسمبر 2019 التي أسقطت حكومة الإنقاذ بعد ثلاثين عاماً من التربع على السلطة، مارست كل ما هو متاح للاستمرار كثورة، لتضاف إلى سجل ثورتين في تاريخ البلد السياسي، إلا إنها وكغيرها من الثورات رفعت شعارات كان أبرزها حرية وسلام وعدالة، لتنتهي إلى نقيضها بفعل ردة الفعل المناوئة للتغيير. ولأن المسافة كبيرة بين الشعارات والتطبيق، كان لا بد من أن تعترضها عقبات، بين شبح دولة عميقة تحاول في عناد العودة، وقوة مقبلة تعمل على إزاحتها بأدوات لا تملك من مفاتيحها إلا الخطابة، وكان مصيرها مثل ثورات الربيع العربي، حيث لم يملك الثوار من الشباب زمام المبادرة، أو القرار في بحر متلاطم من تدخلات إقليمية ودولية، ويبقى قادة التغيير في منطقة يتكثف حولها الخيال السياسي أكثر من الفعل التنفيذي، الذي يحيل الشعارات إن لم تكن الأحلام إلى سياسات تجد طريقها إلى الواقع.
وفيما بدا أن كلفة الحرب غير المحسوبة قد تجاوزت كل التوقعات، على أكثر من صعيد ببشاعة تداعياتها الكارثية، ودفع ثمنها مواطنون في بلد ثلث سكانه يعيشون تحت خط الفقر، وتعاني دولته من علل بنيوية متراكمة، ولكن تبقى السياسة السودانية مفارقة للواقع في تقديراتها التي دائماً ما تنتهي إلى نتائج كارثية، لا يأبه لها الساسة طالما أن المساءلة القانونية والجنائية والتاريخية غائبة. والظاهرة التي حار بشأنها المراقبون حالة أن تكون الحرب والصراعات الدموية، بين أجهزة دولة حكومة مستميتة في أخذ الصراع بين معارضيها إلى أقصى مدى تدميري، ومكوناتها القومية والسياسية، حالة مستديمة وظاهرة إنسانية تراجيدية جعلت من جغرافيته سوح معارك، ومن تاريخه فصل مملاً من تقتيل لا يتوقف شاركت فيه كل الأطراف بمكوناتها السياسية والجهوية والعقائدية. ولم يكن الخلاف كما تروج له جماعات النظام السابق، التي باتت تعرف بالفلول من أن الاتفاق الإطاري سبب في اندلاع الحرب التي اشتعلت في الخامس عشر من أبريل الماضي، سبقتها نذر انطلقت من عدة جبهات. وترى التقارير الاستقصائية، وربما المتابع للشأن السوداني، كيف أن أنصار النظام السابق كانوا يستعدون ويخططون للعودة بدعاوى مختلفة، ولكنها تنتهي إلى الوصول إلى سدة الحكم، أكان ذلك عن طريق التحالف مع قوى الجيش، الذي تسيطر عليه كوادرها، أو أذرعها العسكرية الأخرى من ميليشيات ظل، وغيرها من تنظيمات العنف السياسي. وبالنتيجة يتحمل طرفا الصراع الحرب وما آلت إليه من نتائج كارثية، ومن ورائهما حلفاؤهما المستترين وأجندتهما المعلنة والخفية في تفكيك الدولة، وإعادتها بكلفة باهظة لن تكافئها فرص السلام الغائبة والمستحيلة، فعبث الصراعات عادة ما يُغيِّب الرؤية نحو مسار السلام، فيبدو أن السلام في مقابل الحرب لم يعد معنى محسوساً، فكل الأطراف انتابتها حالة من التدمير الذاتي تخطت كل هدف وموضوع للحرب.
