كتاب للأنثربولوجية الكندية جانس بودي شديد الصلة بكتاب د. حسن وعنوانه "نشر الحضارة بين النساء: حملات الإنجليز في السودان المستَعمر"
مابل ولف ومدرسة القابلات (1920): الاستعمار المضاد (2-2)

عبد الله علي إبراهيم
د. حسن بلة الأمين، أطباء السودان الحفاة: قصة نجاح بهرت العالم، جامعة الخرطوم للنشر، 2012
(شرفت بطلب الدكتور حسن الأمين بلة تقديم كتابه أعلاه.

فكتبت ما تجده أدناه)

ولا مندوحة أن ينصرف الذهن إلى عقد مقارنة بين مدرسة القابلات في أم درمان وبخت الرضا بقرينة أنهما خدمتان تعليميتان من مستعمر واحد. غير أنهما اختلفتا حيال الهرمية المؤسسية التي شابها استعلاء المستعمر على من هم دونه. لا
فخلت مدرسة القابلات من هذه الهرمية في حين أخذت بخت الرضا بأطراف منها. وأخذت مابل نفسها بصوفية رشيقة يستلطفها السودانيون. فسكنت مابل في بيت من بيوت الطين وركبت الحمار في مهامها. وتضمنت لائحة المدرسة نصاً بوجوب معاملة السودانيات باحترام خلا من الميل للانضباط الاستعماري معروف ساد مثل أن يقف السوداني متى ظهر إنجليزي. فلم يطلب عبد الرحمن على طه من مديره قريفث في بخت الرضا طلباً مثل ألا يقف كل ما دخل عليه. وعرفت ذلك مابل ببداهة أنثوية وتشكيلية فقالت إن مثل ذلك الوقوف مستذل وهو إجراء لا يحتمله السودانيون. كذلك لم تطلب من زميلاتها خلع أحذيتهن داخلات عليها. وكان الإنجليز الرجال يطلبون من الداخل مكتبهم خلع نعاله إن كانت غير أوربية. وما تأسف الطيب بابكر المتظاهر، من قادة حركة 1924 في شندي، مثل تأسفه يرى سيداً في قومه يخلع نعاله على باب مفتش مركز إنجليزي، وشجعت مابل المدربات في المدرسة لتقديم اقتراحاتهن لتناقش باحترام. ومنحتهن تذاكر بالدرجة الثانية بالقطار كالمعلمات لأنهن بالفعل كذلك في نظرها. وكانت حساسة لوضعهن كنساء مرهوبات في مقابل المساعد الطبي، الذكر، الذي يتلقين مطلوبات المهنة منه.
ولسنا نملك إزاء هذا الاختلاف البين بين المؤسستين إلا أن نجرؤ على القول إنه راجع إلى أنثوية القيادة في مدرسة القابلات وذكوريتها في بخت الرضا. فقد طبعت القيادة الأنثوية للمدرسة بصمتها عليها بقوة. ولو جئنا للحق فمدرسة القابلات صناعة أنثوية مما اكسبها صفة الاستعمار المضاد. فقامت المدرسة نفسها بإلحاح من زوجة مدير انجليزي دبر لها ميزانية في المصلحة الطبية في وقت كان أغلب مالها يذهب لموظفي الحكومة والجنود. والجنس للجنس رحمة حتى في إطار الاستعمار المدجج بالاستعلاء على من وطئ بلدهم. وكان للاستعمار أنثوية مستفحلة بين نسائه. ولنحسن تقدير أنثوية المدرسة صح تذكر أنه قامت بين النساء الإنجليز حركة أنثوية ممن سمتهم جانس بودي "الأنثوية الإمبراطورية". وأخضعت هذه الأنثوية رجال الإدارة البريطانية لزجر شديد لتهاونهم في محاربة الختان الفرعوني نكاية بنساء المستعمرات في تضامن بينهم وبين رجال أولئك النساء في المستعمرة. وصدر قانون محاربة الختان الفرعوني في 1946 من المجلس الاستشاري لشمال السودان نزولاً عند إرادتهن.
