مقدِّمة لدراسة صورة الشَّيخ العربي في السِّينما الأمريكيَّة (19)
تاريخ النشر: 27th, April 2025 GMT
كان من الواضح أنه استجدت ضرورات سياسيَّة وثقافيَّة تحتِّم إعادة اختراع، وإعادة ثَيمَتَة، وإعادة تقديم لشخصيَّة الشَّيخ. وفي اجتهادي فإن هذه العمليَّة ذات الأوجه المتعددة قد ابتدأت، على وجه العموم، مع بداية العقد الثالث من القرن الماضي، ولا تزال مستمرة، بدرجات متفاوتة ومتذبذبة حتى اليوم. بيد أنني أقترح أن يكون العام 1985 نقطة زمنيَّة وتاريخيَّة فارقة ينتهي عندها بحث صورة الشَّيخ العربي في السِّينما الأمريكيَّة.
من هنا، ووفقاً لهذا المنظور، فإن آخر فيلم شيخ عربي ينبغي الحفل له قد يكون "حريم" [Harem] (آرثر جوفي Arthur Joffé، 1985)؛ فهذا الفيلم يسجِّل لحظة الموت الحرفي والمجازي للشَّيخ بوصفه شخصيَّة مركزيَّة في السِّينما. وحقاً فإن الطريقة التي تموت بها شخصيَّة الشَّيخ سليم (أدَّى دورها بِن كنغسلي Ben Kingsley) في "حريم" هي مزاوجة بارعة بين الوقوع ضحيَّة لجريمة قتل وإرضاء لرغبة ذاتيَّة في الموت: إنها حالة "مثاليَّة" لتحقُّق القتل والانتحار في نفس الوقت، والفاعل المجهول/ المعلوم هنا هو الضَّحية والمجرم معاً. وهنا لا بد من استدعاء انه بينما كان رودولف فالنتينو، الممثل الوسيم، والمختال، والجريء، في السادسة والعشرين من العمر عندما أدى دور البطولة في الفيلم التأسيسي الشَّيخ، فإن كنغسلي (والذي يشترك مع فالنتينو في الغيريَّة الإثنيَّة من حيث إن هذا من أصول إيطاليَّة، بينما والد كنغسلي طبيب جنوب أفريقي يتحدَّر من منابت هنديَّة) كان في الثانية والأربعين من العمر عندما أدى دور الشيخ سليم في فيلم "حريم"، وكان الصَّلع قد بدأ يغزوه (1).
إن مرور الزمن في أربع وستين سنة بين العام 1921 والعام 1985، وكذلك سبعة وثلاثون عاماً هي فارق العمر بين فالنتينو وكنجسلي عندما أدى كل منهما دور الشَّيخ، يعنيان ما فيه الكفاية ويدلان عليه؛ ففي فيلم "حريم" يعاني الشَّيخ من أزمة وجوديَّة يسبِّبها "وقت روزنامِيٍّ"، حيث التَّعارضات والتَّناقضات بين التَّقويم الهجري (الإسلامي) والتَّقويم الغربي (المسيحي) تٌشَوِّشُ وتفصم علاقته بالعالم، والوجود، والأشياء من حوله. بهذا، يصير وجود الشَّيخ العربي، بالمعنى الحرفي للكلمة، وجود اغتراب ونفي بين قوى متصارعة للزَّمن. لذلك، وباختصار، فإن عليه أن "يرحل". وقد فعل.
