في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن
تاريخ النشر: 25th, April 2025 GMT
لم يعد السودانيون يملكون ترف التأجيل، ولا فسحة الإنكار. فما بين حرائق الحرب، وتشظي الجغرافيا، وانكسار المعنى، تترنح البلاد على حافة الفناء. آلاف يُشرَّدون كل يوم، مدن تُمحى من الوجود، وقلوب تفيض بالغضب والحسرة والخذلان. لسنا في لحظة خلاف سياسي عابر، بل أمام تصدّع نفسي وجمعي بلغ أعماق الوجدان، وأوشك أن يقضي على آخر ما تبقى من الروابط الجامعة لهذا الشعب الذي تقاذفته نخبه وأودت به من خيبة إلى أخرى.
لقد بات من العبث أن نتحدث عن الخروج من الأزمة دون الاعتراف الجاد والعميق بأننا جميعاً في ورطة: نُخبةً وشعباً، إسلاميين وغيرهم، زرقةً وعرباً، نظاميين ومدنيين، زغاوة وعطاوة، مركزاً وهامشاً. الجميع مأزوم، وكل طرف يجرّ خلفه تاريخاً من الانكسارات أو التورط أو الغفلة. وما لم نواجه هذه الورطة بشجاعة أخلاقية ونقد ذاتي مسؤول، فإننا سنبقى أسرى سرديات التناحر والاستقطاب، وسيتسرب الوطن من بين أيدينا كما تتسرب المعاني من قلب مكلوم.
ما نعيشه اليوم لا يمكن تفسيره فقط بأدوات السياسة التقليدية؛ نحن أمام مأزق بنيوي يعيد إنتاج نفسه، مأزقٌ تتصارع فيه الروايات والهويات والمصالح بشكل متشابك، حتى أصبح الوضع شبيهاً بما تسميه “نظرية اللعبة” في العلوم السياسية: كل طرف يظن أن انتصاره مرهون بخسارة الآخر، بينما الشعب كله، في المركز والهامش، يعيش حالة خسارة مزدوجة.
الإسلاميون في مأزق أخلاقي لأن خطابهم اختُطف لصالح تيار متشدد يدّعي تمثيل الإسلام، بينما يُقصى المعتدلون الذين ما زالوا يؤمنون بشرعة الوطن الجامع. الشماليون في أزمة وجودية لأنهم تواطؤوا لقرون مع سلطة المركز وتاملوا — بوعي أو دون وعي — على ظلم المجموعات الزنجية واضطهاد الفئات المستضعفة، ثم وجدوا أنفسهم لاحقًا هدفًا للانتقام. العطاوة (الرزيقات خاصة) وُظفوا لعقود خلت كأدوات بيد المركز حتى صاروا جزءًا من معادلة سلطة لا مفر للخروج منها أو احتكارها دون خسائر باهظة.
الزرقة (الزغاوة خاصة) في ورطة لأن فصائل مسلحة اختطفت تمثيلهم السياسي باسم البندقية لا باسم الشرعية الشعبية. والمساليت، برغم عدالة قضيتهم، ارتهنوا انفسهم للنخبة العسكرية التي لا تسعى إلى حل، بل إلى تدوير الأزمة من خلال السعي لاستيلاد المليشيات. السؤال: هل ستظل قضية دار المساليت جرحاً ينكأ بلا ضماد، وبأي ثمن؟
هل سيظل السودان رهينة لخطابات الكراهية والدم ومرتعاً للغبينة وإثارة الضغائن؟
ما لم ننجح في تحويل هذا الصراع إلى معادلة “رابح-رابح”. وهنا، تحضرني “نظرية اللعبة” (Game Theory) ثانية كعدسة تحليلية يمكن أن تضيء لنا مخرجًا. فنحن كأطراف متنازعة، نتصرف كسجناء في معضلة كلاسيكية: كل طرف يفضل خيانة الآخر خشية أن يُخدع، فتضيع الفرصة على الجميع. لكننا لا نعيش معضلة سجناء، بل مصير وطن، ولا خيار لنا سوى قلب هذه المعادلة نحو “رابح/رابح” (Win/Win). ولا يتحقق هذا إلا باعترافنا المتبادل، وتخلينا عن عقلية “كل شيء أو لا شيء”.
