تسترجع ذاكرتي فترة تحضيري لرسالة الدكتوراه في المملكة المتحدة مشاهدَ للطلبة الصينيين والتزامهم الدراسي وانضباطهم في أسلوب الحياة والعيش؛ فأجدهم في مكتبة الجامعة ومختبراتها عاكفين بكل جهد على المطالعة والبحث، وأجدهم في أسواق مدينة «جلاسكو» الأسكتلندية لأجل غاياتهم الضرورية بعيدين عن مظاهر الترف والتزاماتها التي تعوق الإنتاجية بأنواعها وأولها المعرفية، ولكن رغم هذه المشاهد التي عايشتها، تعشعش في أذهاننا عبر البرمجة الذهنية التراكمية المستمرة -منذ صغرنا- اقتران جملة «صُنعَ في الصين» بالجودة الضعيفة للمنتج، ولهذا صار كثيرٌ ممن يبحث عن الجودة العالية يتجنب كلَ ما صُنعَ في الصين اتقاءً لعمر المنتج القصير أو عيوبه التي ستظهر سريعا، واستوعبت أذهانُنا ارتباطَ جودة المنتج بالدولة المُصنِّعة؛ لترتبط كثيرٌ من العلامات التجارية «البراندات» بمنتجات ذات تصنيفات لا تتعلق بالجودة وحسب ولكن بطبقة المستهلك ودرجة ثرائه؛ لتكون هناك منتجات يكاد لا يُصنع منها كل عام أو أعوام إلا بأعداد قليلة -لعلّها تعد بالأصابع-؛ فتصبح هوسا من هوس الاستهلاك الذي لا يُعنى إلا بالتباهي الذي يُكبح بواسطته نزعات نفسية تتلذذ بالمظاهر وديناميكية التفاعل الاجتماعي الخارجي.
هناك جملةٌ من القضايا التي نحتاج أن نضعها تحت المجهر؛ فنفحصها بموضوعية، ومنها ما يتعلق بالصناعة بشكل عام وعلاقتها بالصين التي يمكن اعتبارها مصنع العالم الحقيقي؛ فظهر مؤخرا -نتيجة لتصاعد الصدام التجاري بين أمريكا والصين- ما عُرفَ بكذبة أو زيف العلامات التجارية العالمية بعد أن استعرض مصنّعون وتجّارٌ صينيون منتجاتٍ كان يُعتقد بأصالتها المتوارثة عبر انتمائها لمصانعها الأصلية؛ لتملك حق التسمّي بمسمياتها التجارية الشهيرة التي أكسبتها أسعارا باهظة تفوق بعضها مئات آلاف الدولارات، وكان الاستعراض الصيني المتزامن مع هذه الحرب التجارية وتصاعدها بمثابة الكارثة التجارية لكثير من هذه العلامات التجارية التي لم تعد قيمتها -حال خلوها من أسمائها التجارية التي تُكسبها قيمتها المالية الباهظة- المالية تتجاوز في بعض حالاتها عُشْرَ أسعارها العالمية المعروفة دون أن تتغير درجات جودتها، وهنا تنكشف حقائق -وإن كانت معروفة عند بعض المستهلكين مسبّقا- تجارية تؤكد أن الشركات العالمية ليست إلا قوارب تطفو بزيفها الخفي في بحر الصين الصناعي، وأن شعارات «صُنعَ في الصين» وارتباطها الكبير بضعف المنتج وجودته لم تكن سوى شماعة وهمية لجذب انتباه المستهلك ودفعه إلى وهم التميّز التجاري والصناعي، وضخّت لأجل هذا التوجيه الجماهيري مليارات الدولارات ثمنا للترويج والبرمجة النفسية والدماغية المُستنهِضة لثقافة الاستهلاك الأعمى.