إلى هذا، فإن على دراسة موضوع تمثيلات الشَّيخ العربي في السِّينما الأمريكيَّة من العام 1921 إلى العام 1985 أن تعزل ثيمات "شيخيَّة" بارزة ومعيَّنة أستعير لوصفها مصطلح "سرديَّات" (narratives)، والتي منها، على سبيل المثال، "سرديَّات الرومانس والرغبة (الأخرى)"، و"سرديَّات الأسر والعبوديَّة". وعلى تلك الثِّيمات/ السَّرديَّات أن تضيئها أفلامٌ بدئيَّة/ نموذجيَّة (archetypal) ينبغي تعيينها ودراستها بعمق تفصيلي. بعض تلك الأفلام مُعَمَّدٌ ومؤثِّر (على سبيل المثال، فيلم "الشَّيخ")، وبعضها شهير ومهم (على سبيل المثال، فيلم "الخروج اليهودي" [Exodus]). أما بعض تلك الأفلام فمغمور مع أن النَّقد السِّينمائي والثَّقافي يجب أن يجعله مرئيَّاً (على سبيل المثال، فيلم "إلسا: حارسة حريم شيوخ النفط" [Ilsa: The Harem Keeper of the Oil Sheiks]. وينبغي أن يكون المعيار الرئيس في اختيار تلك النصوص هو مدى قابليتها لإيضاح وبرهنة الثِّيمات موضوع النِّقاش. وعلى هذا المنظور الثِّيماتي أن يكون كرونولوجيَّاً ضمن معطيات الشَّكل، وشبه كرونولوجي في إطار المضمون، وذلك بناء على الطَّبيعة القلقة وغير المستقرَّة للتَّمثيلات السِّينمائيَّة للشَّيخ. وحقاً فإن التَّناقضات العديدة لتمثيلات الشَّيخ تثبت على الوجه الأكمل محاججة إدورد سعيد Edward Said انه "من النَّاحية السايكولوجيَّة فإن الاستشراق نوع من البارانويا..." (2) (لديَّ المزيد لأقوله حول هذا لاحقاً).
ولا شك انه تُسعفنا إلى حد كبير الأدوات النَّقديَّة والمنهجيَّة المهمَّة والمُلْهِمة التي قدَّمتها نظريَّة الدِّراسات ما بعد الكولونياليَّة في بحث صورة الشِّيخ العربي في السِّينما الأمريكيَّة، بنفس المقدار الذي أسهمت (بل حرَّضت) فيه تلك الإضاءات والأدوات على "زيارة الماضي"، و"إعادة التَّعرف عليه"، و"استنطاقه" في التَّاريخ، والثقافة، والحاضر المتحرك. وفي هذا الإطار، فإنه ينبغي القول إنه حتى مع توظيف أعمال العديد من المفكِّرين والنُّقاد ما بعد الكولونياليين الذين قدَّموا العديد من الإضاءات الباهرة لأي عمل نقدي يتكئ على التفكيك ما بعد الكولونيالي، فإن عمل سعيد يبقى الأكثر وجاهة ووثاقة بالصِّلة في هذا البحث؛ ذلك أن الشَّيخ أيقونة (icon) مُشَفَّرة (encoded) في الممارسة البنائيَّة (discursive) للاستشراق التي أنجبت الشَّيخ العربي السِّينمائي؛ فالاستشراق، كما يحاجج سعيد بصورة شهيرة، ألَّف الشَّرق، أو كَوَّنه، باعتباره "مكاناً للرُّومانس، والكائنات الغرائبيَّة، والذِّكريات والمناظر الممسوسة، والتَّجارب الخارقة" (3).
(1): تتضمن قائمة اختيار ممثلين "إثنيِّين" لأداء دور الشَّيخ أو أدوار عربيَّة عبر تاريخ السينما الأمريكيَّة، الأمريكي ذو الأصول الأيرلنديَّة من ناحية الأم، والفرنسيَّة والأمريكيَّة الأصلانيَّة (أوسيج وتشيروكي) من جهة الأب مانتي بلو (جرارد مونتغمري بلو) Monte Blue (Gerard) Montgomery Blue) [على سبيل المثال أدواره في فيلم "خيام الله"، وفيلم "إذاً فهذه باريس"، وفيلم "طريق إلى المغرب"، وفيلم "كازابلانكا"]، والياباني سوجِن كامياما Sojin Kamiyama [على سبيل المثال، دوريه في فيلم "لص بغداد"، وفيلم "سيِّدة الحريم"]، والأمريكي ذو الأصول الرومانيَّة دنكن رينالدو Duncan Renaldo [على سبيل المثال، دوريه في فيلم "يانكي في ليبيا"، وفيلم "أغنية الصَّحراء"].
