لا يختلف اثنان على أن الولايات المتحدة الأمريكية تعد القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم، ولكنها تملك كذلك قوة لا تقل أهمية عن هذه القوى، وهي قوتها الناعمة. ومفهوم القوة الناعمة Soft Power صاغهُ جوزيف ناي - وهو أستاذ أمريكي للعلوم السياسية وعميد سابق لمدرسة جون كيندي الحكومية في جامعة هارفارد Harvard University، الذي تولى عدة مناصب رسمية منها، مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في حكومة بيل كلينتون، ورئيس مجلس الاستخبارات الوطني - لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع.

وصاغ جوزيف ناي هذا المصطلح في كتابه الصادر عام ١٩٩٠م بعنوان «مُقدرة للقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية». وقام لاحقا بتطوير هذا المفهوم في كتابه الصادر عام ٢٠٠٤م بعنوان «القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية». وتعني القوة الناعمة، أن يكون للدولة قوة معنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق، ومن خلال كذلك الدعم في مجالات عدة، منها حقوق الإنسان والثقافة والعلوم والبحوث العلمية والفنون، وكذلك البنية التحتية، ما يؤدي بالآخرين إلى الإعجاب والتأثر بهذه العناصر في هذه الدولة والانجذاب لها. ومن أهم عناصر القوة الناعمة الأمريكية التي تفوقت بها على دول العالم الأخرى هي مؤسسات التعليم العالي. حيث تعد الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أهم عناصر القوة الاستراتيجية الناعمة لأمريكا، فمن بين أفضل ١٠٠ جامعة في العالم تستحوذ الولايات المتحدة على أكثر من ٧٠٪ منها. ومن هذه الجامعات، جامعة هارفارد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، وجامعة ييل، وجامعة كولومبيا، وجامعة ستانفورد، وغيرها من الجامعات. وكما هو معروف يعد مجال القانون من أعرق التخصصات الأكاديمية في الولايات المتحدة والعالم. وتعد جامعة ييل Yale University التي تأسست عام ١٧٠١م، وتحديدا كلية القانون في الجامعة، والتي تأسست عام ١٨٢٤م من أكثر كليات القانون نخبوية وصعوبة في القبول في الولايات المتحدة والعالم. حيث تبوأت -حسب بعض مؤسسات التقييم في مرحلة من المراحل- المركز الأول في دراسة القانون على مستوى كل الجامعات الأمريكية. وأخرجت هذه الكلية للعالم عدد كبير من أساتذة القانون الدستوري والقانون الدولي والقضاء، وكذلك عدد كبير من كبار الساسة في العالم، كرؤساء دول -كالرئيس جيرالد فورد والرئيس جورج بوش الأب والرئيس بيل كلينتون- ورؤساء حكومات ووزراء ورؤساء جامعات وغيرهم. حتى أصبح يشار لخريجي كلية القانون من جامعة ييل بالبنان. لكن، عندما استضافت هذه الجامعة العريقة بتاريخ ٢٣ إبريل الحالي شخصية مجرمة عنصرية منبوذة دوليا، كإيتمار بن غفير، الذي يشغل منصب وزير الأمن القومي في الكيان الصهيوني الفاشي منذ ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٢م حتى تاريخه - تخللتها فترة إستقالة قصيرة -، وهو زعيم حزب عوتزما يهوديت «القوة اليهودية»، وهو حزب كاهاني عنصري متطرف معادٍ للعرب والفلسطينيين والمسلمين، ويعمل بكل تطرف على طرد الفلسطينيين من أراضيهم. وواقع وتاريخ بن غفير وحزبه المتطرف اختزلته صحيفة هاآرتس العبرية، عندما علقت على نجاحه في انتخابات الكنيست التي جرت في نوفمبر ٢٠٢٢م، بـ «اليوم الأسود في تاريخ إسرائيل». وقد اكتسب بن غفير سمعته السيئة هذه، عندما هدد في المظاهرات التي سبقت اغتيال إسحاق رابين عام ١٩٩٥م بتصفيته. وأسس بعدها مع باروخ مارزيل لجنة يمينية عنصرية، دعت لإطلاق سراح ليغآل عامير قاتل رابين. وبحلول شهر فبراير من عام ٢٠٠٩م تم توجيه ٤٦ لائحة اتهام ضد بن غفير -أُدين بـ ٨ منها-، منها: الشغب، وتخريب الممتلكات، وعرقلة عمل ضباط الشرطة، وحيازة مواد دعائية للمنظمات الإرهابية، والتحريض على العنصرية، ودعم منظمة إرهابية. وبعد ٦ سنوات تم توجيه ٧ لوائح اتهام أخرى ضده، بمجموع ٥٣ لائحة اتهام. وقبل ذلك رفض الجيش الصهيوني - الذي يعد أسوأ جيوش العالم أخلاقيا - تجنيد بن غفير عندما بلغ سن ١٨ عاما، بسبب سجله الجنائي السيئ. ويشرف بن غفير بنفسه على مسالخ التعذيب في السجون والمعتقلات الصهيونية بحق ١١ ألفا من المعتقليين الفلسطينيين في هذه السجون والمعتقلات سيئة السمعة والتي تقوم بشتى أنواع التعذيب وإنتهاك الكرامة، بحق هؤلاء الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين. ويعد حاليا بن غفير من أكثر الشخصيات السياسية في الكيان الصهيوني احتقارا للقانون، وتحديدا القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني. وهو دائم التحريض -وبشكل علني- على قتل الفلسطينيين المدنيين العزل في قطاع غزة وهدم ممتلكاتهم وتهجيرهم وتجويعهم حتى الموت - حيث بلغ عدد الشهداء فيه حتى الآن ما يقارب ٥٢ ألف شهيد و ١١٢ ألف جريح-، ويكيل الشتائم بشكل دائم للمحكمة الجنائية الدولية، ولكل الشخصيات السياسية والمؤسسات الحقوقية في العالم، التي تنتقد قيام الكيان الصهيوني بخرق اتفاقيات جنيف الأربع لعام ١٩٤٩م -القانون الدولي الإنساني-، والإبادة الجماعية، والجرائم التي يتعرض لها سكان غزة والتي بدأت تطال بشكل آخر سكان الضفة الغربية.

