بيئة منظومة تنمية التخلف:
ننظر هنا إلى زاوية فقط في بيئة نعيشها واقعا لم نعرف طعم الحياة التي قضى بعضنا عمره وغادرها وهو في انتظار طيف الرفاهية والراحة، ويتباهى فيها الفاسد بنزاهته والجبان بشجاعته، ويتحدث كل من هب ودب بتافه القول المعبّر عن غرور الجاهل ويسميه نشاطا سياسيا، راكضا وراء ما يظنه مصلحته ولو كان الضرر مما يفعل يحيق ببلد يدّعي حبه.
وهكذا تختفي وتتدارى الكفاءات ومجاميع البناء ويظهر أناس غير قابلة للقياس تلقب بالسياسي وتفتقد سلوكية السياسي.. عند هذا ببساطة نقرر ولا حاجة للتعليل: نحن في بيئة منظومة تنمية التخلف.
السياسة المظلومة:
السياسة يمكن أن تدرس أكاديميا أو تعبر عن مواقع سياسية من أناس طارئين أو انتهازيين، لكنَّ الحالتين لا تصنعا ساسة، عندها ستظلم السياسة لأنها ستتهم بسلوكيات من يوصفون بها.
الطارئون الذين لا يحملون رؤية أو قيمة مدنية لا يشكلون أمة وبالتالي لا يشكلون دولة، فهم يلجأون إلى العصبيات واستثارتها كالعرقية والطائفية والمظلومية والروابط الهابطة التي لا تنتج إلا الاستقطاب، وهذه استثارة الغرائز وإعماء المنظومة العقلية ليصلوا إلى كراسي الأماني الضالة، ويسخّرون في هذا كمّا من التفاهة والتافهين الذين يزيدون التشظي والتخلف، وعندها لن تجد إلا تعبيرا عما يضع الظلم والتفاهة
فعندما تجد حديثا عن الفوز بالمناصب دون الحديث عن برامج وحلم وتطلعات لبناء من خلال هذا المنصب، فأنت حتما أمام مغامر يركب الموج، يريد الوصول وكل همه من الوصول هو تحقيق لذاته بما يحلم لذاته، والحقيقة أن هؤلاء الناس لا يملكون إلا مهارة صناعة التخلف للأمة.
هذه الحالة السائدة تعني التعبير عن حاجات وغرائز الطامعين وغياب الضمير والفكرة الأساسية من السياسة والعمل السياسي، فالهدف امتلاك وسائل النفوذ وديمومته وهو مقتنع تماما بأن عدم انتخابه خسارة ومجرد وجوده نصر، وأن أي منافسة على السلطة يخوضها وينتصر بها أهم من تغلب منتجمري على رومل في العلمين، مع أن سلطته لا ينتفع بها الشعب الذي انتخبه.
الطارئون الذين لا يحملون رؤية أو قيمة مدنية لا يشكلون أمة وبالتالي لا يشكلون دولة، فهم يلجأون إلى العصبيات واستثارتها كالعرقية والطائفية والمظلومية والروابط الهابطة التي لا تنتج إلا الاستقطاب، وهذه استثارة الغرائز وإعماء المنظومة العقلية ليصلوا إلى كراسي الأماني الضالة، ويسخّرون في هذا كمّا من التفاهة والتافهين الذين يزيدون التشظي والتخلف، وعندها لن تجد إلا تعبيرا عما يضع الظلم والتفاهة أمام الجمهور وترسيخ الجدل السطحي دون مناقشة ما يوقف التدهور المدني للبلاد. وتستعيد تلك الروابط أهميتها لمجرد أن يحصل "المستنفذون" على دعم لوجودهم وخداع الناس واستلاب حياتهم، وتعميق فاعلية منظومة تنمية التخلف بإعادة تغذيتها بالأمراض الاجتماعية والسموم الفكرية والتخلف عن العالم والتباهي بإنجازات وهمية ليست مبرمجة إلا لزيادة مراكز القوى.
في سياسة الأماني الضالة في منظومة تنمية التخلف تجد خلية لا تنتج عسلا، بل هنالك صراع ومهمة العاملات -تلك الزنابير المتحولة- فيه هي احتلال المكان وطرد الآخرين من الخلية التي تتفكك أواصرها اعتقادا أن الخلية لها وحدها، فالملكة عاقر مفقودة والذكور ميتة والعاملات القادمة من خلايا الزنابير هائمة تأكل عسلا متبقيا فيها ولا يعوض بإنتاج جديد.
