سودانايل:
2025-04-26@14:14:38 GMT

الرزيقات بين فرية التحريض وسندان الوطن الجريح

تاريخ النشر: 26th, April 2025 GMT

دكتور الوليد آدم مادبو

“لا يمكن إرساء سلم أهلي ما لم يُعاد الاعتبار للأنماط المحلية في إدارة التوازنات القَبَلية، وما لم تتوقف الدولة عن فرض صيغها العسكرية على مجتمعاتٍ لم تُخلق للحرب بل للتعايش." — (دارفور المستوطنة الأخيرة، 2012)

تتعالى في الأفق أصواتٌ نشاز، تروج لمزاعم لا تخلو من خبث، مفادها أن نظارة الرزيقات قد ارتضت لنفسها دور المتآمر على الوطن، وأنها انضوت تحت جناح الفوضى، تارة باسم القَبَلية، وتارة أخرى بدعوى التحالف مع الدعم السريع.

هذه السردية التي يروّج لها بعض أبواق النظام البائد، لا تسعى إلى الحقيقة، بل تهدف إلى شيطنة كل من لم يخضع لمنطقهم الأمني القديم، أو يمتثل لسلطتهم الرمزية المتهالكة.

بل قد يمتد الكيد وتوُظَّف الشائعات لتشويه الرموز، فتزعم هروب ناظر الرزيقات، السيد محمود موسى إبراهيم موسى مادبو. وهي شائعة لا تليق إلا بمن يجهل التاريخ أو يتعمد تزويره، فالهروب ليس من شيم من رسخوا في الأرض وتوارثوا حمل الأمانة جيلاً بعد جيل، بل هو من طبائع القيادات الطارئة على التاريخ، التي لا أصل لها ولا جذر في وجدان الناس.

نعم، قد يخطئ الإنسان فيقول ما لا يجوز قوله أو يفعل ما يجوز فعله تحت وطأة المشاعر واستعارة العواطف، لكنه متى ما استعاد توازنه النفسي والذهني فيلزمه الرجوع إلى الحق وإلى جادة الطريق، “ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح، وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون”. صدق الله العظيم

إن نظارة الرزيقات، بامتدادها التاريخي العريق، لم تكن يوماً أداة في يد الطغيان، بل لطالما قاومت محاولات اختطافها وتوظيفها في مشاريع استئصالية، بدأت بإعلان “الجهاد” على الجنوبيين، وانتهت بمجازر الإبادة في دارفور. رفض آل مادبو الانخراط في تلك الحروب العبثية، ووقفوا، بقدر استطاعتهم، سدّاً أمام تفكيك النسيج الاجتماعي، لكن مواجهة دولة تستقوي بأجهزتها الإعلامية واستخباراتها العسكرية، لم تكن بالأمر الهيّن. الجنوبيون وأبناء دارفور، ممن خبروا الحقائق على الأرض، يدركون تمامًا هذا العجز البنيوي لا الأخلاقي.

لقد ترك رحيل الناظر سعيد محمود موسى مادبو (1931-2016)، عليه رحمة الله، فراغاً استغله الطامعون لإعادة هندسة الخارطة القَبَلية وفق أجندة المركز النخبوي، الذي لم يرَ في أهل دارفور سوى وقودٍ لحروبه، وخزاناً بشرياً لأجهزته القمعية. ولكن حين اندلعت الحرب الأخيرة، لم يعد أمام الكيان العربي في دارفور وكردفان خيارٌ سوى الدفاع عن نفسه، بعد أن أصبح هدفاً ماثلاً، لا في الدعم السريع وحده، بل في استهداف البوادي والهوية والانتماء.

غير أن الردّ على الظلم لا يجب أن يتحول إلى حقد، ولا ينبغي أن يُختزل في سرديات ثأرية. *إن ما نحن فيه ليس خلاف قبائل ولا تصارع أجنحة، بل أزمة دولة انهارت بنيتها، وتمزقت سلطتها، واستُلب قرارها من النخب الأمنية التي تقمصت دور “الضحية” بينما هي من صنعت الكارثة الحالية*. إن الحل ليس في تخوين المكونات، بل في رد الاعتبار للمهمشين، وفي المصالحة الوطنية الشاملة التي تعترف بالألم، وتُرسي دعائم عدالة لا تُقصي أحداً.