وأنا هنا أتساءل؟ كيف سيبرر كبار أساتذة القانون لطلبتهم في جامعة ييل مكانة وسيادة القانون؟ وهم يرون أن هذه الجامعة العريقة تستضيف مجرما متطرفا عنصريا خارجا عن القانون كـ بن غفير؟ الذي يُجمع حتى الداخل الإسرائيلي على تطرفه وعنصريته وإجرامه. إن مثل هذه التصرفات التي تقوم بها الإدارة الأمريكية وبعض المؤسسات التعليمية الأمريكية العريقة، من تعصب أعمى للكيان الصهيوني، واستخدام كل الوسائل لتكميم الأفواه وتجريم كل من ينتقد هذا الكيان -الذي لا يخفي إجرامه واحتقاره للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني- يعد بمثابة هدم متعمد لقوة ناعمة أمريكية عظيمة. وهي قوة إستقلالية هذه المؤسسات التعليمية ورقيها وتحضرها واحترامها لحقوق الإنسان، والذي كشفت أزمة غزة حقيقتها. وأنها مجرد شعارات ليس لها واقع على الأرض عندما يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني المحتل المجرم.

خالد بن عمر المرهون متخصص في القانون الدولي والشؤون السياسية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الکیان الصهیونی القانون الدولی القوة الناعمة فی العالم جامعة ییل بن غفیر

إقرأ أيضاً:

الخطة الصهيونية المُعلنة لإبادة غزة أمام القضاء الدولي

 

 

 

د. عبدالله الأشعل **

الإرهاب الأمريكي جعل الدول الأعضاء في محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية تتردد في مواصلة المعركة القانونية ومحاربة الإفلات من العقاب الذي قررته واشنطن ونفذته إسرائيل؛ حيث إن واشنطن شريك كامل لإسرائيل في أعمال الإبادة، وتمد إسرائيل بالسلاح الفعَّال في إبادة الشعب الفلسطيني، وتُغطِّي جرائم إسرائيل دبلوماسيًا وتشجعها على ارتكاب الجرائم، كما تمد إسرائيل بالمال، والأهم من ذلك أنها تُلجِم المنظمات الدولية الإنسانية ومُنظمات حقوق الإنسان، وقد فرض الكونجرس عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لأنها تحدت إسرائيل وأمريكا وأصدرت أوامر الاعتقال لرئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق المُقال.