الكيان الذي تنشئه سياسة الأماني الضالة في منظومة تنمية التخلف هو كيان هش ضعيف يعتمد الظلم، وأي خطر يحس به يحوله إلى اضطهاد داخلي لمن يَفْتَرِض أنهم أعداؤه، ويسخّر كل التفاهة التي هو فيها لتبرير إحداث الشروخ الكبيرة التي تصل حدا لا يمكن إصلاحه، فيبقى البلد على حافة التفكك وإعادة هيكليته من جديد؛ إما بعنف يستعيد وحدته، أو بالتفكك إلى أجزاء هي جاهزة للابتلاع من المحيط الإقليمي؛ لأن التفكك لا يقوم بدافع نضج فكري أو عقلي وإنما على الغرائز والمشاعر السلبية ولا رؤية غيرها، لتستمر في التلون والاستحواذ وإن تغيرت المسميات ما لم يتولى الأمر أناس آخرون.
يظنون أنهم سياسيون ولكن لا يبدعون حلولا بل يواجهون الاستقطاب باستقطاب، وقد يكون مقبولا من المتنافسين والمختلفين لكنه لا يبني دولة ولا يحل مشكلة أمة، المتنافسون لا يأتون برؤية تعالج مشاكل المجتمع وإنما هذا الأسلوب لتفاقم تضارب المصالح على الوليمة والخلية التي لم يعد عسلها كافيا ويوشك على النضوب، أما الشعب والناس الآخرون ففي حسابات لا تأتي أهميتها إلا لتعطي شرعية اللعبة التي تكرر الوجوه في الخلفية، وإن أبدلت الواجهات التي غالبا تجد نفسها أهلا لتكون وجوها وليس واجهات، وقسم منها يضاف إلى الدار بعد أن كان من الخطّار.
في بيئة الأماني الضالة لا تعرف من الرأس ومن يتخذ القرار، ولماذا هنالك شخص لا يحاسب بما يحاسب معشار معشاره المواطن. الكفاءات غريبة مضطهدة مسفهة، والتمكين والثقة للناس المزايدين، فالغاية الكرسي؛ لا ما يمكن فعله عليه وما يجلبه الكرسي من "مستحقات"، فالبناء لا يتعدى العنوان والشعارات بالوعود وديمومة الأمل بالأوهام.
فما هي السياسة عمليا إذن؟
إذا فهمنا السياسة من الجدلية أعلاه وأنها أمر فيه معاير القياس لدرجتي الرقي والانحدار، وليس عملا يقوم به أي كان ناقلا فوضى داخله للمجتمع، نكون عندها سياسيين، أما إن رأينا أن المعيارية مختلة عندنا فنحن نشارك في احتضار أمتنا ومجتمعنا
1- حقيقة أن السياسة مهمة عندما تكون "إدارة مصالح الأمة"، ويبذل المتصدر الجهد للتعاون مع طاقات البلد ووضع برامج وآليات للارتقاء بالواقع الفكري والمدني إلى الأفضل، وهنا يأتي الاختلاف بين الأحزاب إما على الأولويات أو التزامن أو الآليات، ومحاولة كل منهم إقناع مقابله بخططه ومن ثم الانتقال بالبرامج وشروحات الخبراء إلى الجمهور ليختار بين الرؤية والمنهج والآليات، ومن يفضل أن تمشي خططه أولا إلى اختبار الجمهور فإبقاء أو تغيير في انتخابات قادمة؛ فمن الضروري تعاون الجميع لتحقيق ما يريده الجمهور برؤية الفائز التي أدت لانتخابه وتصويب ومتابعة المعارضة بكل اهتمام.
2- سعي الجميع لوأد أية فتنة وبذل الجهد للتلاحم المجتمعي، وتحفيز الطاقات والارتقاء بالمنظومة العقلية، ووضع النظم للاستفادة من كل طاقة حتى نهاية قدرتها على العطاء.
3- لا يبقى أي شخص في منصبه الوظيفي إن تبين له فشل تفكيره في قيادة عمل ما، فيستقيل ليتقدم آخر بما يملك من كفاءة.
4- محاولة إبداع الوسائل لإزالة العقبات الداخلية والخارجية والأولوية للتنمية.
5- فهم السياسة أنها توظيف السلطة والنفوذ للتنمية.
