نشأة وتاريخ الرهبنة اليسوعية
تاريخ النشر: 26th, August 2023 GMT
تستعرض البوابة القبطية كيف نشأت وظهرت الرهبنة اليسوعيّة وهي رهبنة رجاليّة، وليس لها فرع نسائيّ.
بيد أنّ هناك رهبنات نسائيّة ارتبطت بعلاقة وثيقة أحيانًا باليسوعيّين، وتبنّت روحانيّتهم، فسمّيَت رهبنات إغناطيّة.
مَن يريد أن يكون يسوعيًّا عليه أن يتواصل أوّلًا مع يسوعيّ، ويعبّر له عن رغبته بتكريس نفسه لخدمة الرب.
حين يرى المرافق أنّ طالب الانضمام إلى الرهبنة يتقدَّم روحيًّا في هذه الرغبة، على الرغم من تقلّبات مشاعره، يقترح عليه رياضة روحيّة تسمّى رياضة اختيار، غايتها تثبيت اختياره أو نفيه. فرياضة الاختيار ليست في بداية طريق التفكير في الدعوة، بل في مساره.
بعد فترة من المرافقة، تتفاوت مدّتها من شخصٍ إلى آخر، على ألّا تقلّ عن ثلاثة أشهر، إذا ظلّ طالب الانضمام عازمًا على أن يصير يسوعيًّا، يقدّم طلبًا خطّيّا للرئيس الإقليميّ. فيعيّن الرئيس الإقليميّ أربعة يسوعيّين ليقابلوه ويبدون رأيهم فيه. فإذا سارت الأمور على ما يرام، يقوم بفحصٍ طبّيّ ونفسيّ للتأكّد من خلوّه من موانع قانونيّة تمنع دخوله الرهبنة، ويقضي فترة أسبوع أو أكثر في أحد الأديرة اليسوعيّة ليتعرّف إلى الرهبنة عن كثب، وتتعرّف الرهبنة إليه.
في شهر (سبتمبر)، يدخل دير الابتداء. في هذا الدير، يعيش مدّة سنتين مع آخرين يريدون دخول الرهبنة مثله، تحت إشراف معلّمٍ يسمّى معلّم الابتداء. في هاتَين السنتين، يتعمّق في دراسة قوانين الرهبنة، وروحانيّتها، وحياة مؤسّسها، وسير القدّيسين، وبعض الوثائق الرهبانيّة والكنسيّة الهامّة، ويقوم برياضةٍ روحيّة مدّتها ثلاثين يومًا، وهي الرياضة الروحيّة كما كتبها القدّيس إغناطيوس. كما يقضي بضعة أشهرٍ في جماعةٍ يسوعيّة، يقوم فيها بعملٍ رسوليّ متواضعٍ قوامه الخدمة.
إنّ فترة الابتداء هي فترة تشكيل هيكل عظميّ للحياة الروحيّة المكرّسة، وستقوم السنوات التالية بإكساء هذا الهيكل باللحم وتجهيزه بالأعضاء ليصير الشخص إنسانًا روحيًّا. وقوام هذا الهيكل العظميّ هو التواضع أوّلًا (ويتمّ التدرّب عليه من خلال الخدمات الوضيعة)، والعلاقة الحميمة بالربّ (وهي تنمو في الصلاة اليوميّة: التأمّل، ومراجعة النهار، المشاركة بالقدّاس، والاعتراف بتواتر، والرياضة الروحيّة).
في الابتداء يتابع المبتدئ اختبار دعوته، واختبار هل هذا الطريق الذي بدأه هو الأنسب له من أجل خدمة الله ربّنا. ويخوض اختباراتٍ يبيّن فيها قدرته الفكريّة على الدرس، مرونته تجاه الظروف المتقلّبة، تحمّله لحياة التقشّف والزهد، طواعيّته في مسألة الطاعة، قدرته على العيش في جماعة والعمل مع فريق...
وبما أنّه ما من إنسانٍ كامل، فإنّ الابتداء هو فترة تدريب وتكوينٍ للشخصيّة الرهبانيّة. فمن خلال توجيهات معلّم الابتداء، والدورات التكوينيّة، وبذل الجهد، يحرز المبتدئ تقدّمًا في حياته الروحيّة والعلاقيّة، ويهذّب شخصيّته، ويحسّن طباعة، ويقضي على السلبيّات لديه، بحيث يرى رؤساؤه هل هو أهل لدخول الرهبنة أم لا.
بعد الابتداء، يبرز نذوره البسيطة بأن يعيش في الرهبنة حياة الفقر والعفّة والطاعة. إنّه التزام من طرفه، وستلتزم الرهبنة من طرفها أيضًا بعد حوالى خمس عشرة سنة، حين يبرز نذوره الاحتفاليّة.