كانت ماربل وطاقمها استعماراً مضاداً. فعارضن زملاءهن في الخدمة الاستعمارية. فلم يكفن عن مصارحتهم بما لا يستقم مع فكرتهن حول تدريب القابلات. واعتراهن الإحباط كثيراً من عتو أولئك الرجال. ووجدن العزاء في عرفان السودانيين لهن وتقديرهن. ومن ذلك استعداد مدينة الرهد لتقديم بنت منها لتلتحق بمدرسة الدايات بعد أن نجحت مابل في إنجاز ولادة متعسرة أعجزت داية الحبل. وربما اسعدهن كسب مثل بتول عيسى للمدرسة. فكانت تلقت تعليماً في مدرسة الشيخ بابكر بدري في رفاعة. وراقبت يوما قابلة تولد في بيتها فشغفت بنظافتها وحسن أدائها. فالتحقت بمدرسة القابلات برغم معارضة أهلها. وترقت في المهنة حتى باشداية. وركبت العجلة لأغراضها وكانت قدوة في ذلك لقابلات أخريات. وكان الطاقة السودانية مثل بتول، التي شغفت بالحداثة، من مقومات نجاح المدرسة. وحتى في بخت الرضا بعلاتها اعترف مديرها روبن هودجكن بأن فضل التربية الإسلامية التي جاء بها معلمون مثل عبد الرحمن على طه في قلب نجاح المؤسسة كما رآه.
كانت مابل استعماراً مضاداً في سياسات أخرى منه حيل المرأة. فكتاباتها من المسكوت عليه لخلافها مع الرأي الرسمي للإدارة. فرفضت مرة في آخر العشرينات حذف الحاكم العام فقرة من كلمة عن الختان أعدتها للقاء بلندن. وحدث ذلك في وقت انغمست الإدارة الاستعمارية في حرب صليبية ضد الختان كعادة بدائية ضارة. ولم تعتبر الإدارة دور القابلة في حربها تلك مع أنها مدربة لحرب الختان بطريق آخر. فجنحت الإدارة للقانون في حربها للعادة. وخلافاً لنهج الإدارة في سل السيف لحرب العادة كان نهج مابل "التغلب والتخفيف والتحسين وليس الإلغاء والاستئصال". واقترحت أن تجري القابلة نوعاً مخففاً من الختان سعياً للتغلب على النوع الشقي منه ثم ترك الزمن لينهي سائر العادة. وكتبت لمحرر صحيفة التايمز اللندنية بصراحة عن خلافاتها مع إدارة السودان (11 فبراير 1949).
وأدل قصة على استعماريتهن المضادة هي صدامها مع رئيس الكلية الملكية لطب النساء. فأرسل لها وهو في السودان يطلب أن يأتي ليفتش مدرسة الدايات. فكتبت لمن جاءها بالرسالة أن يقول لمن أرسله "إن ما نفعله هنا ليس كالذي يفعلونه في شارع هارلي بلندن" وهو شارع أطباء الأغنياء.
زلزلت تجربة مدرسة القابلات يقينيات المؤلف الطبيب عن مهنته. ولعل أمتع جوانب الكتاب هي تجليات "النفس اللوامة"، أي الشفافية" التي أشرق بها المؤلف هو يراوح بين ممارسة مابل وما تعوده من تعليم بكلية الطب.
فتجده يفرق بين الصحة (الخلو من المرض) والعافية (الصحة كأمن بدني ونفسي وحياتي). فاستصفى أن يقوم فقه طبنا على العافية المنقوشة في وجداننا واستحقاقنا: "لم يؤت أحد بعد اليقين خيراً من العافية"، و"أرقدو عافية" الشفوقة في مقابل " كيف الصحة؟" التي استجدت.