6- تحقيق المصالح العليا مع الربح إن أمكن ذلك، وعندما تضر الأيديولوجيا بأي بلد تعتبر تلك الأيديولوجيا غير صالحة لدعم عمل سياسي ناجح.
فإذا فهمنا السياسة من الجدلية أعلاه وأنها أمر فيه معاير القياس لدرجتي الرقي والانحدار، وليس عملا يقوم به أي كان ناقلا فوضى داخله للمجتمع، نكون عندها سياسيين، أما إن رأينا أن المعيارية مختلة عندنا فنحن نشارك في احتضار أمتنا ومجتمعنا؛ وكما أن حمل هموم الأمة بالتضحية والعطاء قيمة عدل؛ لا يكون الاستحواذ سياسة وإنما ظلم بطغيان التفاهة والأماني الضالة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات تنمية التخلف السياسة تنمية سياسة تقدم الدولة تخلف مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة لا یشکلون
إقرأ أيضاً:
كاتب هندي: إبادة غزة حولتنا لشهود قسريين على بشاعة السياسة
تناول الكاتب إيتاي ملاخ في مقال نشره موقع "همكوم" الإسرائيلي كتابا جديدا للمفكر والروائي الهندي بانكاج ميشرا بعنوان "العالم بعد غزة: تاريخ"، يرى فيه أن تجاهل الغرب لمعاناة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية يتكرر اليوم من خلال موقفه من إبادة الفلسطينيين في غزة.
واعتبر ملاخ أن الكتاب يتضمن أيديولوجية منظمة في معظم فصوله، لكنه يميل في الغالب إلى السطحية والتبسيط ولا يمكن أن يكون كتاب تاريخ بما في الكلمة من معنى.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2تايمز: جاسوس روسي خطط لتفجير طرد مفخخ بطائرة متجهة لأميركاlist 2 of 2غدعون ليفي: بسبب غزة هذا ما يخطر ببالي الآن عندما تدوي صفارة الإنذارend of list غيتو وارسوويذكر الكاتب أن ميشرا يفتتح كتابه بالإشارة إلى تمرد غيتو وارسو في أبريل/نيسان 1943، والذي عرف منظّموه أنه محكوم عليه بالفشل منذ بدايته لكنهم لم يتراجعوا.
وقد لخص مارك إدلمان، أحد الناجين من المذبحة التي حصلت بعد ذلك التمرد، الوضع قائلا: "لم نرغب بأن يذبحنا النازيون بصمت، أردنا فقط اختيار طريقة موتنا بأنفسنا".
أما الشاعر البولندي تشيسواف ميلوش، الذي سمع من شرفة منزله في ضواحي وارسو صرخات المذبحة، فقد وصف تلك الليلة الربيعية قائلا: "كانت صرخات بشر يُذبحون.. شعرنا بالخزي، فلم نستطع النظر في أعين بعضنا البعض".
غزة هي غرنيكا عصرنا
ويؤكد ميشرا في كتابه أن "إبادة غزة على يد إسرائيل" حولت الملايين إلى "شهود قسريين على شرور السياسة"، ويُقارن المشاهد التي يشاهدها العالم في غزة، مثل صورة الأب الذي يحمل جثة طفله مقطوعة الرأس، بأثر لوحة "غرنيكا" الشهيرة للرسام الإسباني بيكاسو.
إعلانويشير ميشرا إلى أن الغرب، بدلا من أن يرى في الهولوكوست حافزا لمكافحة الشر بجميع أشكاله، حوله إلى التزام أخلاقي بمحاباة اليهود ومحاربة معاداة السامية، متجاهلا كل المآسي الأخرى في العالم.
ويضيف ميشرا أن الاعتقاد بأن الغرب بعد 1945 أصبح ملتزما بحقوق الإنسان ليس إلا وهما، فحتى أثناء الهولوكوست لم يحرك الغرب ساكنا، وكثيرا ما رفض استقبال الناجين، وسرعان ما تصالح مع ألمانيا ونسي إرثها النازي، لأنها وقفت إلى جانبه في مواجهة الاتحاد السوفياتي.
زيف التفوق الغربي
يتابع ملاخ تحليل الكتاب، موضحا أن ميشرا يعتقد أن الفهم الغربي للهولوكوست سطحي، إذ يتم استخدام شعار "لن يتكرر مجددا" كذريعة تدعم التفوق الأخلاقي الغربي المزعوم، دون أن يُترجم ذلك إلى أفعال حقيقية عندما تحدث مآسٍ مشابهة.