(2): Edward Said, Orientalism (New York: Vintage, 1978), 72.
(3): المصدر السَّابق، 1.
والحقيقة أن سعيد كان قد نشر مقالاً قصيراً مغموراً قبل ثماني سنوات من الظهور السَّاطع والكاسح لكتابه "الاستشراق"، وهو "العربي مصوَّراً" المنشور بعد نكسة 1967. ونجد أن معظم اهتمامات سعيد النَّقدية اللاحقة موجودة بصورة أوليَّة، لكن واضحة ومتماسكة، في ذلك المقال، بل نجد أن تلك الثِّيماتيَّات تضرب جذورها في مساءلة البصري في الثقافة والتاريخ. يحاجج سعيد، في ذلك المقال، أن أحد أمثلة تصوير (representation) العربي في الولايات المتحدة "يمكن العثور عليه في الفيلم السينمائي المتوسط، حيث يحضر [الـ]عربي [الذي تمكن قراءته: العربي بوصفه شيخاً] باعتباره شخصاً مُنْحَلَّاً مفرط الرغبات الجنسيَّة مؤهلاً... بحذاقة للإتيان بمكائد مخادعة، ولكنه جوهريَّاً ساديٌّ، وخؤون، ووضيع". وبعد ذلك يضرب سعيد مثالاً لصورة ذلك العربي "السَّادي، والخؤون، والوضيع"، وهو مثال تمكن رؤيته عبر أفلام الشَّيخ الأمريكيَّة: "غالباً ما نرى القائد العربي يزمجر في وجه البطل الأمريكي الأسير والفتاة الشَّقراء: سيقتلكما رجالي، ولكنهم يحبون أن يسَّلوا أنفسهم قبل ذلك". انظر:
Edward Said, “The Arab Portrayed,” in Ibrahim Abu-Lughod, ed., The Arab-Israeli Confrontation of June 1967: An Arab Perspective (Evanston: Northwestern University Press, 1970), 1-2, 7.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على سبیل المثال فی فیلم
إقرأ أيضاً:
الشيخ صالح بن حميد: تطهير القلوب والألسن سبيل لتحقيق الوحدة والتآلف .. فيديو
الرياض
دعا فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن حميد المسلمين إلى تطهير قلوبهم قبل أبدانهم، مؤكدًا أن طهارة القلب أساس في بناء شخصية المؤمن.
كما شدد على ضرورة أن يكون المسلم حريصًا على نقاء اللسان والأفعال، حيث يجب أن يكون الإنسان واعيًا بما يقوله ويفعله تجاه الآخرين، مع الابتعاد عن كل ما يسيء أو يعكر صفو العلاقات بين الأفراد.
وأضاف الشيخ أن المسلم يجب أن يعامل الناس بناءً على ما يراه بأم عينيه، لا على ما يسمعه عنهم من كلام قد يكون غير صحيح أو مغلوط.
ودعا إلى أهمية الاستماع المباشر من الإخوة والأصدقاء، قبل الاستماع إلى ما يُقال عنهم في غيابهم، لتجنب التسرع في إصدار الأحكام والتأثيرات السلبية.
وختم فضيلته بالتأكيد على ضرورة حسن الظن بالآخرين، وعدم الانسياق وراء الظنون السلبية التي قد تكون مبنية على شكوك أو تفسيرات خاطئة.
وأشار إلى أن تهذيب النفس وتعزيز الفضائل في القلوب هو السبيل إلى تعزيز الوحدة والتآلف في المجتمع، مما يعكس صورة إيجابية للمسلمين ويسهم في تحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي.
https://cp.slaati.com//wp-content/uploads/2025/04/ssstwitter.com_1745580932442.mp4 https://cp.slaati.com//wp-content/uploads/2025/04/ssstwitter.com_1745583518013.mp4إقرأ أيضًا
خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف