تحت وطأة اللايقين: أربع قضايا كبرى تفسر الاضطراب الراهن في الاقتصاد العالمي
تاريخ النشر: 25th, April 2025 GMT
“إن أكبر خطر في أزمنة الاضطراب لا يكمن في الاضطراب نفسه، بل في أن نتصرف بمنطق الأمس”. بهذه الكلمات، يُلخِّص “بيتر دراكر”، الأب الروحي لعلم الإدارة الحديثة، جوهر التحدي الذي نعيشه اليوم.
في الربع الأول من عام 2025، سجَّل مؤشر عدم اليقين العالمي (World Uncertainty Index)، الصادر عن وحدة الاستخبارات الاقتصادية (Economic Intelligence Unit)، في مطلع شهر إبريل الجاري، ارتفاعاً حاداً وغير مسبوق منذ شهر يناير، وتجاوَزَ حاجز الـ 50 ألف نقطة في نهاية شهر مارس 2025 للمرة الأولى منذ ذروة جائحة كورونا في سنة 2020، ليسجل أعلى مستوى له في خمسة أعوام، مما يعكس مناخاً من الغموض الذي يُخيِّم على الآفاق الاقتصادية والجيوسياسية العالمية.
إن تصاعد عدم اليقين بهذا الشكل له عواقب خطيرة على الاقتصاد ككل؛ فهو يُثني الشركات عن الاستثمار ويجعلها تُؤجِّل مشروعاتها، ويدفع الأُسَر إلى كبح الاستهلاك انتظاراً لأوقات ذات رؤية أكثر وضوحاً. فيما يلي، نطرح أربع قضايا محورية تُغذّي موجة اللايقين الحالية، وهي: السياسات التجارية المضطربة، والتحولات النقدية غير المستقرة، والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة، وتأثير الثروة (Wealth Effect)؛ لنحلل كيف تتقاطع هذه العوامل في صياغة ملامح المشهد العالمي الراهن؛ سعياً لرسم منظور يساعدنا على التنقل بحكمة في عالم لا تهدأ فيه التقلبات.
أولاً: اضطراب السياسات التجارية:
تشهد السياسة التجارية العالمية حالة اضطراب شديدة تسهم في تأجيج حالة عدم اليقين الاقتصادي؛ فقد شهد مطلع سنة 2025 خطوات مفاجئة وتصعيدية في الحروب التجارية وضعت الشركات والدول أمام مشهد ضبابي القواعد. وتبرز تأثيرات السياسات التجارية في تغذية حالة اللايقين في أربعة جوانب أساسية، وهي:
• تصاعُد الحمائية وتعطُل سلاسل التوريد: أدت قرارات مفاجئة كتطبيق تعريفات جمركية واسعة النطاق –على غرار إعلان الولايات المتحدة فرض رسوم شاملة بنسبة 10% على الواردات أو تصعيدها ضد شركاء رئيسيين– إلى زعزعة النظام التجاري العالمي، بالرغم من تأجيل دخول بعضها حيز التنفيذ. وقد حذَّرت جهات دولية مثل منظمة التجارة العالمية من أن هذه الخطوات قد تزج بالتجارة العالمية في حالة انكماش هذا العام.
وبالفعل، فقد سارع العديد من المستوردين إلى تقديم الطلبات قبل سريان التعريفات الجديدة، ما أدى إلى نشاط مؤقت في بداية الربع الأول، تبعه تباطؤ حاد. على سبيل المثال، أشار تقرير لمنظمة “الأونكتاد” إلى انخفاض مؤشر شنغهاي الشامل لصادرات حاويات الشحن (The Comprehensive Shanghai Export Containerized Freight Index)، وهو مقياس رئيسي لنشاط الشحن والتجارة الدولية، بنسبة 40% في الفترة ما بين أوائل يناير ونهاية مارس 2025، بعد موجة الطلب المسبق. كما توقع تقرير صادر عن شركةSea Intelligence أن تنخفض أرباح الشحن البحري بأكثر من 80% خلال سنة 2025 مقارنة بالعام الماضي، مما يعكس فتوراً في زخم التجارة تحت ضغط السياسات الحمائية.
• إعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية: في ظل حالة الضبابية حيال قواعد التجارة المستقبلية، تعيد الشركات متعددة الجنسيات تقييم استراتيجيات سلاسل الإمداد الخاصة بها. برزت استراتيجية “الصين+1” كمثال؛ حيث تبحث الشركات عن بدائل إنتاج خارج الصين لتقليل التعرض لأي صدمات تجارية بين القوتين العظميين. بطبيعة الحال، يرتبط هذا التحول نحو تنويع قواعد التوريد أو اعتماد التصنيع الأقرب للأسواق (Nearshoring) بتكاليف أعلى وكفاءة إنتاجية أقل، لكنه يُنظَر إليه كضمان أمام مخاطر انقطاع الإمدادات. ورغم ذلك، لا تخلو هذه التعديلات الاستراتيجية من عدم اليقين؛ إذ قد تتغير السياسات قبل جني ثمار إعادة التموضع، مما يجعل قرارات اليوم رهاناً على مستقبل غير مضمون.
• ضغوط على الأسواق الناشئة والتجارة الإقليمية: تدفع حالة عدم اليقين في السياسات التجارية البلدان النامية المعتمدة بشكل كبير على الصادرات ثمناً باهظاً. تعتمد هذه الاقتصادات على استقرار الطلب من الأسواق الكبرى وعلى قواعد نظام تجاري يمكن التنبؤ بها. لذا، فإن أي تغيُّرات مفاجئة في الرسوم الجمركية أو الاتفاقيات الدولية تضرب ثقة المستثمرين وتعرقل خطط التنمية. وقد أبرزت تحليلات حديثة أهمية تعلُّم الدول النامية (خاصة الإفريقية) من صدمات التجارة العالمية المفاجئة، ووجوبية السعي نحو تعزيز تجارتها الإقليمية لتحصين نفسها؛ فبدون شبكات أمان إقليمية، يبقى النمو في هذه الأسواق رهين للتقلبات العالمية التي لا يد له فيها.
• تراجُع الاتفاقيات متعددة الأطراف: في مناخ يسوده الشك، تتباطأ جهود إبرام اتفاقيات تجارية عالمية جديدة وتتعثر مفاوضات تحرير التجارة. وبدلاً من ذلك، يتجه المشهد نحو اتفاقيات ثنائية أو تكتلات تجارية إقليمية ذات طابع جيوسياسي. يُربِك هذا التحول الشركات التي اعتادت العمل وِفْقَ أُطُر منظمة التجارة العالمية وقواعدها المستقرة نسبياً. الآن، تجد هذه الشركات نفسها مضطرة للتعامل مع مجموعة متنافرة من القواعد والمعايير وفقاً لكل سوق؛ الأمر الذي يزيد من التكلفة التنظيمية وعدم القدرة على التخطيط البعيد المدى؛ حيث بات عدم اليقين هو القاعدة في كل صفقة واستثمار عابر للحدود.
ثانياً: التحولات النقدية وتقلبات الأسواق:
تُواجِه السياسة النقدية العالمية منعطفاً تاريخياً يُسهم بدوره في حالة اللايقين السائدة. يجد صانعو السياسات النقدية أنفسهم أمام معضلة موازنة كبح التضخم مقابل دعم النمو، فيما تراقب الأسواق كل إشارة صادرة عن البنوك المركزية الكبرى. من بين ملامح الاضطراب النقدي وتأثيره على يقين المستثمرين والاقتصادات الآتي:
• تذبذُب البنوك المركزية بين التشديد والتيسير: مع بداية عام 2025، ثار جدل عميق حول الخطوة التالية للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي وبقية البنوك المركزية؛ فبعد سلسلة زيادات حادة في أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم خلال عام 2024، أثارت إشارات تباطؤ اقتصادي المخاوف من ركود مُحتَمَل؛ الأمر الذي وضع البنوك المركزية في مفارقة جوهرية: هل تُوقِف رفع الفائدة وربما تبدأ بخفضها لدعم النمو، أم تُبقي السياسة النقدية متشددة حتى يثبت انخفاض التضخم بشكل قاطع؟ وفي ظل مسار أسعار الفائدة الغامض، أصبح التنبؤ بتكلفة الاقتراض والاستثمار مهمة شاقة للحكومات ومؤسسات الأعمال على حد سواء.
• تقلبات الأسواق المالية في مستويات تاريخية: انعكس عدم اليقين النقدي سريعاً في الأسواق المالية؛ حيث شهدت أسواق الأسهم والسندات منذ مطلع عام 2025 تذبذبات حادة تحت وطأة الإشارات المتضاربة. بلغ “مؤشر التقلب” (Volatility Index)، المُسمَّى “مؤشر الخوف” في بورصة وول ستريت الأمريكية، مستويات مرتفعة تاريخياً، مسجِّلاً ثالث أعلى قيمة له على الإطلاق بعد ذروة الأزمة المالية العالمية في سنة 2008 وجائحة كورونا في سنة 2020. لقد ارتفع المؤشر إلى 52.33 نقطة في 8 إبريل الجاري، مُسجِّلاً زيادة قدرها 61.4% خلال الستة أشهر الأخيرة.
ويعكس ارتفاع هذا المؤشر حالة الترقب والقلق الشديدين لدى المستثمرين؛ حيث تؤدي أي معلومة جديدة إلى حدوث تقلبات سريعة وحادة في الأسواق. بعبارة أخرى، أصبحت حساسية الأسواق للسياسة النقدية وغيرها من التغيرات الجيواقتصادية مفرطة، مما يعكس هشاشة الثقة واستعداد المستثمرين للانسحاب عند أول بادرة سلبية.
• أعباء الديون ومخاطر الاستقرار المالي: خلَّفت حقبة أسعار الفائدة المنخفضة ثم الارتفاعات السريعة خلال عام 2024 إرثاً من الديون المرتفعة في القطاعين العام والخاص على حد سواء. ومع ارتفاع تكلفة خدمة الدين، ازداد القلق بشأن احتمالية تعرُّض بعض الشركات المُثقلَة بالقروض أو الاقتصادات الناشئة عالية المديونية لأزمات سيولة أو تعثُر في السداد؛ الأمر الذي دفع إلى تنامي حالة عدم اليقين بشأن متانة النظام المالي العالمي، والترقب الحذر لأي شرارة قد تُشعِل أزمة دين جديدة ينتج عنها تخلُف دولة ما كبيرة عن السداد أو انهيار شركة مالية ذات تشابكات عالمية، بما يستتبعه ذلك من عدوى مالية تعيد إلى الأذهان أزمة 2008؟ إن هذه الهواجس –وغيرها– تجعل حالة الاستقرار المالي محل شك، مما يضع صناع السياسات النقدية في موقف الدفاع المتأهب، ويدفع المستثمرين إلى المطالبة بعلاوات مخاطر أعلى تحسُّباً للأسوأ.
• تذبذُب أسعار الصرف وتدفقات رؤوس الأموال: مع تبايُن التوجهات النقدية بين الاقتصادات الكبرى، شهدت أسواق العملات تقلبات واسعة زادت من ضبابية المشهد؛ فالدولار الأمريكي مثلاً ارتفع ثم انخفض بشكل مفاجئ مقابل العملات الرئيسية في عدة مناسبات تبعاً لتوقعات أسعار الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية مقارنة بأوروبا وآسيا.
هذا التذبذب في سعر الصرف يربك خطط كثير من الشركات متعددة الجنسيات، التي تعتمد في الأساس على استقرار نسبي في العملات لتقييم التكلفة والأرباح. كذلك، أدت فجوات أسعار الفائدة بين الدول إلى تدفقات غير مُتوقَّعة لرؤوس الأموال عَبْرَ الحدود؛ حيث شهدت بعض الأسواق الناشئة نزوحاً لرؤوس الأموال عند كل توقُّع بارتفاع عائد سندات الخزانة الأمريكية، ثم عودة جزئية للتدفقات مع تغير المزاج. مثل هذه التحركات تجعل الاقتصادات الناشئة في حالة تأهُب مستمر، وتفرض عليها رفع أسعار الفائدة المحلية أحياناً بشكل وقائي، مما يكبح النمو الداخلي ويضيف طبقة أخرى من حالة عدم اليقين حيال استقرار الاقتصاد الكلي.
ثالثاً: التوترات الجيوسياسية وإعادة تشكيل المشهد العالمي:
لا يقل المشهد الجيوسياسي اضطراباً عن المشهد الاقتصادي، بل قد يكون أكثر مساهمةً في توليد حالة عدم اليقين الراهنة. لقد بدأ عام 2025 مُحمَّلاً باستمرار أزمات قديمة وظهور توترات جديدة، مما رَسَمَ صورة عالمية مضطربة تتأرجح بين نظام عالمي قديم يتآكل ونظام جديد غامض لم تتضح معالمه بَعْد. فيما يلي بعض التوترات الجيوسياسية التي تُغذي حالة اللايقين العالمي:
• استمرار الصراعات وتداعياتها الاقتصادية: ما زالت بؤر النزاع الإقليمي مشتعلة، وعلى رأسها الصراع الروسي الأوكراني الذي ألقى بظلاله على أمن الطاقة العالمي وأدى إلى إعادة رَسْم خريطة إمدادات الحبوب والأسمدة عالمياً؛ فعدم اليقين بشأن مدة الحرب ومآلها يُبقِي أسعار النفط والغاز متقلبة، رغم جهود أوروبا لتنويع مصادرها، ويؤثر على قرارات الاستثمار في قطاعات من الصناعات الثقيلة إلى الزراعة. وبالمثل، يشهد الشرق الأوسط تجاذباتٍ في ملفات أمنية ونزاعات أهلية تُلقِي بمخاطر على استقرار أسواق النفط وحركة التجارة الدولية. ولا شك في أن كل تصعيد على الأرض يعني ارتفاعاً في مستوى اللايقين لدى الأسواق والشركات حول توفُّر الموارد وأسعارها في المستقبل القريب.