ويعتقد الكاتب الهندي أن الغرب لا يرى في المجازر الحالية في غزة تهديدا حقيقيا لضميره، بل يميل إلى تبريرها بحجج سياسية، مضيفا أن غزة تقوّض الفرضية المشتركة بين التقاليد الدينية والعقلانية التنويرية بأن "الإنسان أخلاقي بطبعه".
فالتجاهل الغربي لما يحدث في غزة يفضح -حسب تعبيره- خواء هذه الفرضية، ويكشف زيف نظام دولي يدّعي الارتكاز على مبادئ إنسانية.
ميشرا: المجازر الإسرائيلية الآن قريبة من أهوال الهولوكوست، من خلال تجريد سكان غزة من إنسانيتهم، وتصويرهم كمصدر للشر المطلق، والتصريحات الإسرائيلية التي تكشف نوايا الإبادة، واستهداف المدنيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من القتلى، والتصاعد غير المسبوق في وتيرة القتل، ومنع الغذاء والدواء، والدمار الواسع الذي "يتجاوز نسبيا ما ألحقته قوات الحلفاء بألمانيا في الحرب العالمية الثانية من أضرار".
دلائل الفظاعة القصوىيعدّد ميشرا ما يعتبره دلائل على اقتراب المجازر الإسرائيلية من أهوال الهولوكوست، من خلال تجريد سكان غزة من إنسانيتهم، وتصويرهم كمصدر للشر المطلق، والتصريحات الإسرائيلية التي تكشف نوايا الإبادة، واستهداف المدنيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من القتلى، والتصاعد غير المسبوق في وتيرة القتل، ومنع الغذاء والدواء، والدمار الواسع الذي "يتجاوز نسبيا ما ألحقته قوات الحلفاء بألمانيا في الحرب العالمية الثانية من أضرار".
ويرى ميشرا أن مجازر 7 أكتوبر/تشرين الأول أرعبت كثيرا من الإسرائيليين، وجعلتهم يخافون من تكرار الهولوكوست، لكن القيادة الإسرائيلية التي يصفها بـ"الأكثر تطرفا في التاريخ"، استغلت تلك المشاعر في حملة عسكرية تجاوزت بكثير حدود الدفاع عن النفس، والهدف -حسب تعبير المؤرخ عمر برتوف- هو "جعل غزة غير صالحة للحياة وإضعاف سكانها، حتى يموتوا أو يفرّوا".
الهدف هو جعل غزة غير صالحة للحياة وإضعاف سكانها حتى يموتوا أو يفرّوا
تبرير المذابحويتابع ملاخ بأن كتاب "ما بعد غزة" يربط بين الهولوكوست وما يجري في غزة حاليا من خلال السلبية الغربية في الحالتين، حيث يميل الغرب اليوم إلى تبرير الجرائم الإسرائيلية من خلال إلقاء اللوم الكامل على الفلسطينيين بسبب أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، ويتجاهل مسؤولية إسرائيل عن حجم العنف والدمار.
إعلانوأورد الكاتب في هذا السياق ما ذكره الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، عندما سُئل عن غزة في إحدى المناسبات، عندما ركّز على "فظائع" نُسبت لحماس -بعضها دون دلائل قاطعة- متجاهلا ما يحدث للفلسطينيين. كما قال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في أحد تصريحاته إن "من حق إسرائيل قطع الكهرباء والماء عن الفلسطينيين".
ويرى ميشرا أن وسائل الإعلام والمثقفين، والمؤسسات التعليمية وحتى رجال المال والأعمال في الغرب، جميعهم مسؤولون بدرجات متفاوتة عن التطبيع من العنف الإسرائيلي، وتبرئة إسرائيل وإسكات منتقديها.
وهم حقوق الإنسانفي خاتمة الكتاب، يطرح ميشرا السؤال التالي: لماذا يُقصي الغرب الفلسطينيين من قائمة الإنسانية والعدالة، في حين أنه يحتضن الأوكرانيين الفارين من الحرب التي تشنها روسيا؟
ويرى الكاتب الهندي أن الغرب كان بإمكانه كبح جماح إسرائيل دون أن يهمل محاسبة مرتكبي جرائم 7 أكتوبر/تشرين الأول، لكنه لم يفعل، تماما كما لم يفعل شيئا خلال الهولوكوست، مستنتجا في الأخير أن النظام الليبرالي العالمي القائم على حقوق الإنسان لم يكن إلا وهما.