قالت دار الإفتاء إنه من المقرر شرعًا أنه لا يجب على الإمام أن يسكت لقراءة المأموم الفاتحة عقب فراغه من قراءتها باتفاق الفقهاء، إلا أنهم اختلفوا في استحباب ذلك للإمام؛ فذهب الشافعية والحنابلة ومَن وافقهم إلى استحباب سكوت الإمام عقب قراءة الفاتحة سكتةً يسيرةً، يقرأ فيها مَنْ خلفه الفاتحة، بينما ذهب الحنفية والمالكية إلى كراهة ذلك.

هل قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأخيرتين بالصلاة الرباعية يبطلها؟.. انتبه هل قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة تخالف السنة وتنقص ثواب الصلاة؟

قال الإمام ابن قُدَامة الحنبلي في "المغني" (1/ 353، ط. مكتبة القاهرة) -مبينًا أقوال الفقهاء في المسألة-: [يستحب أن يسكت الإمام عقيب قراءة الفاتحة.. ويقرأ فيها مَنْ خلفه الفاتحة، كيلا ينازعوه فيها. وهذا مذهب الأوزاعي، والشافعي، وإسحاق. وكرهه مالك، وأصحاب الرأي] اهـ.

واستدل الشافعية والحنابلة ومَن وافقهم على استحباب سكوت الإمام عقب فراغه من قراءتها بحديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه: "أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سكتتين: سكتة إذا كبَّر، وسكتة إذا فرغ من قراءة: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]، فحفظ ذلك سمرة وأنكر عليه عمران بن حصين، فكتبا في ذلك إلى أبيِّ بن كعب فكان في كتابه إليهما أو في ردِّه عليهما: أنَّ سمرة قد حفظ" رواه أبو داود -واللفظ له-، وابن ماجه، والترمذي في "السنن". وقال الترمذي: "حديث سمرة حديث حسن".

وقال العلامة الشيرازي الحنفي في "المفاتيح في شرح المصابيح" (2/ 124، ط. دار النوادر): [قوله: "سكتتين"، والغرضُ من السكتة الأولى ليفرغَ المأمومون من النية وتكبيرة الإحرام. والغرض من السكتة الثانية ليقرأ المأمومون الفاتحة بعد فراغ الإِمام منها.. والسكتة الثانية سُنَّةٌ عند الشافعي وأحمد كالسكتة الأولى، ومكروهةٌ عند أبي حنيفة ومالك] اهـ.

وأضاف: سكوت الإمام إذن بعد قراءة الفاتحة لإعطاء فرصة للمأمومين لقراءتها مسألة خلافية بين الفقهاء، ومن القواعد المقررة شرعًا في مثل هذه المسائل الخلافية أنه: "لا إنكار في مسائل الخلاف"، وأنه "من ابتُلِيَ بشيء من المختلف فيه فليقلد من أجاز".

وعليه: فإن للإمام ألَّا يسكت بعد قراءة الفاتحة ولا يمهل المأمومين لقراءتها بعده؛ تقليدًا لمن كره ذلك من الفقهاء، وله أن يسكت سكتة يسيرةً لكي يعطي فرصة للمأمومين لقراءة الفاتحة عقب قراءتها؛ تقليدًا لمن أجاز.

قال الإمام الرملي في "نهاية المحتاج" (1/ 494، ط. دار الفكر): [والسكتات المستحبة في الصلاة أربع على المشهور: سكتة بعد تكبيرة الإحرام يفتتح فيها، وثانية بين ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ وآمين، وثالثة للإمام بين التأمين في الجهرية وقراءة السورة بقدر قراءة المأموم الفاتحة، ورابعة قبل تكبيرة الركوع] اهـ.

وقال الإمام ابن مفلح الحنبلي في "المبدع في شرح المقنع" (1/ 390، ط. دار الكتب العلمية): [يستحب سكوت الإمام بعد الفاتحة؛ ليقرأ مَنْ خلفه؛ لئلا ينازع فيها] اهـ.