والطريف أن محكمة العدل الدولية لا تزال تبحث عن أدلة تثبت أن إسرائيل تتعمد الإبادة. ولعلم المحكمة أن الخطة الأمريكية التي تنفذها إسرائيل تحت حراسة أمريكا وتدخلها المباشر تتكون من خمسة عناصر.

وتقضي خطة الإبادة الإجرامية إلى ارتكاب الجرائم الآتية:

1-    العودة إلى الإبادة انتهاكًا لاتفاق وقف إطلاق النار.

2-    تشديد الحصار على القطاع واستخدام التجويع سلاحًا للإبادة.

3-    القضاء على المقاومة ونزع سلاحها ومغادرة غزة لتأمين جرائم إسرائيل.

4-    تكثيف الهجمات الجوية على المخيمات وسط خرائب غزة في الإغلاق والحصار؛ وذلك انتقاما من سكان غزة على تحديهم ترامب ورفض التهجير القسري.

ترامب يرى أن من يخاف من الإبادة المباشرة عليه أن يرحل إلى خارج غزة وإفراغ فلسطين من أهلها، بحيث يمكن للصهاينة أن يحلوا محلهم تحت ستار "لحين إعمار غزة". ويرى ترامب أن نزوح الأهالي في هذه الحالة هو فرار من الموت، وهي هجرة وليس تهجيرًا، علمًا بأنَّ إجبار السكان على النزوح هو تهجير قسري.

صحيحٌ أن التهجير القسري معناه تجميع السكان رغمًا عنهم وشحنهم إلى الخارج دون عودة، وإرغام للسكان عن طريق الإبادة ودفعهم إلى الفرار من الموت. ويرى ترامب أنها هجرة طوعية وهذا وَهْمٌ كبير. وهكذا قررت واشنطن أن فلسطين ملك كلها للصوص الصهاينة يتقدمهم ترامب. ويريد ترامب تأمين إسرائيل في فلسطين فلا تؤرقها مقاومة أو سيف القانون الدولي وسط بيئة عربية وإسلامية ساكنة، مع إفلات إسرائيل وأمريكا من العقاب وإهدار هيبة القانون الدولي. وأخيرًا الجريمة المُركَّبة وهي القضاء على المقاومة وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه: الحق في مقاومة الاحتلال والإبادة والطرد من الوطن، وحق العودة، إضافة إلى الحقوق السياسية، وأهمها احترام سيادة الدولة الفلسطينية والانسحاب من أراضيها.

فكيف تعلن أمريكا وإسرائيل علناً خطة الإبادة بقصد التهجير ولم يتحرك أحد في الوسط العربي والإسلامي والدولي، وماذا ينتظرون بعد حصد الإبادة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين، إضافة إلى اغتيال قيادات المقاومة وترديد الأكاذيب الصهيونية وهي أن إسرائيل تقوم بالإبادة لأن المقاومة تهدف إلى القضاء على إسرائيل، لكن الحقيقة أن الإبادة انتقام من أهل غزة عقابًا لهم على تمسكهم بالأرض وعدم تحميل المقاومة مأساتهم. وأهم الأكاذيب أن حركة حماس هي التي جلبت الانتقام الصهيوني بهجومها يوم 7 أكتوبر 2023، كما لو كان إسرائيل قبلها حملًا وديعًا ولم تتحد الأمم المتحدة وتنسحب من أراضي الدولة الفلسطينية؛ بل وأخذ المقاومة معها خلال الهجوم رهائن من المدنيين والعسكريين أسرى.

وردًا على كذبة إسرائيل الكبرى أن هجمة حماس على إسرائيل 7 أكتوبر 2023 هي عدوان على إسرائيل استوجب انتقام إسرائيل من العرق الفلسطيني بسبب عملية المقاومة. وقد تطاول نتنياهو على المحكمة العالمية التي قررت أن إسرائيل دولة محتلة بأن فلسطين كلها ملك لإسرائيل وأن القانون الإسرائيلي يحظر إقامة دولة فلسطينية في فلسطين، لأنَّ إسرائيل تستحوذ على كل فلسطين.