استعان الكاتب بمصطلح الطيب صالح عن "التركيب والمزج" في "نخلة على الجدول" ليصف مؤسسة قابلة القرية. فقد تمازج فيها الطب التقليدي (داية الحبل) وطب حديث. وهذا التركيب والمزج هو "النص الهجين" في مصطلح علم ما بعد الاستعمار. فالنص الهجين نتاج الدولة المستعمرة التي يكون للأجانب الوصاية على هذا المزج بما علموا عن أنفسهم الراقية وبما علموا من ضعتنا وجهالتنا. وقارب المؤلف المعنى بقوله: "وإن كان من أنشأ برنامج (تدريب القابلات) أجنبياً فإن ذلك لا ينتقص من إسهام الرائدات السودانيات فيه وتطويره. وما كان البرنامج لينجح لولا هؤلاء لمعرفتهم بالثقافة المحلية وصلتهم بالمجتمع. ولكن الكاتب لا يترك لنا الفرصة للاشمئزاز من عاداتنا. فسرعان ما قال إنه سادت في أوربا عادات حتى التاسع عشر أكثر كآبة مثل أن تتناول الحامل شربة من روث الخنزير ورماد الضفادع لمنع النزف.
وأخذت المؤلف دراسته لحفاة الأطباء من القابلات إلى فقه للصحة ناظراً إلى عقود من عوار الخدمة الصحية في السودان. وهذا العوار عنده سياسة واجتماع قبل أن يكون مشاكل تقنية طبية. وضرب مثلاً: فتناقص الوفيات في بريطانيا لم يأت عن طريق اكتشاف السلفا في الثلاثينات، أو البنسلين في الأربعينات، أو التطعيمات في الخمسينات، أو المضادات الحيوية في الستينات. فما أنقص الوفيات حقاً هو العقد الاجتماعي السياسي الذي بدأ ببداية القرن العشرين وجعل الصحة حقاً للمواطن من الدولة، أي عافية. كما ذكر القانون المعكوس للخدمات الطبية ومفاده: الذين يحتاجونها أكثر يجدونها بصورة أقل في حين أن الذين يحتاجونها بصورة أقل يجدونها بصورة أكثر".
وحمل المؤلف على "مؤسسة المستوصف" الذي تأتى من المفهوم الاجتماعي للصحة كخلو من الأمراض بينما العافية، التي تستبق المرض بالوقاية، هي المطلب. فأدى مفهوم الصحة كخلو من المرض إلى استكثار المستشفيات والمستوصفات. واقتصر تدريب مؤدي الخدمة الطبية في كلية الطب وما جاورها. وأخذ على تدريب هذه الكليات سوءة لأنه يعلي من قدر الدلائل والوسائل السمعية والبصرية "على حساب التعليم في ظروف الحياة الحقيقية" على قاعدة من "الحوار والتعليم بالتجربة الحقيقية على مثال مدرسة القابلات. وعليه يتحول التدريب من "تدريب بالعمل" إلى تدريب بالاستماع والاستذكار". ويفرض هذا الوضع على المُدرب أن ينظر للمتدربين لا كزملاء، بل ك"تلامذة" له
وساقه تفريقه بين مفهوم العافية والصحة إلى الأسف على السودان الذي كان رائداً في الرعاية الصحية الأولية وطب الأسرة والطفل. فكسدت القابلة وتدهورت مدارس تدريبها وتناقصت. وترافق مع انصرفنا عن الرعاية الصحية تكاثر " المستشفيات على حساب المراكز الصحية. وانتشرت المستشفيات الخاصة التي تخدم القلة المقتدرة ولا تفتح أبوابها للفقراء والمساكين". ووصف الأخيرة خبير في الصحة المستشفيات ذات الخمسة نجوم ب"قصور المرض".
ومن بين حججه القوية على ظاهرة دخول المستوصف من باب انصرافنا عن الرعاية الصحية تحول الولادة، التي استنتها القابلات، إلى عملية جراحية. فتلاحظ ازدياد العمليات الجراحية بمضاعفاتها المعروفة. وصارت العملية القيصرية وجاهة. فصارت المستشفى مسرحاً للولادة لا البيت.