• التنافس بين القوى العظمى وإعادة الاصطفاف: دخلت العلاقات بين القوى الكبرى منعطفاً أكثر حدة؛ فالولايات المتحدة الأمريكية والصين منخرطتيْن في منافسة استراتيجية شاملة تمتد من التجارة إلى التقنية وصولاً إلى النفوذ السياسي في مناطق العالم المختلفة. يتجلى ذلك في حرب تكنولوجية حول أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، ومحاولات كل طرف تشكيل تكتلات اقتصادية وأمنية موالية له. يخلق هذا التنافس حالة عدم يقين للشركات التقنية والصناعية: هل تستثمر في الصين أم تبحث عن أسواق بديلة؟ كذلك، عاد شبح الأزمات التقليدية، مثل مضيق تايوان، الذي بات أي توتر فيه يربك أسواق الأسهم العالمية، ليكون عاملاً يزيد من اللايقين. وعليه، أصبحت السياسة الدولية ساحة متقلبة لا يمكن التكهن بسهولة باتجاهاتها، مما يزيد من صعوبة رَسْم استراتيجيات دولية طويلة الأمد.
• عدم الاستقرار السياسي الداخلي: لا تكمن المخاطر السياسية على المستوى الدولي فحسب، بل تمتد على مستوى دول كبرى داخلياً؛ فمع تغيُّر الإدارات والحكومات، يمكن أن تنقلب السياسات رأساً على عقب. شهدت الولايات المتحدة الأمريكية انتقالاً سياسياً أعاد نهجاً أكثر تشدداً في التجارة والسياسة الخارجية، مع عودة الخطاب الحمائي وإعادة التفاوض حول الاتفاقات الدولية. أما في أوروبا، فبرزت انقسامات داخلية بين دول الاتحاد الأوروبي حيال قضايا الطاقة والإنفاق الدفاعي، فضلاً عن صعود تيارات شعبوية في بعض الدول تهدد بتغيير المسار المتفق عليه أوروبياً.
وفي اقتصادات ناشئة مهمة مثل الهند والبرازيل، هناك حالة سيولة في التوجهات مع اقتراب استحقاقات انتخابية، مما يجعل المستثمرين والمراقبين في حيرة حِيال المستقبل السياسي لتلك الأسواق. كل هذه التحولات الداخلية في بلدان محورية يتم ترجمته إلى تقلُّب في السياسات العابرة للحدود؛ من التجارة إلى تغيُّر المناخ وحتى سياسات الهجرة. وبالتالي، يصبح من الصعب توقُّع الثبات في التزامات الدول عندما تكون أولويات قياداتها قابلة للتغير بين ليلة وضحاها.
• التفكك الجيواقتصادي وإعادة رَسْم النظام العالمي: خلال المدى الزمني البعيد، تقود التوترات أعلاه -وغيرها- مجتمعةً إلى ظاهرة أوسع هي التفكك الجيواقتصادي؛ إذ يبدو أننا نشهد تآكلاً في أُسُس النظام العالمي الليبرالي الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة، مع انتقال العالم إلى حقبة تكتلات متنافسة اقتصادياً وسياسياً. لقد أصبحت سلاسل التوريد والتجارة والتدفقات المالية تخضع لاعتبارات أمنية واستراتيجية، لا اقتصادية بحتة. وبرزت كتل تجارية ومصرفية موازية في الشرق تطرح بدائل للمؤسسات الغربية التقليدية. يحمل هذا الواقع الانتقالي في طياته درجة عالية من عدم اليقين: كيف سيبدو شكل العولمة خلال بضع سنوات؟ هل ينقسم العالم إلى شبكات منفصلة لكل منها معاييره ونظمه المالية الخاصة؟ بالنسبة للقادة التنفيذيين وواضعي الاستراتيجيات، فإن ذلك يعني الحاجة إلى إعادة تقييم مستمرة للفرضيات التي بُنِيَت عليها قرارات الاستثمار والتوسع خلال العقود الماضية؛ إذ أصبحت قواعد اللعبة نفسها عُرضَة لأن تتغير في أي لحظة.