ولم يقل لنا نتنياهو منذ متى فلسطين ملكاً لإسرائيل وليس دولة محتلة، هل بعد السابع من أكتوبر 2023 فقط؟

وسبق للمحكمة أن قررت أن علاقة إسرائيل بفلسطين أنها سلطة احتلال، وقررت ذلك في الرأي الاستشاري في قضية الجدار العازل عام 2004، ومن قبله، قرار مجلس الأمن 242/ 1967.

وفي الملاحظات الآتية نردُ على الفرية الصهيونية حول السابع من أكتوبر:

أولًا: أن إسرائيل منذ القرن التاسع عشر حتى قبل قيام إسرائيل كانت تجسيدا للمشروع الصهيوني وخدعت العالم كله.

ويقضى المشروع الصهيوني بالانفراد بفلسطين كلها ولذلك رفضت إسرائيل قرار تقسيم فلسطين وعندما رفضه العرب اتهمتهم بأنهم لا يريدون السلام. والسلام عند إسرائيل يعنى الاستسلام لمخططها وإفراغ فلسطين من أهلها، فضلًا عن التمسح باليهودية واسرائيل في الواقع سكانها هم أنصار المشروع الصهيوني فليسوا مدنيين. والحق أن مقاومة الفلسطينيين بدأت منذ وصول الهجرات الأولى للمستعمرين الصهاينة، حتى نجحت المؤامرة وقامت إسرائيل كراس حربة لتنفيذ المشروع،

ثانيًا: أن سلوك إسرائيل منذ قيامها هو الإرهاب والمذابح وطرد السكان أصحاب الأرض. ولم تتوقف المذابح والابعاد وحصار غزة يومًا ولذلك فإن عملية أكتوبر كشفت إسرائيل وبدا سلوكها الإجرامي بعدها صريحًا.

ثالثًا: أن المقاومة مشروعة مادام الاحتلال مستمرًا؛ فالاحتلال عدوان دائم خاصة أن المشروع الصهيوني يقضى بإبادة أهل فلسطين ثم جلب صهاينة العالم تحت ستار حق العودة المزعوم. وقد فشلت كل محاولات المجتمع الدولي والقضاء الدولي في ردع إسرائيل ومكنتها واشنطن من إهدار هيبة القانون الدولي والتباهي بجرائمها.

رابعًا: يُباح للمقاومة استخدام أي سلاح كما يُباح لها أخذ الرهائن قدر المُستطاع بموجب اتفاقية نيويورك 1979 خاصة المادة 12، كما إن أخذ الرهائن مشروع وله دافع أخلاقي وهو إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين المحكوم عليهم بالسجن والإعدام، علمًا بأن القضاء الإسرائيلي ليس له سلطة محاكمتهم أو تطبيق القانون الإسرائيلي عليهم. وقد قارنتُ في مقال سابق بين السلوك الحضاري للمقاومة والسلوك البربري لإسرائيل في السجون الصهيونية.

وهذا الواقع الصحيح يفهمه العالم لأول مرة ويمثل مسمارًا في نعش إسرائيل التي أُصيبت بحالة من الهياج الناجم عن استشعار الخطر بالنهاية للظاهرة الإسرائيلية؛ فسلوك إسرائيل الهمجي هو تنفيذ للمشروع الصهيوني ولا علاقة له بهجوم حماس، لكن هذا الهجوم كشف الجيش الذي لا يُهزم وعوار الأجهزة الأمنية التي تدَّعي الكمال.

** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • جامعة المنصورة تستضيف وزير الآثار الأسبق في ندوة بكلية الآداب
  • جامعة الاسراء تستضيف الجلسات النقدية ضمن مؤتمر قصيدة النثر في العراق
  • الخطة الصهيونية المُعلنة لإبادة غزة أمام القضاء الدولي
  • بن غفير يُرشق بزجاجات الماء أمام جامعة ييل ويردّ برفع شارة النصر في وجه المحتجين
  • احتجاجات طلابية في جامعة ييل الأمريكية ضد زيارة بن غفير
  • موقع عسكري: ما أنواع أهداف الضربات الأمريكية في اليمن التي تستخدم فيها صواريخ مضادة للإشعاع الثمينة؟
  • متظاهرون في جامعة “ييل” الأمريكية يرشقون بن غفير بعبوات المياه (فيديو)
  • احتجاج في ييل الأمريكية بسبب بن غفير.. والجامعة تلغي مجموعة داعمة لفلسطين
  • أمريكا.. احتجاجات في جامعة ييل على زيارة بن غفير