سامح قاسم يكتب | ما لا تقوله القصيدة.. تقوله عبلة الرويني
تاريخ النشر: 25th, April 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
ليست كل الكتابات فعلَ بوح. بعضها جراحٌ تُفتح بالسكين الباردة للوعي. وبعضها الآخر، كما في حالة عبلة الرويني، تواطؤ صامت مع الوجع، محاولة لفهمه، ترويضه، أو على الأقل الكتابة من أعماقه، لا عنه.
تسللت عبلة الرويني إلى المشهد الثقافي بصوتٍ خافت، لكنه نافذ، كخرزةٍ زرقاء تُخبّأ تحت وسادةِ شاعر.
عبلة، التي بدأت مسيرتها في الصحافة وهي تحمل جرأة القلب واللغة، كانت تعرف أن الكلمات ليست فقط أدوات للتوصيل، بل أحيانًا أدوات للجراح. كتبت عن الثقافة والسياسة بمشرط الجراح، لا بسيف الخطيب، ورفضت أن تُنصّب في زفةِ التصنيفات، حين صرّحت بأنها لا تؤمن بأدب نسائي، ولا بحدودٍ تفصل القصيدة عن الجسد أو الرأي عن الحلم.
عبلة ليست فقط صاحبة رأي، إنها صاحبة حكاية، وحكايتها تُروى في كتابٍ يتيم: الجنوبي. الكتاب الذي يُقرأ كأنه اعتراف متأخر، أو نحيب مكتوم، أو محاولة لإعادة ترتيب الذاكرة على ضوء الحنين. لم تكتب عبلة هذا النص كناقدة، بل كشاهدة. لم تكن بحاجة إلى أن تبرّر حُبها، بل إلى أن تنقذه من النسيان. ولعلّ هذا ما يجعل الجنوبي لا يُقرأ فقط ككتاب سيرة، بل كقصيدة حب طويلة، كُتبت بعد أن مات الشاعر وبقيت المُلهمة تسكن بين سطور القصيدة.
لقد عرفت عبلة أمل دنقل في زمن كانت فيه القصيدة سيفًا، وكان هو شاعرًا يعرف كيف يضرب به ولا يتراجع. رجل يشرب المرض كما يشرب السيجارة، ويكتب من دمه لا من مِحبرته. في حضرته، لم تكن عبلة زوجة شاعر، بل شاهدته ينهار سطرًا سطرًا، وظلّت تكتب ما تبقّى منه داخلها، بعد أن انتهى الحبر من جسده. هي التي جلست إلى جوار سريره في المعهد القومي للأورام، وكانت تحفظ تنفّسه كما يحفظ شاعر قوافيه.
في المشهد الثقافي المصري، تظل عبلة الرويني واحدة من الأصوات التي لم تستبدل النزاهة بالصوت العالي، ولا الحضور بالظهور. كتبت في الصحافة الثقافية كما يُكتب الشعر: بهدوء، بدقّة، وبدون مزايدة. وعندما طُلب منها أن تحذف عبارة "أخونة الصحافة"، رفضت. لأن الكلمة عندها ليست وسيلةً للترضية بل للحقيقة، والحقيقة لا تُربّت على كتف أحد.
عبلة ليست من ذلك النوع من الكاتبات اللواتي يُغريهنّ الضوء، بل كانت دائمًا تبحث عن "الظلّ"، تمامًا كما أحبّت أمل دنقل، الجنوبي الذي كان يعبر القاهرة كمن يمشي في المنفى.
ولعلّها، في كتابها الوحيد، لم تكتب عن أمل دنقل بقدر ما كتبت عن هشاشتها، عن ذلك النوع من النساء اللواتي يُخفين قوّتهنّ في العيون، ويصبرن على الموت، ثم يتفرّغن للكتابة عنه.
كانت تعرف أن الحياة بعد "الجنوبي" ستسير بلا ظل، بلا لغة تحرسها، وبلا عينين تحدقان فيها كما كان يفعل دنقل، لا ليملكها، بل ليحرس اشتعالها. لم تكن عبلة في حاجة إلى أن تكتب، كانت فقط تحاول أن تبقى، أن لا تذوب في الغياب، وأن لا يتحوّل الحب العظيم إلى تذكار على رفّ.
في كل مقالة كتبتها بعد وفاته، كنا نلمح شيئًا من ألمه يطلّ من بين السطور. لم تكن تكتب لتشرح أو لتُحاكِم، بل لتضع إصبعها على نبض ثقافةٍ كانت تموت، كما مات هو، بصمتٍ، في غرفة ضيقة، تحت ضوءٍ أبيض، ووسط صمتٍ طبّي لا يشبه القصيدة.