رابعاً: تأثير الثروة ودوره في تغذية حلقة مفرغة:
في ظل تنامي موجات اللايقين، يبرز ما يُعرَف بـ “تأثير الثروة” كآلية نفسية واقتصادية مهمة يجب التنبه لها؛ فعندما تنخفض قيم الأصول المالية –من الأسهم إلى العقارات– يشعر الأفراد والمؤسسات بتراجع قدرتهم الشرائية، حتى وإن لم تتغير دخولهم الفعلية، والعكس صحيح. في الوقت الراهن، من المُرجَّح أن تُحدِثَ هذه الظاهرة تأثيراً واسع النطاق على السلوك الاقتصادي الكلي وتخلق حلقة متكررة من التباطؤ يُغذيها عوامل عِدة، يأتي في مقدمتها التالي:
• انكماش الإنفاق الاستهلاكي العائلي: عندما تتآكل الثروات الورقية للأُسَر نتيجة هبوط أسواق الأسهم أو أسعار العقارات، يشعر الأفراد بانعدام الأمان المالي، ما يؤدي إلى تقليص الإنفاق خاصةً على السلع المعمرة أو الرفاهية مثل السيارات، والسياحة، والأجهزة الإلكترونية. لا يضر هذا الانكماش في الإنفاق الاستهلاكي فقط القطاعات المرتبطة مباشرةً بالمستهلك، بل يضغط أيضاً على سلاسل الإمداد وتجارة التجزئة. يُؤثر ذلك سلباً على الزخم العام للنمو الاقتصادي؛ خاصةً في الاقتصادات التي يُمثِّل فيها الاستهلاك المحلي نسبة مرتفعة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي.
• تأجيل القرارات الاستثمارية: مع تآكل القيمة السوقية للأصول، يصبح المستثمرون أكثر تحفظاً، مما قد يصاحبه تأجيل إطلاق مشروعات جديدة أو التوسع في مشروعات وأسواق قائمة. كذلك، قد تتردد الشركات في ضخ استثمارات رأسمالية كبيرة، خشية تدهور إضافي في التقييمات أو ضعف العائد. وحتى الشركات التي لا تعاني من تراجُعٍ مباشرٍ في السيولة، قد تجد نفسها مُقيَّدَة باعتبارات السوق والمساهمين الذين يفضلون الحفاظ على رأس المال بدلاً من المجازفة. يسهم هذا التردد في الإنفاق الاستثماري في تعميق الركود ويُعطِّل دورة النمو الاقتصادي.
• تراجُع ثقة الأعمال وزيادة النفور من المخاطر: يُنتِج تأثير الثروة السلبي شعوراً جماعياً بفقدان السيطرة لدى المستثمرين ومديري الأعمال، فتسود حالة من النفور المُفرِط من المخاطرة؛ حيث تصبح الأولوية للحفاظ على الوضع الراهن بدلاً من استكشاف فرص جديدة. عادة ما يصاحب ذلك انخفاض الابتكار، وتباطؤ اتخاذ القرار، وركود في نمو الأعمال، مما يقلل من مرونة الأسواق في مواجهة الصدمات المستقبلية ويعزز مناخ عدم اليقين.
• إنتاج دائرة مفرغة من التراجع: يؤدي تراجع الثروة إلى تقليص كلٍ من الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، مما يُفضِي إلى تباطؤ اقتصادي أكبر، وتراجُع إضافي في الأصول، مما يزيد من عدم اليقين ويعيد تغذية الدورة من جديد. لا تنكسر هذه الحلقة المفرغة إلا بتدخلات خارجية تعالج الجذور الرئيسة المسببة لحالة عدم اليقين، على أن يصاحبها أدوات معززة للسيناريو المستقبلي الأفضل حالاً؛ كإطلاق سياسات تحفيزية فعالة، أو تحسُّن مفاجئ في مؤشرات الثقة، أو صعود في الأسواق يعيد الثقة للمستهلكين والمستثمرين. وحتى ذلك الحين، يظل النظام العالمي في حالة هشاشة نفسية واقتصادية يصعب التنبؤ بمآلاتها.
