تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

حين نقترب من عوالم غادة نبيل الشعرية، لا نكاد نمسك بحواف ثابتة أو نبلغ يقينًا، فالنص عندها ليس مرآة لواقعٍ، ولا قناعًا لذاتٍ، بل هو صدمةٌ لغويةٌ تتخذ من الهشاشة قناعها ومن الجسد ميدانها ومن اللغة مهبط وحيها. غادة نبيل ليست شاعرةً بالمعنى الذي يألفه القارئ، بل هي زعزعةٌ مستمرةٌ للتقاليد، رفضٌ قاطعٌ للانسياق، واحتفاءٌ صارخٌ بالأنوثة كقوة لغوية وجمالية، لا كهوية بيولوجية.

من يقرأ غادة نبيل، يخرج دائمًا مثقلًا بجسد. الجسد في قصائدها ليس موضوعًا، بل هو البنية ذاتها. هي تكتب من الجسد، لا عنه، وتستعمل اللغة كجلدٍ إضافي، كامتدادٍ لحضورها الأنثوي المتوتر، المتشظي، المتوحد. إنها تمزق القواميس لتصوغ معجمها الخاص، حيث يتحول الشعر إلى فعل جسدي، إلى قُبلةٍ على خد اللغة، أو جرحٍ مفتوحٍ في خاصرتها.

في قصائدها، تتجلى هذه الجمالية الجسدية بوضوح، حيث الحب لا يُعاش فقط، بل يُرتكب. الشاعرة هنا لا تهجو الرجل بقدر ما تهجو السياق الثقافي الذي يجعل من المرأة هامشًا ومن الحب ذريعةً لتدجينها. الجسد في هذه النصوص ليس محط نظرة ذكورية، بل هو مركز الثقل الشعري، هو ما يُبنى عليه إيقاع القصيدة ومجازها.

واحدة من أبرز ميزات شعر غادة نبيل هي قدرتها الفائقة على اقتناص التفاصيل الصغيرة واليومية ومنحها بعدًا شعريًا غير متوقع. إنها تستخرج الشعر من "لا حدث"، من لحظة عابرة، من نظرةٍ في المصعد، أو من خيبةٍ في رسالةٍ قصيرة. لكنها لا تفعل ذلك كتوثيق، بل كمجاز. لا تبحث عن المعنى، بل تُفجر المعنى من قلب التفاهة.

قصيدتها أشبه ما تكون برسالة لم تُكتب قط، أو باعترافٍ وُلد من رحم صمت طويل. وفي هذا، تُشبه غادة نبيل شعراء مثل فيسوافا شيمبورسكا، لكن بلغتها الخاصة، بعنفها المصري، برقتها القاهرة، وبتلك الجرأة التي لا تخجل من أن تُسمي الأشياء بأسمائها ثم تتركها معلقةً في هواء القصيدة.

الأنثى في شعر غادة نبيل ليست ضحية، لكنها أيضًا ليست بطلة لا تُقهر. إنها كائنٌ يتقلب، يخطئ، يهرب، يبكي، يثور، ويكسر صورته كما يكسر المرآة. لا تُجمّل الشاعرة وجع المرأة ولا تُسجّله في سجلّات الأمل، بل تكتبه على جلده، بجراحه المفتوحة، بلا مساحيق ولا ترميزٍ زائف.

هي تعرف أن اللغة، كما العالم، ذكورية، لذلك تنحاز إلى التهكم، إلى الكسر، إلى اللعب. لغتها مراوغة، لا تطمئن إلى الصور الجاهزة، ولا تستقر في بنى لغوية مستقرة. تعيد بناء الجملة لتسكنها امرأة جديدة، امرأة ليست أمًا فقط، ولا عشيقة، ولا بنتًا، بل كائنًا حرًا يكتب ويُحبّ ويُهزم، دون أن يطلب عذرًا أو يغفر شيئًا.

غادة نبيل تكتب قصيدة النثر لا باعتبارها شكلًا شعريًا مغايرًا، بل كاختيار مُلح. هي تدرك أن هذا الشكل لا يضع قيدًا على إيقاعٍ أو وزنٍ، لكنه في المقابل يطلب من الشاعر أن يكون صادقًا، عاريًا، وعارفًا بما يفعل. القصيدة عندها لا تتبع نسقًا موسيقيًا خارجيًا، بل تنبع من داخل النص، من تدفق الصورة، ومن رجفة الجملة.

إنها تكتب كمن يخاطب شخصًا ما في الظل، أو كأنها تكتب نفسها إلى نفسها، وكأننا نتلصص على دفتر خاص لا يُفترض بنا أن نقرأه. وهذا هو سر سحرها: الكتابة كمكاشفة، كنوع من العُري المتقن، لا باعتباره فضيحة، بل كأقصى درجات الصدق الشعري.

غادة نبيل ترفض أن تُختزل في صفتها الجندرية، وتكتب من مكانٍ يتجاوز التصنيفات. هي لا تطالب بحقٍ، بل تمارسه. لا تحتج على الظلم، بل تفضحه بضحكةٍ مريرة. لا تحفر في الذاكرة، بل تنقّب في الخواء.

