أجواء فوضى دولية وإقليمية
هيمنت أمريكا وفي ظل هيمنتها تضررت دول وتدهورت أحوال أمم وتفرقت شعوب.
فرضت أمريكا على الشرق الأوسط وربما على العالم بأسره دولة إسرائيل نموذجاً في الهيمنة الإقليمية والتفوق العنصري وسيادة الرجل الأبيض.
تكشف المقارنة عن الانحدار الذي تدنت إليه مكانة الغرب خلال عقدين وصعود مشاعر الاحتجاج ضده في معظم عواصم آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
السد الأمريكي يتهاوى رغم محاولات أمريكية مستمرة ومتواصلة لتعزيز الهيمنة بإقامة شبكة أحلاف والعودة لتعزيز وزيادة عدد القواعد العسكرية الأمريكية في الخارج.
تحاول أمريكا تعبئة كل الطاقات والسياسات الكفيلة باستدراج الصين إلى مواجهة مبكرة قبل أن تكتمل مكونات القطبية لدى الصين ومكونات نشأة نظام دولي جديد.
مرحلة فاصلة لا إفلات منها إلا إذا توصلت القوى الكبرى لتفاهم ومؤسسات دولية وقواعد عمل تحل وبسرعة محل نظام الهيمنة الذي فرضته أمريكا وكاد يعلن فشله.
نحن أمام محاولة إعادة السباق الاستعماري الغربي على إفريقيا. تحدث الإعادة ولكن في مواجهة مقاومة من جيوش أهلتها ودربتها القوى الأوروبية التي هيمنت على القارة.
* * *
أخشى أنك إن اتجهت شرقاً أو ذهبت غرباً أو بقيت في إقليم يقع بين هذا وذاك فسوف تشعر وكأنك في مكان حاضره مهدد بموجات فساد لعين وهجمات على الحقوق وقيود على الحريات بلا حدود. أما مستقبله فواقع في مهب أعاصير لا تهدأ وحرائق لا ترحم.
تلقيت الفقرة السابقة ضمن رسالة من صديق يعيش في الخارج. أشهد له أنه في كل رسائله الإعلامية ومقالاته الأكاديمية يلتزم الدقة والموضوعية.
قرأت رسالته مرات قبل أن أرد عليها. خيل لي وأنا أقرأها أنه كمن رأى رجلاً دائب التنقل بين دولة وأخرى يصف ما يراه. وليس كل ما رآه كان على ما يرام. لم تفلت من تفاصيل الهموم في رسالته دولة صغيرة أو كبيرة. يمشي مخلفاً في ركابه عالم يتهاوى ومصائب تتوالى.
مرشح رئاسة جمهورية في دولة لاتينية تقتله رصاصات من مجهول. عصابات تتجمع في دولة لاتينية أخرى وتحتل أراضي شاسعة وتقيم حواجز فشلت دبابات جيش الحكومة في إزالتها.
ثلاثة أجيال من شعب كوبا ترث الحصار الأمريكي ولا وعد بقرب نهايته. شعب فنزويلا يعاني قسوة الفقر والمرض والاستبداد في ظل نظام عقوبات تفرضه الدولة الأعظم عليها كما تفرضه على دول أخرى عديدة عصت أو أخطأت أو حتى ترددت.
في أقصى الشمال تواجه كندا أشد حريق غابات عرفته في تاريخها عبأت لإخماده قواتها المسلحة.
إلى الجنوب من كولومبيا البريطانية تحترق غابات في ولاية واشنطن، أما أبشع الحرائق فمشتعلة في جنوب كاليفورنيا. الخسائر باهظة في وقت زادت وتعالت أصوات الاحتجاج على ما يذهب إلى أوكرانيا من أموال وفوائض سلاح وذخائر.
هناك في الشرق الأقصى عادت اليابان لتتسلح بتشجيع من أمريكا وكان أول ضحايا هذا البرنامج رئيس وزرائها الذي قتلته رصاصة من ناشط ينتمي لتيار مناهض للتسلح.
ثم كانت الخطوة التالية وهي إقامة حلف عسكري ثلاثي يضم كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة، الهدف حلف على نمط حلف الأطلسي لغرض الإحاطة بالصين تمهيداً لحرب باردة ثانية.
هنا في إفريقيا يتعذر تبسيط العرض. نحن هنا أمام محاولة إعادة السباق الاستعماري الغربي على إفريقيا. تحدث الإعادة ولكن في مواجهة مقاومة من جيوش أهلتها ودربتها القوى الأوروبية التي هيمنت على القارة.