ختاماً، يرسم الارتفاع الحاد في مؤشر عدم اليقين العالمي منذ مطلع عام 2025 مشهداً عالمياً معقداً يستوجب من القادة قدراً عالياً من المرونة والحنكة الاستراتيجية. لقد تعلمنا من العقدين الماضيين أن الأزمات –من فقاعة 2008 العقارية إلى جائحة 2020– يمكن أن تضرب بسرعة مذهلة، لكنهما أظهرا أيضاً قدرة النظام العالمي على التعافي حين تتكاتف الجهود وتُستخلَص الدروس الصحيحة.
واليوم، إذ تقف الاقتصادات على مفترق طرق مليء بالمتغيرات، هناك فرص كامنة في ثنايا اللايقين نفسه؛ ففي ظل هذه الضبابية العالمية، تعيد الشركات ابتكار نماذج أعمالها لتصبح أكثر مرونة، وتعمل الدول على تعزيز التعاون الإقليمي وبناء هوامش أمان مالية واقتصادية تحسُّباُ للمفاجآت. وعلى الرغم من أن “تأثير الثروة” قد يُعمِّق فجوات الثقة والسلوك الاقتصادي، إلا أن كسره يتطلب تحفيز الثقة والتواصل الاستباقي والسياسات التوسعية المدروسة.
ربما يكون من السابق لأوانه الجزم بكيفية انجلاء حالة عدم اليقين الراهنة، لكن المؤكد أن المرونة ستكون العملة الأعلى قيمة في المرحلة المقبلة. إن القدرة على التخطيط تحت ظروف غامضة، واتخاذ القرارات بسرعة استجابةً للمتغيرات، والاستثمار في المعرفة واستشراف السيناريوهات المُحتمَلَة… كل ذلك سيحدد من سيكون قادراً على تحويل اللايقين إلى فرصة ومن سيتعثر في مواجهته. وكما قال دراكر، الخطر الأكبر هو التمسك بمنطق الأمس؛ أما اغتنام الغد فيتطلب عقلية جديدة تدرك أن التغيير هو الثابت الوحيد، وأن من رَحِمِ الاضطراب تُولَد ملامح نظام عالمي جديد تتشكل معالمه أمام أعيننا.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
مفاجأة في أسواق النفط: أسعار خام البصرة تنخفض رغم ارتفاع الأسعار العالمية
أبريل 23, 2025آخر تحديث: أبريل 23, 2025
المستقلة/- شهدت أسعار خام البصرة، بنوعيه الثقيل والمتوسط، انخفاضًا لليوم الثاني على التوالي، رغم الارتفاع الذي شهدته أسعار النفط في الأسواق العالمية اليوم.
فقد انخفضت أسعار خام البصرة الثقيل بمقدار 23 سنتًا، ما يعادل 0.36%، ليصل سعر البرميل إلى 64.12 دولارًا، بينما انخفضت أسعار خام البصرة المتوسط بمقدار 23 سنتًا أيضًا، ما يعادل 0.34%، ليصل إلى 67.27 دولارًا.
على الرغم من هذا الانخفاض في أسعار خام البصرة، ارتفعت أسعار النفط في الأسواق العالمية بفضل مجموعة من العوامل الاقتصادية والسياسية المؤثرة. من أبرز هذه العوامل فرض عقوبات جديدة على إيران، ما أثار المخاوف بشأن تقليص إمدادات النفط، بالإضافة إلى انخفاض مخزونات الخام الأمريكية، وهو ما أدى إلى زيادة الطلب على النفط.
في الأسواق العالمية، سجل خام برنت اليوم 68.01 دولارًا للبرميل، بينما سجل خام غرب تكساس الوسيط (WTI) 64.31 دولارًا للبرميل، ما يعكس الارتفاع الملحوظ في أسواق النفط العالمية.
يبقى التساؤل الأبرز، لماذا انخفضت أسعار خام البصرة رغم هذا الارتفاع العالمي؟ يعود ذلك إلى مجموعة من العوامل المحلية والاقتصادية في العراق التي قد تؤثر على صادرات النفط العراقية وأسعاره في الأسواق الدولية.
المراقبون يترقبون ما ستؤول إليه أسعار النفط في الأيام القادمة، خاصة مع تزايد الضغوط الاقتصادية والعقوبات المفروضة على بعض الدول المنتجة للنفط، التي تساهم في تغيير معادلة العرض والطلب في الأسواق العالمية.