ليس من جدل بشأن ازدياد ضراوة المعارك بنتائج غير محسومة بين طرفي القتال، تبعها ازدياد في المعاناة الإنسانية لا يأبه لها أحد، تجعل من استمرار المعارك على هذه الوتيرة كارثة إنسانية وتصميما على عنف مفرط لا حدود له، فالمسلك العسكري للحرب تجاوز بمعايير الحرب أو السلام كل الأعراف والقيم، فأصبح الاقتتال هدفاً غير مبرر بكل المستويات، حتى تلك السياسية التي تجعل لفرضية الحرب معنى في سياق التضحية. ويشكل الإصرار من جانب كل الأطراف على مواصلة الحرب إشكالية كبرى وتعقيدا للموقف، يهدد لا في حدود نطاق الحرب، بل في إزالة حرفية للدولة السودانية بمكوناتها المتنوعة.. ونكون أمام سودان جديد تشكله حرب أشعلها تعنت عسكريين وسياسيين تعوزهم المسؤولية الوطنية في التصدي لتصدعات أسهموا في صنعها، ولم يملكوا شجاعة الاعتراف أو مواجهة الواقع. والمطروح اليوم على الساحة السياسية خطط حربية، وليس مبادرات سلام تراجعت أولوياتها أمام سطوة الآلة العسكرية في أجواء ملبدة بدخان المعارك، ما أدى إلى وضع قاتم مجهول المصير. فإذا كانت أطراف الصراع الرئيسية مثل الجيش وقوات الدعم السريع وما يتحالف سراً وعلانية معهما مضاف إليها مكونات سياسية تقف على مسافات حذرة، فإن هذه المجموعات بتشكلاتها العسكرية والسياسية تعد الأجسام التي تقود الحرب في كل اتجاه، وبالتالي تقع عليها مسؤولية إيقاف الحرب وما ترتب عليها من نتائج مروعة، فخريطة السلام التي تعددت مساراتها وتعرجت ما بين مبادرات إقليمية واهنة، ودعوات شعبية مسلوبة الإرادة، لم تستطع كلها أن تقارب الحد الأدنى من اتفاق يجعل من إمكانية وقف الحرب أمراً قريب المنال. فإذا لم يستوعب أطراف الصراع السلام كهدفٍ استراتيجي وإرادة وطنية للحفاظ على البنية الموروثة، فإن كلا من مفهومي الحرب أو السلام سيقوض بنية الآخر. وقد ترى بعض المجموعات في زخم ما خلفته الحرب من جراحات نفسية مجتمعية في الثأر والانتقام، وهذا الأسلوب لا يقود إلا إلى حروب من مستوى آخر، على طريقة الإبادة الجماعية طالما كان الاستهداف على خلفيات جهوية. وهذه الحرب لن تكون ظاهرة صراع عابر على السلطة، أو مثل الحروب التي شهدها السودان في صراعاته الداخلية السابقة، فقد الجيش الوطني دوره في السيطرة على وجود قوى موازية، ما يستدعي إعادة فهم طبيعة ما جرى من تغير على الخريطة السياسية والعسكرية. وبالتالي وضع تصورات لمرحلة السلام الذي سيقوم على أسس جديدة، تراعي ما استجد على الساحة السودانية السياسية، حتى لا يعاد تكرار التجارب المعروفة. فما يحتاجه السلام سيختلف حتماً عما عهده الساسة السودانيون من اتفاقيات سلام تنتهي بالمعادلة المعروفة باقتسام السلطة والثروة، التي لا تعدو أن تكون أكثر من مناصب يشغلها القادة تسقط دونها شعارات ما قبل السلام!
إن ما تبديه مجريات الأحداث، فإن الكلمة الفصل في ملف الحرب السودانية المتمددة زماناً ومكاناً، لن تكون كلمة سياسة، بل عسكرية وقد تكون بالقوة المميتة حسب تصريحات المتقاتلين. وعليه فإن المسؤولية الجنائية تقع على كل الأطراف بما ارتكب من جرائم حرب شارك فيها قادة الصراع، من دون ضبط سلوك، حسبما يقتضيه القانون الدولي الإنساني في حماية المدنيين، أبرز ضحايا الحرب. ومطالبات السلام، ربما أرجأت المسؤولية الجنائية للأفراد المتورطين بالإفلات من العقوبة، كشأن حروب العالم الثالث والعفو والحصانات والخروج الآمن والتسوية السياسية، وكلها مسميات تتمسك المجموعات المتورطة بها. فإذا كان التعويل على الحوار السياسي وما يفضي إليه من مصالحات وعفو شامل للمتورطين شرطاً للسلام، فإن سيصبح سلاماً هشاً قابلاً للانهيار.
لابد من أن تنتهي الحرب على طاولة التفاوض، مقولة ظل يرددها الفاعلون في المشهد العسكري والسياسي السوداني، بينما تستعر المعارك وتتباعد فرص السلام، وسيكون من الصعوبة بمكان الوصول الى طاولة المفاوضات عبر أنقاض وأشلاء خلفتها الحرب طوال الشهور الخمس الماضية؛ خاصة أن بداية الحرب ليس نهايتها كما يردد أيضا في الفضاء العبثي للحرب، فلا أحد من الطرفين مستعد للإقرار بالمسؤولية في الحرب والسلام بالقرار أو الإرادة.
كاتب سوداني
نشر بصحيفة#القدس العربي اللندنية_ عدد اليوم 23/08/2023م
nassyid@gmail.com
/////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: کل الأطراف
إقرأ أيضاً:
حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
كنت من محبي زيارة متحف السودان القومي..