بالنتيجة تكدست الخدمة الصحية في العاصمة. ولما كان الموقع المثالي للمستشفى هو العاصمة نجد الخدمة الصحية تركزت فيها على حساب الريف. فعلى أننا إحصائياً في مقدمة دول وفاة النساء إثر الجراحة للولادة إلا أن ريفنا هو الأسوأ. فنحصد خمسمائة إلى ألفين وفاة في كل مائة ألف حالة (2009). وتقع معظم هذه الوفيات في الريف الذي انحسرت الرعاية الصحية عنه. وتحصد مضاعفات العملية الجراحية في المستشفيات أمهات المدن. وتجدنا نغطي على هذا الواقع الأليم بنباحة الشجرة الخطأ. فعادة ما نرد هذه الوفيات إلى الختان الفرعوني. ولكن يبقى السؤال وهو لماذا لم تكن الوفيات بهذا العظم في وقت مضى ساد فيه الختان بأكثر من أيامنا هذه. والإجابة بسيطة وهي أنه توافر الداية القانونية في ذلك لزمان بينما تبخرت على أيامنا هذه.
وجاء المؤلف إلى ضرورة تعريب تعليم الطب بمدخل تجربة مدرسة القابلات. فطعنت خبرة المدرسة في تعليم المؤلف وبان له عواره. فأدخلته خبرة مدرسة القابلات في استثمار اللغة في التدريب في حالة من النقد الذاتي. فقال إن من تعلم الطب في لغة عجمية تقطعت أسبابه بالمريض. فيجد مثله عسراً في التعبير لطمأنة المريض التي هي تاج العلاج ناهيك عن شرح ما يعانيه بلغة مفهومة. وعبر عن إعجابه بتواصل الأطباء السوريين، ممن درسوا باللغة العربية، مع المرضى في حين يعجز هو.
واعتقد المؤلف أن الحاجة ماثلة لوظيفة القابلة خلافاً لمن يذيعون وجوب التحول من مثلها من الأطباء الحفاة إلى المهنيين. ولكن الطبيب الحافي المطلوب ما يزال لن يكون هو أو هي القابلة ذاتها. فصح توسيع دورها الآن لتكون عاملاً صحياً شاملاً مختصا برعاية الأمهات والأطفال في الريف يدمج وظائف المساعد الطبي العلاجية السابقة. وربما اضفنا توثيق المواليد بل وصحة البيئة.
هذا الكتاب استدراك لخبرة في بركة التعليم أحسناها لنغادرها إلى متاهة في الطب كشف عنها المؤلف بعد تجربة أربعين عاماً من ممارسة مهنة الطب. فجعل بصرنا حديداً في تمثل فقه جديد للخدمة الصحية. وكان ارتحالنا عن تلك الخبرة من باب الضرب صفحاً عن عبقريتنا في التعاطي مع ما يستجد من دون من أو أذى كما فعلت مابل الاستعمارية المضادة. فقال شيخ إنجليزي خدم في السودان:
You are one of a kind
"أنتم السودانيون قوم نسيج وحدكم".
ولهذا كلبت شعرة طبيب سمع عن كشف الحلة من المؤلف فصاح: "هذا شيء أخاذ يهز المشاعر".


ibrahima@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الرعایة الصحیة فی السودان بخت الرضا

إقرأ أيضاً:

سجال ودي مع نقاد رواية “إعدام جوزيف” (1-4)

الدكتور ضيو مطوك ديينق وول

بتاريخ 5 فبراير 2025 بالقاهرة تم تدشين رواية "إعدام جوزيف " وهي عملٌ إنساني، كُتِبَ بدارجةٍ سودانيةٍ، وكنتُ أخشي أنْ يجدَ النقادُ المصريون صعوبةً في التعاملِ معها، خاصةً الحواراتِ التي جرتْ بالعاميةِ السودانية داخلَ الكتابِ، لكنِّي تاكدتُ أنَّ الشعبَ في وادي النيلِ مُتَدَاخلٌ، يتمتعُ بمشتركاتٍ كثيرةٍ نتيجةً لأواصرِ التاريخِ والجغرافيا والحضارةِ الممتدةِ، ولذلك يستطيعُ أنْ يتعاملَ مع مفرداتِ اللغةِ بمحيطِ وداي النيل.