الوطن اليوم ليس بحاجة إلى مزيد من الجراح، بل إلى ضمادات صادقة، تُفرق بين الفاعل والمفعول به، بين من أجّج النيران ومن اجتهد في إطفائها، حتى وإن لم يملك إلا صوته. فالرزيقات، كغيرهم من مكونات السودان، لا يمكن عزلهم ولا تخوينهم، بل يجب إشراكهم في نحت المشروع الوطني الجديد. وإلا، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة، نُعيد إنتاج الخراب نفسه بأسماء مختلفة، حتى تضيع البلاد بين شهوة السلطة، وعجز المصالحة.

إن الرزيقات، كما بقية نظارات السودان، ليسوا أعداءً لهذا الوطن، بل جزءٌ أصيل من نسيجه. إذا أردنا أن نستعيد السودان، فعلينا أن نُحسن الإصغاء لاختلافاتنا، ونحتكم لصوت الحكمة لا خطاب الكراهية. أما إذا أصرّ البعض على تعمية البصائر، والاكتفاء بلعب دور الضحية، فستغرق سفينة الوطن، وسيصعب حينها العثور على من ينقذنا من الغرق.

ختاماً، هذا المقال لا يبرّئ أحداً من تبعات الحرب، ولا ينفي تورّط أفراد من أي جهة في أفعال مدانة، لكنه يرفض منطق وصم الجماعات وشيطنتها بالجملة. إنه نداء للتعقّل لا للتبرئة، للإنصاف لا للتخندق، للإنقاذ لا للإدانة. *السودان لا يُبنى على خطاب الكراهية ولا على توزيع الذنوب وفق خرائط الهوية، بل على اعتراف صادق بالمسؤولية الجماعية*، ومصالحة تبدأ من الاعتراف بالألم وتؤسس لوطن لا يظلم فيه أحد ولا يُستثنى منه أحد.

‏April 26, 2025

auwaab@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

ذاكرة الخيانة: حين يصير الحلم العسكري موتًا مؤجلاً

"قراءة في بنية الانقلابات في السودان من عبود إلى البرهان وحميدتي"

إهداء

إلى الذين لم يكفوا عن الإيمان بأن الحلم أكبر من البندقية،
وأن الوطن لا يُؤخذ بيانًا، بل يُصنع صبرًا.

…………………………….

مفتتح

ثمة خيبات لا تسقط فجأة، بل تنمو، مثل داء خفي، في بطانة البزة العسكرية، قبل أن تنفجر بيانًا يبتلع ما تبقى من الحلم.

………………………….

في أعماق كل ضابط جيش سوداني، ترقد بذرة صامتة:
أن يقود انقلابًا، ويُصبح الحاكم الذي كتب له التاريخ مكانه بين أضرحة الخراب.

وكما نبّهت حنة أرندت، فإن “غواية السلطة المطلقة ليست امتياز الطغاة وحدهم، بل لعنة كامنة في كل بنية سلطوية غير خاضعة للمساءلة”.
وفي السودان، حيث اختلطت البنادق بالأوهام، صار الحلم بالاستيلاء على الوطن نزعة تتخلق باكرًا في مؤسسات أُقيمت لا لصناعة المواطنين، بل لصناعة الحكام.

منذ انقلاب الفريق عبود (1958)، مرورًا بنميري (1969)، وصولًا إلى انقلاب البشير (1989)، كانت الدبابة تكتب التاريخ بالحبر الأسود قبل أن تسطره الشعوب بدمائها.
لم يكن الوطن ساحةً للحرية، بل ساحةً للمناورات؛ تُمحى خرائطه مع كل بيان أول، ويُعاد رسمه كغنيمة معلقة على كتف جنرال.

لم تكن الانقلابات عارضًا، بل سلوكًا بنيويًا، تجد جذوره في الخيال السياسي المشبع بثقافة “الزعامة” لا ثقافة “الشراكة”.
شعارات مثل “الإنقاذ”، و”تصحيح المسار”، و”الثورة”، كانت مجرد أقنعة فضفاضة لغريزة التملك: غريزة تختصر الوطن في رقعة يسودها البيان العسكري لا العقد الاجتماعي.

ولو تعمقنا أكثر، لاكتشفنا أن هذه الغواية العسكرية ليست ابنة اليوم،
بل ابنة مجتمع رعوي تاريخي رفع من شأن السيطرة على القطيع أكثر من شأن بناء المؤسسات.
فالبنية الاقتصادية الاجتماعية، حيث يُنظر إلى الزعامة باعتبارها غنيمة، تقاطعت مع العقلية العسكرية التي ترى الحسم فوق التعاقد، والولاء الشخصي فوق الشرعية الدستورية.