واكاد اجزم أني احفظ المعروضات في القاعات في الدور الاول والثاني..
واعرف ممر الكباش والضفادع الحجرية علي البحيرة الصناعية والمعابد التي نقلت كما هي ووضعت في ساحة المتحف كمعبد دندرة وحيث اثار العهد الاسلامي في الطابق الثاني كدولة سنار
◾️- الصورة المرفقة صورتها بنفسي بجوالي النوكيا في ابريل 2011 ولازالت احتفظ ببعض الصور من ساحات العرض..
◾️- حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع وتم سرقة مشغولات ذهبية عمرها الاف السنين وبعض الاثار الصغيرة من العاج والحجر والابنوس تعود للعهد المروي ولعهد دولة نبتة
– مع ان السودان اطلق حملة لاستعادة المسروقات بالتعاون مع اليونسكو الا ان الامل ضعيف في العثور عليها لان هناك هواة جمع تحف واثار يشترون مثل هذه المقتنيات ويحتفظون بها في خزائنهم لمدد طويلة ولا يعرضونها ابدا وبذا تقل فرص مطاردتها واسترجاعها..
????- الحل في نظري هو اطلاق حملة قومية للتنقيب عن الاثار مرة اخري.. هناك مواقع اثرية كبيرة ومتعددة متناثرة في السودان..
◾️- مثلا في العام 1998 زرت الولاية الشمالية باللواري في سفرة استغرقت عدة ايام فرايت كثير من الاثار ملقاة علي الطريق قريبا من شواطئ نهر النيل , احجار ضخمة واعمدة معابد لايستطيع اي احد ان يحركها من مكانها وربما هذا سبب حفظها حتي الان.. فلو تم التنقيب حول هذه الاماكن فالبتاكيد سنحصل علي اثار جديدة..
◾️هناك ايضا موقع النقعة والمصورات الاثري الذي يشرف عليه معهد حضارة السودان التابع لجامعة الخرطوكم تحت اشراف البروف جعفر ميرغني – وقد زرته من قبل في العام 2010 – الثلات صور الاخيرة – ففي هذا الموقع تتناثر الاثار علي العديد من التلال والسهول و الموقع ذات نفسه يقع علي نهاية وادي العوتيب وهذا الوادي الان عبارة عن رمال ولكنه حتما في قديم الزمان كان من روافد النيل الموسمية فعلي ضفاف هذا الوادي وحتي موقع النقعة والمصورات هناك احتمال وجود عشرات الاثار التي قد تغير التاريخ ذات نفسه
◾️- ايضا سفح جبل البركل وكثير من المواقع التي يمكن اعادة التنقيب فيها
◾️- في العام 2010 كانت هناك شركة تقوم بحفريات لبناء عمارة في احد الاحياء شرق مطار الخرطوم فعثرت علي ما يشبه المدفن لقرية تعتبر اول اثر علي وجود الانسان في منطقة الخرطوم والمقرن قدرت بالاف السنين..
– وكثير من الاثار هنا وهناك علي ضفاف النيل الذي كان علي الدوام جاذبا للمستعمرات البشرية منذ القدم
????- بهذه الطريقة يمكننا اعادة ملء المتحف القومي مرة اخري والحفاظ علي التاريخ الذي اراد تتار العصر ان يمحوه لهدم رواية الامة السودانية عن عراقتها وحضارتها الممتدة من الاف السنين وحتي الان..
♦️- بهذا يمكننا مرة اخري ان نضع قطع الاحجية جنبا الي جنب ونعيد بناء قصة متماسكة تمتد من الان الي عمق التاريخ ونضع معلما لاطفالنا والاجيال القادمة تحاجج به وتفتخر.
♦️- بعض الدول تحفر في اللاشئ وتعثر علي صخور صماء لايوجد عليها نقش واحد فتضعها في متحف ضخم لتقول للناس ان هذا الحجر استخدمه شخص في هذه البقعة قبل اربعة الف سنة كوسادة او كمسند او مربط لحيوان لتقول للعالم انها دولة ذات تاريخ وذات عراقة..
♦️- نحن كبلد اولي بان تكون لنا قصة لها شواهد وعليها ادلة والاسهل والحل الذي بين ايدينا هو اطلاق حملة جديدة للتنقيب عن الاثار تحت الارض والكشوفات الجديدة هذه توكل كمشاريع لكليات الاثار والدراسات الانسانية كالتاريخ وعلم الاجتماع مع التمويل من الدولة والشركات الوطنية مع مواصلة جهود البحث عن الاثار المفقودة.
النور صباح
إنضم لقناة النيلين على واتساب