وأنا أبتدر هذا السجال الودي، لابد من التحيةُ والشكرُ للذين ساهموا في إخراج هذا العمل الأدبي وعلي رأسهم الأستاذان أسماءِ الحسيني ونبيل نجم الدين، لِجُهْدِهما في إقامةِ مناسبةِ التدشين والمناقشة والتوقيع علي الكتاب.
الشكرُ موصولٌ لمركز الفارابي للدراسات السياسية والتنموية والمنتدي الثقافي المصري لاستضافتِهِما هذا اللقاءِ المتميزِ، خاصة البروفيسور مدحت حماد الأستاذ بكلية الآداب بجامعة طنطا والأمين العام للمنتدي الثقافي المصري .
الشكرُ ممتدٌ لكلِ من شاركَ في مناقشة الكتاب وتقديم آراء ثرة، أعطت الرواية قيمتها الأدبية؛ النُقادِ، الدبلوماسين، الإعلاميين، أساتذةِ الجامعات والجمهورِ خاصةً أبناءِ جَنَوبِ السودان والسودان، بجمهورية مِصْرِ العربية وعلي رأسهم رئيس بعثة جنوب السودان بجمهورية مصر العربية السفير كوال نيوك والدكتور عبدالحميد موسي كاشا رئيس مركز كاشا لدراسات السلام والدكتور محمد عيسي علوة نائب حاكم إقليم دارفور والدكتورة إشراقة مصطفي الكاتبة والباحثة في القضايا السودانية والدبولماسي المصري السفير محمد النقلي وآخرين .
كما شهدت الفعاليات تكريم الكاتب من قبل اعضاء مجموعة مناصرة اللاجئين السودانيين برئاسة البروفسور صديق تلور عضو المجلس السيادي السوداني السابق، لدوره في دعم المبادرة.
ايضا شارك في التدشين، اعضاء المجموعة السودانية للدفاع عن الحقوق و الحريات برئاسة الاستاذ الصادق علي حسن المحامي.

شكرٌ خاصٌ لأستاذِنا أسامة إبراهيم رئيسِ مجلسِ إدارةِ ومديرِ دارِ النخبة العربيةِ، الذي كان من الأوائلِ الذين قرؤوا الروايةَ، ودفعوني إلى نشرِها، وَقَبِل تحدي كتابةِ المقدمةِ عندما طلبتً منه ذلك، وهي الآن تشكلُ جزءًا من النَقْدِ الذي تَضَمَّنَتْهُ الروايةُ بمفرداته الجميلةِ.
لابدَّ من شُكْرِ الدورِ الذي قام به البروفيسور قاسم نسيم حماد، أستاذُ الأدبِ والنقدِ بجامعةِ إفريقيا العالميةِ، والأستاذُ الصحفي غبريال جوزيف شدار، والأستاذُ الصحفي مثيانق شريلو، الذين قراءوا المخطوطةَ، وقدموا إرشاداتٍ مُهِمَّةٍ، ساهمت في إخراجِ الروايةِ بهذا الشَّكْلِ.
الشكرُ أخصُّه لأساتذتنا الذين قَبِلُوا دعوتَنا للمشاركةِ في التدشين، وتقديمِ آراء نقدية، وأدبية للرواية، وأخصُّ بالشكرِ الدكتور حسام عقل أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس ورئيس ملتقي السرد العربي، و الأستاذَ نادر السماني نقيبَ الصحفيين السودانيين والأستاذَ الكاتبَ الصحفي ديفيد داو أروب كوات وكل من قرأ الرواية ونشر رأيه في وسائط الإعلام المختلفة. أقولُ لهم جميعا: إنَّ آراءكم ستكونُ محلَّ تقديرِنا.