عبرت الجيوش عن رأيها في عودة الاستعمار بسلسلة من الانقلابات العسكرية. التعبير منقول عن سلسلة الانقلابات التي وقعت في أمريكا اللاتينية أكثرها بإرادة المهيمن الأمريكي وبعضها ضده.
تحدث الآن في إفريقيا في حضور قوي من ميليشيا روسية يقودها فاغنر بتكليف جديد من الرئيس بوتين. تحدث كذلك في وجود أمريكا، القوة التي لم تكن مهتمة بإفريقيا في ذلك الحين، أقصد في نهاية القرن التاسع عشر. وهي الآن مهتمة ولن تدع الأوروبيين ينفردون بالقارة كما فعلوا من قبل.
من إفريقيا والشرق الأوسط وغيرهما نزوح غير مسبوق من دول تسعى للانضمام إلى الدول الخمس المؤسسة لمجموعة بريكس. أقارن بين حماسة هذه الدول الآن والفتور الذي قوبل به عرض الانضمام عند التأسيس قبل حوالي عشرين عاماً.
تكشف المقارنة عن أمر واحد على الأقل هو الانحدار الذي تدنت إليه مكانة الغرب خلال العشرين عاماً وصعود مشاعر الاحتجاج ضده في معظم عواصم آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
هيمنت أمريكا وفي ظل هيمنتها تضررت دول وتدهورت أحوال أمم وتفرقت شعوب وفرضت على الشرق الأوسط وربما على العالم بأسره دولة إسرائيل نموذجاً في الهيمنة الإقليمية والتفوق العنصري وسيادة الرجل الأبيض.
لكن يجب الاعتراف بأنها، أقصد أمريكا، كانت سداً منيعاً ضد طوفان الفوضى الشاملة في العالم. هذا السد يتهاوى رغم محاولات أمريكية مستمرة ومتواصلة لتعزيز الهيمنة بإقامة شبكة أحلاف والعودة لتعزيز وزيادة عدد القواعد العسكرية الأمريكية في الخارج.
تحاول أمريكا تعبئة كل الطاقات والسياسات الكفيلة باستدراج الصين إلى مواجهة مبكرة قبل أن تكتمل مكونات القطبية لدى الصين ومكونات نشأة نظام دولي جديد.
مرحلة فاصلة تلك التي نعيشها، لن نفلت منها إلا إذا توصلت القوى الكبرى الراهنة والصاعدة إلى صيغة تفاهم ومؤسسات دولية وقواعد عمل تحل وبسرعة محل نظام الهيمنة الذي فرضته أمريكا وكاد يعلن عن فشله.
*جميل مطر مفكر سياسي، دبلوماسي مصري سابق
المصدر | الشروقالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: أمريكا نظام الهيمنة حرب باردة مؤسسات دولية القوى الكبرى عودة الاستعمار الانقلابات العسكرية
إقرأ أيضاً:
العبودية الطوعية في الإسلام السياسي: قراءة في فلسفة الهيمنة
منذ أزل التاريخ، حين بدأ الإنسان يتجمع في مجتمعات أكبر من وحدته الفردية، نشأت الحاجة إلى قيادة توجه الجماهير، تضع لها نظامًا، وتخلق لها انتماءً يُشبع توقها إلى الأمن والهوية.
وقد مثّل التاريخ الإسلامي، منذ لحظاته التأسيسية، نموذجًا بالغ التعبير عن هذا التشابك بين الحاجة إلى الانتماء، وآليات الهيمنة التي تغلّفت بالدين.
فمع وفاة النبي محمد، بدأت الخلافات السياسية تطفو إلى السطح. النزاع بين علي ومعاوية لم يكن مجرد خلاف حول شرعية الحكم، بل كشف هشاشة البنية السياسية التي سعى الإسلام إلى ترسيخها. ومن هنا، بدأ الدين ينزاح تدريجيًا من فضائه الروحي إلى دائرة التوظيف السياسي.
بني أمية، على سبيل المثال، لم يترددوا في استخدام الخطاب الديني لتبرير مشاريعهم السلطوية. خطبة معاوية الشهيرة: “إني لا أقاتلكم لتصلوا أو تزكوا، إنما أقاتلكم لأتأمّر عليكم”، تُجسّد بوضوح أن الغاية كانت السلطة لا العقيدة.