ما نحتاجه في السودان ليس تكراراً لنموذج رواندا، رغم ما فيه من عِبَر، فالجرح السوداني أوسع وأكثر تشعباً من أن يُختصر في ثنائية قبيلتين. تجربة جنوب أفريقيا هي الأقرب لما نمر به: بلاد مزقتها العنصرية، وعُصِرت بماضٍ دموي، ثم نهضت، لا بالمحاكمات الانتقامية، ولا بالتعميم المخل، بل بـ”لجنة الحقيقة والمصالحة”، التي جعلت الاعتراف بالخطأ مدخلاً للتسامح، لا مدخلاً للتبرير.
في جنوب أفريقيا، لم يُطلب من الجلاد أن يُحب ضحيته، ولا من الضحية أن تنسى جراحها، بل طُلب من كليهما أن يعترفا بالحقيقة، ويُسهما في صناعة مستقبل مشترك. وذاك هو جوهر العدالة الانتقالية التي نحتاجها في السودان. عدالة لا تكتفي بالعقاب، ولا تكتفي بالعفو، بل تسعى إلى تحقيق التوازن الأخلاقي والوطني، بإعادة توزيع المعنى والثقة، قبل الثروة والسلطة.
ثقتي أن لنا في موروثاتنا الوطنية والدينية من الحكمة ما يؤهلنا للقيام بهذا الدور وإن افتقرنا حالياً إلى القيادة الفذة وإلى شجاعة الكبار. نحتاج فقط إلى سردية وطنية جديدة، لا تعيد إنتاج المظالم، بل تعترف بها وتعالج جذورها. سردية تُشرك الجميع في كتابة عقد اجتماعي جديد، يضع الوطن فوق الهويات الجزئية والمصالح المؤقتة. إن بقي كل طرف يكتب روايته وحده، فستبقى الذاكرة منقسمة، والدماء مستباحة. لكن إن اتفقنا على رواية واحدة—رواية المأساة الجماعية والمسؤولية المشتركة والأمل الممكن—فقد ننجو، بل قد نبني شيئاً أجمل مما تهدم.
*April 23, 2025*
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: کل طرف
إقرأ أيضاً:
رصد طائر الصرد الرمادي الصغير في طريف
عرعر
رُصد طائر “الصرد الرمادي الصغير” بمحافظة طريف بمنطقة الحدود الشمالية، ضمن مساره السنوي للهجرة، إذ تُعد المنطقة محطة رئيسة للطيور المهاجرة؛ نظرًا لموقعها الجغرافي الذي يربط بين قارات العالم القديم، وما تتمتع به من تنوع بيئي وغطاء نباتي طبيعي يجذب الطيور العابرة والمقيمة.
ويُعد “الصرد الرمادي الصغير” من الطيور المهاجرة ذات الأهمية البيئية، لما يقوم به من دور في التوازن الطبيعي، من خلال تغذيه على الحشرات الضارة مثل الجنادب والصراصير واليرقات، إضافة إلى بعض الزواحف الصغيرة؛ مما يسهم في الحد من انتشارها داخل البيئة الزراعية والطبيعية.
وأوضح رئيس جمعية أمان البيئية ناصر بن ماطر المجلاد أن رصد هذا النوع من الطيور يؤكد سلامة واستقرار النظام البيئي في المنطقة، ويعكس استمرار التنوع الحيوي فيها، مشيرًا إلى أن الطيور المهاجرة تُسهم أيضًا في نقل البذور وتعزيز التوازن البيولوجي، ما يجعل وجودها عاملًا مهمًا في استدامة النظم البيئية.
ويبلغ طول “الصرد الرمادي الصغير” بين 19 و23 سنتيمترًا، ووزنه يتراوح بين 41 و62 جرامًا، ويتميّز بوضعية وقوف خاصة وذيل قصير، مع قناع أسود حول الوجه يمنحه مظهرًا فريدًا يشبه الرأس الكبير والجسم السمين، ويُفضل هذا الطائر الحدائق والمزارع والمناطق ذات الغطاء النباتي الكثيف.
وتُسهم مشاهد هجرة الطيور في إثراء البعد الجمالي والثقافي في المنطقة، وتستقطب المهتمين والمراقبين البيئيين ومحبي الحياة الفطرية.