الكتابة بالنسبة لها لم تكن مهنة، كانت مواصلة العيش داخل القصيدة، بعد أن غادرها الشاعر. بقيت تحرس الذكرى كما يُحرس قبر غير معلن، وتعيد تركيب حضور دنقل في كل مشهد ثقافي، لا بدافع الحنين، بل لأن الشعر كان لا يزال يتنفس من خلال سطوره.
لكن عبلة لم تسجن نفسها في متحف الذكرى. لم تستسلم لصورة الحبيبة التي تعيش على حافة الماضي. كتبت عن الأدب الحديث، عن تيارات التجديد، عن انكسارات الثقافة، وواجهت أسئلة الحاضر بصلابة امرأة رأت الموت عن قرب، ولم يعد يخيفها شيء بعده.
في مقالاتها، كانت تتحدث عن حرية الكلمة كما تتحدث أم عن ابنها المسجون. رفضت التصنيفات، وواجهت محاولات إقصائها دون أن تصرخ، فقط كتبت، وواصلت الكتابة، كمن يزرع شجرة على قبرٍ، لا لتُثمر، بل لئلا يُنسى.
إن عبلة الرويني ليست مجرّد صحفية، ولا زوجة شاعر. إنها نموذج نادر لامرأة ظلّت تكتب رغم أنها لم تُسندها المؤسسات، ولم تُصفق لها الجماهير. امرأة ظلت وفية للصوت الوحيد الذي أحبّها، وللصمت الذي تركه خلفه.
ولأنها تعرف أن القصيدة لا تنتهي بموت الشاعر، فهي تكتب حتى اليوم، لا لتُحيي أمل دنقل، بل لتُذكّرنا أن الشعر لا يموت إذا ما ظلّ في قلب من أحبّ بعمق، وكتب بصدق، واحتمل الغياب كأنه لغة أخرى.
المصدر: البوابة نيوز
إقرأ أيضاً:
د.نجلاء شمس تكتب: سيناء.. قصة أرض لا تُنسى ولا تُهمَل
أنا سيناء، لستُ مجرد اسمٍ في كتاب الجغرافيا، ولا خريطة مُسطحة تُشير إلى شرق الوطن.
أنا الحكاية التي بدأت قبل أن تُروى، والأرض التي كتبتها أقدام الأنبياء والجنود والعلماء، وما زالت تنبض بنداء الذاكرة
أنا من اقتُطعت من جسد الوطن ذات يوم، لكن نبضه ظل يصل إليّ، يرويني من بعيد، ويهمس لي بأن العودة لا تكفي ، بل يجب أن أُبعث من جديد
في الخامس والعشرين من أبريل، لا أحتفل وحيدة. تحتفل معي رمالي، وجبالي، وودياني، وشهدائي الذين ناموا بين ضلوعي ،أحتفل حين أرى المدارس تُفتح في أرجائي، والمراكز الصحية تنتشر بين ربوعي، والقوافل تأتي لا لتحمل طعامًا فقط، بل لتزرع نورًا في العقول، وطمأنينة في القلوب
أنا سيناء التي ظنّوا يومًا أنها بعيدة، فإذا بها اليوم في قلب القرار، في أولويات الدولة، وفي خُطط البناء، وفي وعي القيادة التي لم تعد تراني حدًّا، بل بُعدًا إنسانيًّا وأمنيًّا وثقافيًّا لا غنى عنه.
وحين جاء الأزهر،لم يطرق بابي بخطب من ورق، بل مشى إليّ بخُطى المحبة، ووجوه علمائه ووعّاظه وأطبائه، فجلسوا مع أبنائي، واستمعوا لهم، وعلموهم، وداووا جراحهم، وذكّروهم بأن الوطن لا يترك أحدًا خلفه.
قوافله لم تأتِ لتؤدي واجبًا مؤسسيًا، بل جاءت تحمل قلب الأزهر كما هو، نقيًا، راسخًا، رؤوفًا لا يخطب فيهم، بل يفتح لهم دروبًا من نور، ويزرع فيهم بذورًا من الوعي والانتماء
أنا سيناء التي تحررت بالبندقية... ولكنني أُبنى اليوم بالقلم، والعقل، والرحمة، والمشروعات، والمناهج، والكلمة التي تحيي ،فلا تقولوا: أُعيدت سيناء، بل قولوا: عادت إلينا سيناء كما تستحق، ومعها فرصة جديدة لبناء وطنٍ لا ينسى أحدًا.
في ذكرى التحرير، أنا لا أستعيد يومًا، بل أُبصر طريقًا
وكل ذرة من ترابي، وكل غصن شجرة نبت على كتفي، وكل طفل تعلّم اسمه من كتاب يهمس: شكرًا لمن حررني، وشكرًا لمن ما زال يزرع فيَّ الحياة.