بل عَدَّ الإمام الأوزاعي وغيره أنَّ هذا من فقه الإمام وعلمه؛ قال الإمام ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 118، ط. دار طيبة): [قال الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز: من فقه الإمام أن يسكت بعد تكبيرة الافتتاح ثم يقرأ بفاتحة الكتاب، ثم يسكت؛ ليقرأها مَنْ خلفه، وذكر لأحمد بن حنبل حديث سمرة فقيل له: يعجبك أن يسكت بعد القراءة سكتة؟ قال: نعم] اهـ.

إذا تقرر هذا واختار الإمام أن يسكت في صلاته عقب قراءة الفاتحة وقبل قراءة السورة فقد استحب له فقهاء الشافعية والحنابلة أن يسكت سكتة لطيفة بمقدار ما يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة.

قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (3/ 364، ط. دار الفكر): [قال أصحابنا: ويستحب للإمام على هذا القول أن يسكت بعد الفاتحة قدر قراءة المأموم لها] اهـ.

وقال الإمام الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (1/ 494): [ويستحب سكوت الإمام بعد تأمينه في الجهرية قدر ما يقرأ المأموم الفاتحة، ويشتغل حينئذ بدعاءٍ، أو ذكرٍ، أو قراءةٍ سِرًّا، قاله في "المجموع"، والقراءة أَولى] اهـ.

وقال العلامة البُجَيْرِمِي الشافعي في "حاشيته على الخطيب" (2/ 29، ط. دار الفكر): [ويسن سكتة بعد آمين ولو لمنفرد، ومثلها للإمام بقدر ما يقرأ المأموم الفاتحة] اهـ.

وقال العلامة البُهُوتِي الحنبلي في "كشاف القناع" (1/ 407، ط. دار الكتب العلمية): [(ويستحب سكوت الإمام بعدها) أي: بعد قراءة الفاتحة (بقدر قراءة مأموم) الفاتحة في الصلاة الجهرية؛ لحديث أبي داود وابن ماجه عن سمرة؛ ليتمكن المأموم من قراءة الفاتحة مع الإنصات لقراءة الإمام] اهـ. وينظر أيضًا في هذا المعنى: "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" للرحيباني (1/ 432، ط. المكتب الإسلامي).

وهذا القول يتسق مع ما نص عليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة من أنه يجب على المأموم الإنصات والاستماع لقراءة إمامه في الصلاة الجهرية؛ امتثالًا لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204].

قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" (3/ 486، ط. دار الكتب العلمية): [قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ يعني في الصلاة المفروضة] اهـ.

وقال الإمام أحمد بن حنبل: [أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة] كما في "المغني" للعلامة ابن قُدَامَة (1/ 404)، وما نص عليه فقهاء الشافعية من وجوب قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية والسرية مطلقًا؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» متفق عليه. ينظر: "تبيين الحقائق" للزَّيْلَعِي (1/ 131، ط. الأميرية)، و"شرح مختصر خليل" للخَرَشِي (1/ 269، ط. دار الفكر)، و"المجموع" للنووي (3/ 364)، و"المغني" لابن قُدَامَة (1/ 403).

والقاعدة الفقهية أَنَّ: "الخروج من الخلاف مستحب"؛ ومن ثَمَّ فيستحب قراءة الفاتحة للمأمومين في الصلاة الجهرية، وعلى الإمام -على سبيل الاستحباب- أن يسكت سكتة خفيفة تتيح للمأمومين قراءة الفاتحة قبل شروعه في السورة خروجًا من الخلاف؛ فإذا لم يسكت وشَرَع في قراءة السورة مباشرة؛ فالمختار للفتوى أنه يجب على المأمومين حينئذٍ الإنصات والاستماع لقراءة إمامهم وعدم الانشغال بقراءة الفاتحة.