جاء انقلاب البرهان، في 2021، كتجلٍ فج لهذا المسار الكارثي.
لم يكن انقلابًا ضد فساد سابق، بل كان نزاعًا مكشوفًا بين مشروعين صغيرين يتنازعان على جسد وطنٍ جريح.
البرهان الذي سُيّرته عقدة تحقيق “حلم الأب”، لا حلم الوطن،
و من خلفه الجبهة الإسلامية و حلمها ايضاً بالعودة إلي المشهد، وحميتي الذي ورث أدوات القوة دون أن يمتلك مشروعًا وطنيًا،
كلاهما كان وجهين لعملة اغتيال آخر لأمل الانتقال المدني.

كما وصف غوستاف لوبون: “الجماهير لا تطلب الحرية، بل مخلصًا”،
وقد ظلت الجماهير في السودان، تحت وطأة الدبابة، تختار سجانيها الجدد،
ربما تحت إكراه، وربما تحت إرث نفسي أعمق من أن يمحوه بيان ثورة عابر.

ما يجعل المؤسسة العسكرية أكثر خطورة ليس فقط امتلاكها للبندقية،
بل قناعتها الداخلية أن الوطن مشروع امتياز شخصي، لا فضاءً مشتركًا.
المدنيون في هذا المخيال، مجرد "مَلَكِية" يفتقرون للصرامة؛
أما الضابط فهو، في أسوأ تجلياته، المنقذ الذي لا يعرف سوى لغة النار.

ليس غريبًا إذًا أن يخرج الضباط من ثكناتهم حاملين هذا الحلم الدفين:
أن يُصبح البيان الأول طريقًا معبدًا نحو القصر، لا نحو الشعب.

وكما قال نيتشه: “من يحارب طويلاً من أجل الغلبة قد يصير الغلبة نفسها”،
فقد تحولت المؤسسة العسكرية السودانية، عبر الأجيال، إلى جهاز يعيد إنتاج نزعته الخاصة في التشبث بالغلبة، حتى لو كان الثمن وطنًا آخر يُضاف إلى خرائط الخراب.

والحق أن فترات الحكم المدني في السودان، مهما تألقت ومضت ساطعة لحظات،
كانت دومًا استثناءات هشة، محاطة بثكنات تنتظر فرصة الانقضاض.

من عبود إلى البرهان، ليس مسارًا سياسيًا فقط، بل مسارًا نفسيًا أيضًا:
خيبات متكررة، كأن الوطن لا يُكتب له إلا أن يكون صدى لحلم البزة لا حلم الجماعة.

وفي كل مرة، كانت الحرية تُدهس تحت جنازير الدبابات،
وكان الأمل يقتل برصاصة صادرة من حلمٍ فردي قصير النظر و الأفق.

وحين أشعل البرهان حربه مع مليشيا الدعم السريع، لم يكن يدافع عن وطن،
بل عن موقع في سُلم الغنائم.
وكذلك فعل حميدتي: صعد على جماجم الأبرياء ليعقد صفقاته باسم “الهامش” و”التحرير”.

واليوم، يتسكع الوطن بين أنقاضه كطفل يتيم، لا يجد حتى ظله.
وفي الأفق، لا تزال البزات مكوية، تنتظر من يحلم من جديد بالانقلاب الموعود.

ليس السؤال كيف نوقف البيان الأول،
بل كيف نوقف الحلم به قبل أن يُكتب.
وليس العدو بندقية،
بل الخيال المريض الذي يُقدّسها.

في انتظار معجزة من معجزات الوعي،
سيبقى السودان معلقًا بين فوهتين:
فوهة الحلم المعطوب، وفوهة الخيانة المؤجلة.

zoolsaay@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • نوبة صَحَيَانْ، لكافة أهل السودان
  • ذاكرة الخيانة: حين يصير الحلم العسكري موتًا مؤجلاً
  • أبرز محطات الكهرباء التي تعرضت للاستهداف في السودان
  • السودان .. قطع الكهرباء عن ولايتي نهر النيل و البحر الأحمر
  • مقتل عشرات المدنيين في مجزرة للدعم السريع بغرب كردفان
  • نزوح جماعي في الفاشر.. والبرهان يتلقى رسالة من غوتيريش (شاهد)
  • الأمم المتحدة: نزوح جماعي من مخيم زمزم في السودان ويجب حماية المدنيين
  • دارفور التي سيحررها أبناء الشعب السوداني من الجيش والبراءون والدراعة ستكون (..)
  • وقطع (هلال) قول كل خطيب!!