ولم تقتصر الهيمنة على المجال السياسي، بل تمددت إلى التعليم، الذي طالما كان الأداة الأنجع لصياغة العقول وتوجيهها نحو الطاعة.
التاريخ الإسلامي زاخر بالأمثلة التي تُظهر كيف تم توظيف التعليم لترسيخ خطاب السلطة. ففي العصر العباسي، كانت المدارس تُموّل من خزينة الدولة، والمناهج تُصمّم بعناية لترسيخ الولاء للخليفة وإنتاج وعي خاضع.
هذه الظاهرة لم تتوقف بسقوط العباسيين، بل أعادت إنتاج نفسها بأشكال مختلفة عبر العصور.
في القرن العشرين، يشير سيد قطب في كتابه معالم في الطريق إلى نظام تعليمي يقتل روح الإبداع في الفرد، ويجعله آلة طيعة في يد السلطة. ويمكن قراءة هذا الاتجاه، من منظور علم النفس، من خلال مفهوم “التكيف القهري” عند إريك فروم، الذي طرحه في كتابه الهروب من الحرية، حيث يُجبر الفرد على الانصياع للنظام القائم بدافع الخوف من تبعات الحرية ذاتها.
وعلى مرّ الأزمنة، ظل الدين يُستخدم كأداة مركزية لإعادة إنتاج الهيمنة. في السودان، كانت تجربة الجبهة الإسلامية تجسيدًا حديثًا لهذه الممارسة. عقب انقلاب 1989 بقيادة حسن الترابي، بدأ النظام بإعادة هندسة البنية التعليمية والإعلامية بما يخدم مشروعه الإسلاموي.
في هذا السياق، تبرز حادثة إعدام المفكر محمود محمد طه كمثال فجّ على استخدام الدولة للدين كوسيلة قمعية. لم يكن النميري إلا واجهة سلطوية استُغلت لتصفية خصم فكري كان يشكل تهديدًا للمشروع الإسلاموي في عمقه. الترابي، الذي كان يدرك خطورة طه لا بوصفه معارضًا سياسيًا بل كصوت يتحدى الشرعية التأويلية نفسها، لم يتوانَ عن توظيف الدولة لإنهاء حضوره المعرفي.
وفي بلدان أخرى، مثل السعودية وتركيا وأفغانستان، يمكن تتبع نسق مماثل في توظيف الدين لترسيخ بنى الاستبداد.
في السعودية، شكّل التحالف بين آل سعود والمؤسسة الوهابية حجر الزاوية لنظام يشرعن السلطة المطلقة باسم التوحيد. أما في تركيا، فقد نجح أردوغان في المزج بين النزعة القومية والخطاب الإسلامي، مما أتاح له إحكام قبضته على الدولة وقمع خصومه تحت لافتة الانتماء. وفي أفغانستان، تُجسد حركة طالبان النموذج الأكثر فجاجة لاستخدام الدين لتبرير حكم شمولي يستمد شرعيته من نصوص مؤدلجة وأهواء مشيّدة على الخوف لا على العدالة.
المفارقة أن هذه الأنظمة، رغم ادعائها حماية الدين، لا تتورع عن التحالف مع قوى دولية لتحقيق مصالحها، ما يفضح زيف الشعارات التي ترفعها، ويؤكد أن الدين بالنسبة لها ليس أكثر من غطاء ثقيل للسلطة، يُستدعى حين يهدد الوعي مصالحها.
لكن هذه الحاجة لم تكن بريئة في معظم الأحيان؛ إذ سرعان ما تحولت إلى آلية للاستغلال والهيمنة.
الفيلسوف ميشيل فوكو، في حديثه عن السلطة، يشير إلى أن السلطة ليست مجرد قمع مباشر، بل شبكة من العلاقات المتغلغلة في كل تفاصيل المجتمع، تهيمن على العقول قبل أن تُحكم قبضتها على الأجساد.
وهذا ما بدا جليًا في التاريخ الإسلامي، حيث تحوّل الدين إلى أداة مثالية لبرمجة القطيع.
مع ظهور الإسلام، حدث تحول جذري في البنية الاجتماعية. فالنظام القبلي، الذي كان يُشكّل مركز الهوية السياسية والاجتماعية، بدأ يتفكك تدريجيًا. الدين الجديد لم يكن محض دعوة روحية، بل مشروعًا سياسيًا واجتماعيًا يهدف إلى توحيد القبائل تحت راية واحدة، وهو ما تجلّى في معركة بدر، حين وقف المسلمون صفًا واحدًا ضد قبائل قريش، التي كانت تمثل بنية النظام القبلي التقليدي.