واكدت أن سكوت الإمام في الصلاة الجهرية مستحبٌّ عند فقهاء الشافعية والحنابلة عقب فراغ الإمام من قراءة الفاتحة وقبل قراءة السورة؛ وذلك لإعطاء الفرصة للمأمومين خلفه لقراءتها، وحتى لا يفوت عليهم استماع الفاتحة واستماع السورة، ومقدار سكوت الإمام في ذلك هو بقدر ما يتمكن به المأمومون من قراءة الفاتحة.

 

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: دار الإفتاء قراءة الفاتحة من قراءة الفاتحة بعد الفاتحة الفاتحة فی دار الفکر

إقرأ أيضاً:

بث مباشر.. نقل شعائر الجمعة الثالثة من شعبان في الحرمين الشريفين

نقلت قناتا القرآن الكريم و السنة النبوية، شعائر صلاة الجمعة من الحرمين الشريفين المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.

حكم صلاة الجمعة

وصلاة الجمعة شعيرة من شعائر الإسلام، أوجب الشرع السعي إليها والاجتماع فيها والاحتشاد لها؛ توخِّيًا لمعنى الترابط والائتلاف بين المسلمين؛ قال الإمام التقي السبكي في "فتاويه" (1/ 174، ط. دار المعارف): [والمقصود بالجمعة: اجتماعُ المؤمنين كلِّهم، وموعظتُهم، وأكملُ وجوه ذلك: أن يكون في مكانٍ واحدٍ؛ لتجتمع كلمتهم، وتحصل الألفة بينهم] اهـ.

ولذلك افترضها الله تعالى جماعةً؛ بحيث لا تصح مِن المكلَّف وحدَه مُنفرِدًا؛ فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (الجمعة: 9-10).

وهاتان الآيتان تدلان على وجوب شهودها وحضورها على كلِّ مَنْ لزمه فرضُها، من وجوه:
الأول: أنهما وردتا بصيغة الجمع؛ خطابًا وأمرًا بالسعي؛ فالتكليف فيهما جماعي، وأحكامهما متعلقة بالمجموع.

الثاني: أن النداء للصلاة مقصودُه الدعاء إلى مكان الاجتماع إليها؛ كما جزم به الإمام الفخر الرازي في "مفاتيح الغيب" (30/ 542، ط. دار إحياء التراث العربي).

الثالث: أن "ذكر الله" المأمور بالسعي إليه: هو الصلاة والخطبة بإجماع العلماء؛ كما نقله الإمام ابن عبد البر في "الاستذكار" (2/ 60، ط. دار الكتب العلمية).

الرابع: أنَّ مقصود السعي هو: حضور الجمعة؛ كما في "تفسير الإمام الرازي" (30/ 541-542)، والأمر به: يقتضي الوجوب؛ ولذلك أجمع العلماء على أن حضور الجمعة وشهودها واجب على مَن تلزمه، ولو كان أداؤها في البيوت كافيًا لما كان لإيجاب السعي معنى.

مقالات مشابهة

  • بيان الأفضلية بين أداء الصلاة في أول وقتها منفردًا وأدائها في آخر وقتها جماعة
  • قصيدة ياسر التويجري في ذكرى يوم التأسيس ..فيديو
  • حكم قراءة القرآن والذكر بين ركعات صلاة التراويح
  • هل من أفق للتنوير الإسلامي في ثقافتنا العربية الإسلامية؟ قراءة في كتاب
  • أعظم ثلاث دعوات فى القرآن.. داوم عليها كل يوم
  • مسيرة العمل الشعبي الفلسطيني في القارة الأوروبية.. قراءة في كتاب
  • بث مباشر.. نقل شعائر الجمعة الثالثة من شعبان في الحرمين الشريفين
  • متى أفضل وقت لقراءة سورة الكهف يوم الجمعة؟.. بدأ منذ ساعات
  • أصلي جميع الفروض بالفاتحة وسورة الإخلاص.. الإفتاء توضح الحكم الشرعي
  • كيف ولماذا طرح الفلسطينيون حل الدولة الواحدة؟ قراءة في كتاب