هذا السجال الودي عبارة عن تفاعل مع الكتاب الذين قدموا جهداً عظيمًا لتعطير الرواية ومنحها روحاً جديدةً تستطيع بها أن تدخل الواقع المعاش، وتساهم في معالجة قضايا سياسية و اجتماعية ليس للسودان فقط ولكن العالم أجمع. الأستاذ الصحفي أسامة إبراهيم رئيسِ مجلسِ إدارةِ ومديرِ دارِ النخبة العربيةِ كان من الأوئلِ الذين أكدوا هذا الأمر، ولخصَّ الروايةَ تحت عنوانٍ جديدٍ "اغتيالُ العدالةِ"وهذا الوصفُ يحملُ كثيرًا من المعاني في عالمنِا المُعَاصرِ، حيثُ إنَّ غيابَ العدالةِ يجردُنا من الإنسانيةِ، ويضعُنا في مقامِ أمَّةٍ غيرِ متحضرةٍ لا تحترمُ حقوقَ الإنسانِ وتتعاملُ مع البشريةِ بعقليةٍ وحشية.
الأستاذُ دينق ديت أيوك الناقدُ الأدبي، وهو أيضًا كاتبٌ صحفيٌ من جنوب السودان، ينظر لهذه القضيةِ بأنَّها نتاجٌ للإسلامِ السياسيِ في السودان، وهو رأيٌ تساندُه كثيرٌ من الأحداث التي جرتْ في السودانِ قَبْلَ و بعد استيلاء الإسلاميين علي مقاليدِ السلطةِ عام 1989 .
أجد نفسي متفق مع الأستاذ دينق ديت فيما ذهب إليه من اعتقاد لأن الأحزابِ السياسيةِ الكبيرةِ التي تقلدت السلطةَ بعدَ خروجِ المستعمرِ كانتْ قياداتُها من بيوتاتٍ إسلاميةٍ يتخذون العروبة كايدويولجية للدولة السودانية، تاركين القومية السودانية خلفهم ، سواء كان ذلك عند حزبِ الأمةِ بزعامةِ الإمامِ الراحل الحبيب الصادق المهدي أم الاتحادي الديمقراطي بقيادة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني ولاحقا الجبهة الاسلامية القومية بقيادة الشيخ الدكتور حسن عبدالله الترابي.
هذه التنظيمات السياسية لم تستفد من تجربة المستعمر البريطاني الذي حاول جاهدًا إيجاد معادلٍ مرضٍ لأهل السودان بخلق المناطق المقفولة حفاظا للتراث المحلي بعد شعورهم بتعرض هوية السكان الأصليين لطمس متعمد من قبل العروبة والإسلام. هذا الفعل تعززه توجههات رجال الاستقلال الذين وعدوا جنوب السودان بتطبيق النظام الفيدرالي بعد خروج المستعمر وعادوا ليصفوا المطالبة بالفيدرالية بالخيانة العظمي. لا نريد الخوض في هذا الاتجاه في هذه العجالة بحيث أرغب في كتابة مذكراتي وسأتطرق لهذا الجانب باستفاضة.
الكثيرُ من النقادِ الذين سنحت لهم فرصةُ قراءةِ الروايةِ وعلي رأسهم أستاذُنا حمدي الحسيني الإعلامي والكاتب الصحفي المصري الذي قال: إن هذا العمل "يكافح العنصرية والتمييز في السودان" أصابَ الهدفَ بهذا التلخيصِ، هذا يجسدُ واقعنا لأكثرَ من قرنين، حيث كانت حملاتُ الرقِ في مناطق الدينكا، وكاتب هذه الرواية واحدٌ من ضحايا هذه الحملات، حيثُ تَمَّ اختطافُ جدته ومعها توأم إلي اتجاه دارفور، لا أحدَ يعرفُ عنهم شيئًا إلى يومنا هذا. لكن من المؤسف أن يستمر هذا الوضع حتي الآن بحيث نشهد يوميا استهداف الأبرياء بسبب لون بشرتهم أو ديانتهم أو لغتهم. يجب على السياسيين السودانيين أن يستفيدوا من دروس تاريخهم الغني وينقذوا ما تبقي من الأمة بايقاف الاستهداف الممنهج علي أسس التمييز العنصري.