قصيدتها ليست بيتًا يأوي القارئ، بل بابًا مفتوحًا على العراء، على الوحشة، على الارتباك، حيث كل شيء مُحتمل. إنها تكتب لا لتُفهم، بل لتُحدث أثرًا، لتوقظ شيئًا نائمًا فينا، شيئًا أنثويًا ربما، أو هشًا، أو منسيًا.

ولهذا، تظل تجربتها واحدة من أنضج التجارب في مشهد قصيدة النثر العربية، وأكثرها صدقًا وجرأة وتفردًا.

المصدر: البوابة نيوز

إقرأ أيضاً:

قصة بطل في زمن الحرب.. سيارة فورد 1924 شاهد صامت على تاريخ الغردقة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في قلب مدينة الغردقة الساحرة، وعلى بعد خطوات قليلة من مياه البحر الأحمر المتلألئة، يرقد شاهد صامت على تاريخ المدينة العريق: سيارة فورد عتيقة يعود تاريخ صنعها إلى عام 1924! هذه التحفة الميكانيكية، التي كانت مملوكة للراحل عم قاسم من قبيلة العبابدة، لا تزال تحتفظ برونقها وقدرتها المدهشة على العمل، حيث يدور محركها حتى اليوم بواسطة "المنفلة" التقليدية.
رحلة عبر الزمن بين الدهار والسقالة:
تلك السيارة الأسطورية لم تكن مجرد وسيلة للتنقل، بل كانت شريان حياة للمنطقة في بداياتها. عمل عم قاسم وشقيقه عابدين في شركة آبار الزيوت، وكانت هذه الفورد هي رفيقتهم الأمينة في رحلاتهم بين منطقتي الدهار والسقالة الحيويتين.
أكثر من مجرد وسيلة نقل:
لم تقتصر مهمة هذه الفورد العتيقة على نقل الأشخاص، بل امتدت لتشمل نقل التموين الأساسي، مواد البناء كالرمل، والمياه العذبة لسكان المنطقة. وفي أوقات الشدة، كانت هي الوسيلة الوحيدة لنقل المصابين بلدغات العقارب الخطيرة لتلقي العلاج.
بطلة في زمن الحرب:
لم تتوانَ هذه السيارة التاريخية عن خدمة الوطن في أوقات الأزمات. خلال حرب شدوان الباسلة، كان لها دور محوري في دعم قواتنا المسلحة، حيث ساهمت بفاعلية في نقل الذخائر والمؤن الضرورية للجنود الأبطال.
مواصفات فريدة من زمن آخر:
تتميز هذه الفورد الكلاسيكية بمحرك قوي رباعي الأسطوانات يعمل بوقود الجاز الأبيض النادر. وعلى الرغم من عراقتها، فإن سرعتها القصوى لا تتجاوز 3 كيلومترات في الساعة، مما يضفي عليها طابعًا تاريخيًا فريدًا. أما صندوقها الخلفي، فهو قطعة فنية بحد ذاتها، حيث قام عم قاسم بصناعته يدويًا باستخدام أخشاب صناديق المتوفرة في ذلك الوقت.
عرض مغرٍ ورفض قاطع:
شاهدت شركة فورد العالمية قيمة هذه التحفة النادرة، وتقدمت بعرض لشرائها في عام 1963. إلا أن عم قاسم، رحمه الله، رفض هذا العرض المغري بإصرار، مؤكدًا أن هذه السيارة ليست مجرد آلة، بل هي جزء من تاريخه وتاريخ المنطقة وتراث لا يقدر بثمن.
إرث حي يروي حكايات الماضي:
حتى يومنا هذا، لا تزال هذه السيارة الفريدة مركونة بأمان في جراج بجوار منزل العائلة، لتستقبل نظرات الإعجاب والدهشة من الزوار الذين يأتون خصيصًا لرؤية هذا الكنز التاريخي عندما يخرج في جولة نادرة.
إنها ليست مجرد سيارة، إنها قصة مدينة الغردقة بأكملها، قصة كفاح وبناء وصمود، تجسدها هذه العجلات التي دارت في شوارع المدينة منذ قرن من الزمان. إنها دعوة للتفكر في الماضي وتقدير الحاضر، وتذكير بأن بعض الأشياء تزداد قيمة وعظمة بمرور الزمن.
 

FB_IMG_1745645513048

مقالات مشابهة

  • سامح قاسم يكتب | فتحي عفيفي.. رسّامُ الغبار النبيل
  • قصة بطل في زمن الحرب.. سيارة فورد 1924 شاهد صامت على تاريخ الغردقة
  • سامح قاسم يكتب | ما لا تقوله القصيدة.. تقوله عبلة الرويني
  • سامح قاسم يكتب | فتحي عبد السميع.. الكتابة من الجهة التي لا يلتفت إليها الضوء
  • سامح قاسم يكتب | عزت القمحاوي.. بين ترويض اللغة وترويض الحياة
  • سامح قاسم يكتب | مجدي أحمد علي.. عينٌ على المدينة وقدمٌ في الحلم
  • سامح قاسم يكتب | ضي رحمي.. أن تترجم لتكون القصيدة قلبك الآخر
  • سامح قاسم يكتب | رنا التونسي.. شاعرة الحافة التي تنزف جمالًا
  • سامح قاسم يكتب | محمود الورداني.. صائد الخسارات النبيلة