هذه الوحدة، رغم بريقها الظاهري، أنشأت نوعًا جديدًا من التبعية، حيث استُبدل الولاء القبلي بولاء أوسع، للأمة الإسلامية.
وكما يشير المفكر الفرنسي روجيه غارودي، فإن هذا التحول كان يحمل في طياته بذور الهيمنة، إذ تم استبدال رب القبيلة بسلطة مركزية تبرّر أفعالها بالدين.
ورغم ما يحمله مصطلح “الجاهلية” من دلالات سلبية في الخطاب الإسلامي التقليدي، إلا أن تلك الحقبة تستحق إعادة قراءة. فقد كانت، رغم مظاهرها البدائية، تحمل نظمًا اجتماعية وقيمًا ساهمت لاحقًا في تشكيل الثقافة الإسلامية: نظام الدية، قوانين حماية الضيف، والشعر الذي كان يُعدّ ديوان العرب؛ كلها عناصر لا يمكن إنكار أثرها.
الإسلام، في سعيه لبناء مجتمع جديد، لم يُلغِ هذه العناصر، بل أعاد تشكيلها لتخدم مشروعه الأوسع.
ومع ذلك، لم يكن هذا المشروع خاليًا من التصدعات.
وعلى مستوى الأفراد، فإن برمجة القطيع ليست ظاهرة سياسية فحسب، بل لها جذور نفسية وفلسفية ضاربة في العمق. يشير غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير إلى أن الجماهير، بطبيعتها، ميّالة للتصرف العاطفي، وتبحث دائمًا عن زعيم يمنحها وهم الأمان والبقاء. وفي سياق الإسلام السياسي، غالبًا ما يُقدَّم هذا الزعيم في صورة “ولي الأمر” الذي تُعلّق عليه طاعة مطلقة، محصّنة بالدين وملفوفة بغطاء القداسة.
وهنا يبرز مفهوم “العبودية الطوعية” الذي صاغه إتيان دو لا بويسي ببصيرة نافذة؛ حيث يُظهر كيف يمكن للإنسان أن يختار الخضوع طوعًا، لا من منطلق الضعف، بل من رغبة دفينة في الاتكاء على سلطة أعلى تُعفيه من عناء الحرية. في هذا الإطار، يغدو الدين هو الأداة المثالية لمنح هذه العبودية طابعًا شرعيًا، بل وضروريًا، في نظر المبرمَج.
ومع ذلك، فإن التاريخ لا يُساق كله في اتجاه واحد. الشعوب، وإن خُدّرت طويلًا، قادرة على كسر القيد والتمرّد على الأُطر.
الثورة السودانية في ديسمبر 2019، التي أطاحت بنظام البشير، شكّلت لحظة نادرة تُثبت أن برمجة القطيع ليست قدرًا محتومًا. لكنها، في المقابل، نبهتنا إلى أن إسقاط الرمز لا يعني بالضرورة تحرر البنية، وأن الصراع الحقيقي يبدأ حين تشرع في تفكيك ما استقر في العقول أكثر مما تجذّر في مؤسسات الدولة.
فالتحرر لا يكون بالشعارات، بل بإعادة النظر الجذرية في البنى الفكرية والثقافية التي مكّنت لسلطة الاستبداد، وشرعنت وجودها عقائديًا وتربويًا. وكما أشار محمد عابد الجابري، فإن تحرير العقل العربي يبدأ من قراءة نقدية للتراث، لا بهدف تمجيده أو شطبه، بل لفهم آليات توظيفه في خدمة السلطة وتكريس الخضوع.
وفي نهاية المطاف، تبقى “برمجة القطيع” ظاهرة إنسانية عامة، لكنّ العالم الإسلامي، بأثر تاريخه الطويل من التبعية والتأويل السلطوي، يوفّر لها تربة خصبة. والحل، كما تلمّحت، يبدأ بتحرير الفكر، وبناء تعليمٍ يُعيد للإنسان فردانيته وقدرته على اتخاذ القرار خارج مظلة الأوصياء.
عندها فقط، يمكن للإنسان أن يتحوّل من تابع في قطيع، إلى فرد حر، يرى، ويسائل، ويصوغ مصيره بوعيه لا بهلع الخوف.