كما ذهب كثيرون، فإنَّ الروايةَ تشخصُ المشكلةَ السودانيةَ وتؤكدُ أنَّها مصطنعةٌ من الساسةِ وليس من قبل الشعبِ الذي يتمتعُ بمكارم الأخلاقِ، يحبُ الكرمَ ويخافُ من الخالقِ. فالشعبُ السوداني، شعبٌ مميزٌ يحبُ الخيرَ لغيرِه، وله إرثٌ اجتماعيٌ كبيرٌ في المسامحةِ والمواساةِ والتصالحِ والضيافةِ والتعايشِ السلمي مع الآخرين، إلا أنَّ الساسةَ الذين حكموا هذا البلدَ العظيمَ منذ استقلالِه من المستعمرِ البريطاني كانوا سببًا في إشعالِ الحروبِ العبثيةِ، وتقسيمُ المجتمعَ علي أساسِ العرقِ والدينِ والجغرافيا وحتي القبيلةِ. قد شهدنا هذا الأمرَ في أحداثِ الراويةِ، خاصةً مأساة الرقيب سانتو الذي خَدَمَ الجنديةَ بإخلاصٍ في الهجانة بالأبيض، لكنْ بسببِ ديانتِه ونسبةً لسياسات الحكوماتِ في الخرطومِ وجدَ نفسه عدوًا لمهنة أحبها منذ الصغر، وأصبحَ ضحيةً لاعتناقِ الديانةِ المسيحيةِ، كما جاء في أحداث الفصل الثاني. فالرقيب سانتو دخلَ في صدامٍ مع قائدِ الدفاع الشعبي- بالجبهة الغربية لعدم مشاركتِه المسلمين في صلاةِ الفجرِ، وكاد أنْ يُودي ذلك بحياتِه لولا تدخل الجندي محمد آدم الذي يسكنُ معه في ثُكنات الجيشِ.
جوزيف جون باك أُعدمَ بسببِ أنَّه جنوبي رغم أنّه لم يكنِ القاتل وهذا العملُ يثيرُ كثيرًا من الشكوك فيما نقومُ به بشكلٍ يومي من تطبيقٍ للعدالةِ داخل المجتمعات، وهل فعلًا نحن كبشرٍ حقا منصفين لبعضنا؟ ولذلك هذه الروايةُ تريدُ أنْ تُرسلَ رسالةً خاصةً مفادها أنَّ الموسسات العدلية في السودان تحتاج لإصلاح لما أصابها من تسيسٍ وانحرافٍ عن مسارها وأصبحت أدواتٍ للانتقامِ في قضايا وهميةٍ لم يكنْ لها وجود أصلًا وقد لحظنا ان المقالات التي كتبها أستاذنا الصادق علي حسن ركزت علي هذا الجانب وسناتي إليها لاحقا.

aromjok@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • سجال ودي مع نقاد رواية “إعدام جوزيف”3-4
  • أمسيات ثقافية و6 إصدارات جديدة لـ “اتحاد كتاب الإمارات” في “أبوظبي للكتاب”
  • “الداخلية” تضبط عددًا من مرتكبي عمليات النصب والاحتيال بإعلانهم عن حملات حج وهمية ومضللة
  • سجال ودي مع نقاد رواية “إعدام جوزيف” 2-4 
  • مابل ولف ومدرسة القابلات (1920): الاستعمار المضاد (1-2)
  • حكاوي سودانية ???????? بعيون سعودية ???????? “سمعتوا عن الطنابره في السودان؟”
  • ضمن حملة “حماة تنبض من جديد”.. يوم بيئي وحملة تشجير في مدرسة خالد السمك
  • سجال ودي مع نقاد رواية “إعدام جوزيف” (1-4)
  • شاهد بالفيديو.. سيدة الأعمال السودانية هبة كايرو تتحول لمطربة وتغني داخل أحد “الكافيهات” التي تملكها بالقاهرة