في خضّم هذه المشاهد؛ سنعرج بشكل مختصر إلى تاريخ الصناعة الصينية وعقيدتها التجارية؛ فنجد أن الصين بدأت عصرها الصناعي الحديث فعليًا مع بداية تطبيق سياسة الإصلاح الاقتصادي وانفتاحه عام 1978 التي قادها زعيم الصين «دينغ شياو بينغ»، وبزغت هذه الشمس الصناعية بعد فترة طويلة من العزلة الاقتصادية والنهج الاشتراكي المتشدد إبان حكم «ماو تسي تونغ»؛ فشكّل هذا التحولُ نقطةَ الانطلاق نحو التنمية الصناعية الحديثة القائمة على الانفتاح على الاستثمار الأجنبي وإصلاح الشركات المملوكة للدولة وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة، ويمكن أن نقسّم النموَ الصناعي الصيني الحديث إلى ثلاث مراحل زمنية: أولا مع مرحلة التأسيس بدايةً منذ عام 1978 حتى عام 1992 التي اعتمدت فيها بشكلٍ رئيس على الصناعات التحويلية، وثانيا مرحلة النمو المتسارع منذ عام 1992 حتى 2008؛ فكانت بداية إلى ظهور الصين «مصنعًا للعالم» بسبب طفرتها في الصناعات الثقيلة، والهندسة، والإلكترونيات، وصادراتها الصناعية التي بلغت معظم دول العالم، وكذلك انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، وتأتي المرحلة الحاسمة «الثالثة» لتتوّج الصين عملاقا صناعيًا وتجاريًا يهدد الهيمنة الاقتصادية الأمريكية التي تتضح أن بدايتها منذ عام 2008 -العام الذي شهد الركود الاقتصادي والمالي العالمي- وحتى يومنا. لا غرو أن مؤسسات التجارية والسياسة الأمريكية والغربية فطنت إلى نمو التنين الصيني منذ سنواته الأولى؛ فكانت تراقب هذا النمو وتسارعه، واتخذت نتيجة لذلك صورا متغايرة من التدابير الوقائية مثل التشويه المتعمد للعقيدة الصناعية الصينية وربطها بفكرة الصناعة الرديئة، ونجحت آلات الترويج الغربية والأمريكية -إلى حدٍ ما- في ترويض عقولنا على هذه الصورة النمطية المتعلقة بالصين الصناعية، ولكنها لم تكن لتغيّر كثيرا من الواقع الصناعي الصيني الصاعد الذي بات قبلةَ العالم في الصناعة والتجارة؛ فانفتحت الأسواقُ العالميةُ ومصانعُها الكبيرة -بما فيها الشركات الأمريكية والغربية الكبرى- إلى التعاقد الظاهر والخفي مع المصانع الصينية؛ لتنكشف لنا -كما سقنا آنفا- حقيقة ما يُعرف بالمنتجات ذوات العلامات التجارية أنها ليست سوى صناعة صينية وبأياد صينية، وأن الشركات الغربية والأمريكية تخلّت بشكل كبير عن دورها الصناعي منذ عدة عقود، وأوكلت مهامها الصناعية وتطويراتها إلى عدوها اللدود «الصين».
يعقب ما أوردناه آنفا أسئلة مهمة منها: كيف ستغدو الصناعة العالمية ومسارها التجاري المعقّد في ظل تصاعد الحرب التجارية التي كشفت لنا خفايا هذه الصناعة وما تحمله من زيف ووهم وتربّح غير عادل؟ وما شكل الصورة الجديدة التي سترسمها أدمغتنا عن الصين؟ أنحن مع موعد نشهد فيها نزع العالم لباسه الاقتصادي الرأسمالي الغربي والأمريكي؟ ما هو موقعنا -العربي- الاقتصادي من هذه التغيرات الحتمية التي تعصف بالعالم؟ أننتظر نهايةً للمعركة لنصطف مع المعسكر المنتصر ونبدأ صفحة أخرى معه؟ أم أننا بحاجة إلى إعادة عاجلة وسريعة لتموضعنا الصناعي والاقتصادي وقبله المعرفي؟ لا أرى ضرورة لخوض تجربة الإجابة عن هذه الأسئلة وما يناظرها حتى لو رضيت بموضوعيتها؛ فإنني أتركها مفتوحةً للجميع، ومعروضةً للتأمل ولترويض العقل ومداركه لقادم المستقبل.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العلامات التجاریة فی الصین
إقرأ أيضاً:
الصين: الرسوم الجمركية الأمريكية بمثابة تسونامي للتجارة العالمية
يمانيون../ أكدت وزارة الخارجية الصينية أن الرسوم الجمركية الأمريكية علي بكين بمثابة تسونامي للتجارة العالمية.
وقالت الوزارة الصينية في بيان اليوم الخميس لها: “تسونامي الرسوم الجمركية الأمريكية تعطل قواعد منظمة التجارة العالمية وتضر بشعوب دول العالم”.
وأضافت “أي مفاوضات بين أمريكا والصين يجب أن تجرى على أساس الاحترام المتبادل والمساواة”.
وفي وقت سابق ، اتهمت بكين واشنطن بأنها انتهكت قواعد منظمة التجارة العالمية بشكل علني وقوضت الحقوق والمصالح المشروعة للدول.
ونبًهت وزارة الخارجية الصينية في بيان لها الي إن الولايات المتحدة قامت بانتهاك قواعد منظمة التجارة العالمية بشكل علني من خلال فرض رسوم جمركية أحادية الجانب على السلع الصينية، مما يقوض الحقوق والمصالح المشروعة للدول الأخرى.
وشددت الصين علي أن هذه الإجراءات الأمريكية تمثل “انتهاكا جسيما” لقواعد المنظمة وتضر بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين وبالنظام التجاري الدولي ككل، مشددة على أنها ستتخذ تدابير لحماية حقوقها ومصالحها المشروعة، بما في ذلك تقديم شكوى رسمية إلى منظمة التجارة العالمية.
كما نددت الصين بسياسة واشنطن التي وصفتها بأنها “تنمر اقتصادي” و”حرب تجارية” لا تحقق نصرا لأي طرف.