تلي سنتَي الابتداء مرحلة طويلة يسمّى مَن هو فيها دارسًا. ويختلف برنامج الدروس بحسب كلّ إقليمٍ يسوعيٍّ في العالم. ففي الشرق الأوسط، في السنة الأولى بعد نهاية الابتداء، يدرس الدارس الآداب العربيّة واللغات الأجنبيّة، خصوصًا الفرنسيّة والإنجليزيّة. فإن كان يتقنهما، يدرس لغةً من اختياره. كما ينال تكوينًا في الديانة الإسلاميّة، وينمّي مهاراته في الكتابة والخطابة وطرائق الاختزال وأساليب البحث. إنّها مرحلة تأسيسٍ للدروس المستقبليّة.
مرحلة دراسة الفلسفة تلي مرحلة التأسيس، وغايتها تنمية فكرٍ نقديٍّ ومنطقيٍّ وتحليليّ لدى الدارس. لا تُمنَع في هذه المرحلة دراسة أفكار أيّ فيلسوف، ولا يُطلَق حكم رافض لأيّ فكرة فلسفيّة، بل يتمّ التدريب على احترامها، ومناقشتها أكاديميًّا، وتبيان نقاط قوّتها وضعفها، ومواطن الحقيقة فيها والخلل.
في نهاية الفلسفة، يوقف الدارس دراسته، ويقضي فترة سنتين أو ثلاث في العمل مع يسوعيّين داخل مؤسّسة. إنّها فترة اختبارٍ لما ينتظره في المستقبل. فيها يتعوّد على العمل في فريق، وكيف يحافظ على حياة الصلاة في خضمّ الانشغالات الرسوليّة، ويشعر بعلامات الأزمنة، أي ما يحتاج إليه عالم اليوم.
بعدها تبدأ دراسة اللاهوت، وهي على مرحلتين. مرحلة البكالوريوس، وهي تتناول كلّ اللاهوت الذي يحتاج إليه مَن يريد أن يصير كاهنًا، ومرحلة الماجستير، وفيها يتخصّص الدارس أكثر في مجالٍ معيّنٍ من مجالات اللاهوت. وبالتشاور مع الرؤساء. قد يرافق هذه المرحلة دروسًا أخرى سوف يتخصّص الدارس فيها لنَيل شهادة الدكتوراه، أو ليخوض رسالته في مجالٍ متخصّص (علم اجتماع، طب، هندسة، رياضيّات، فن، إلكترونيّات.
على الرغم من التشاور، لا يحدّد الدارس لنفسه ما يريد أن يدرسه، أو التخصّص والشهادات التي يريد أن ينالها. إنّه راهب، كرّس نفسه لخدمة الربّ، وروحانيّة رهبنته درّبته على تبنّي موقف عدم الانحياز لأيّ شيء. لذلك يعود للرهبنة، من خلال رؤسائها ومستشاريهم، أن تقرّر ما يفعله لتلبية الحاجات الرسوليّة الملحّة.
الرسامة الكهنوتيّة تأتي في أواخر هذا المسار، وتليها سنوات خدمة، يوقف بعدها اليسوعيّ كلّ نشاطاته، ويعود إلى حالة المبتدئ لمدّة سنة. إنّها السنة الثالثة للابتداء. فيها يقوم برياضةٍ روحيّة لثلاثين يومًا كما في الابتداء الأوّل، ويدرس بعمقٍ جميع قوانين الرهبنة وحياة المؤسّس وأهمّ وثائق مجامع الرهبنة. إنّ إعادة دراسته لهذه الأمور التي اطّلع عليها في الابتداء تجعله يتعمّق أكثر فيها، خصوصًا مع خبرته في عيشها لمدّةٍ تزيد عن اثنتيّ عشرة سنة. ويبرز بعدها النذور النهائيّة. لقد انتهت فترة الخطوبة، وتمّ الزواج إن جاز لنا التعبير، اليسوعيّ والرهبنة مرتبطان الآن إلى الأبد.
هناك مَن يطلبون دخول الرهبنة، ولا يريدون أن يصيروا كهنة، بل أن يظلّوا رهبانًا. وتسمّيهم الرهبنة: إخوة. تختلف شروط قبولهم عن شروط الكهنة، فلا يُشترط أن يكونوا من حملة الشهادة الجامعيّة، أو أن تكون لديهم قدرات فكريّة للدروس. إنّهم يتبعون المسار نفسه حتّى نهاية سنة التأسيس التي تلي الابتداء. وبعد ذلك، يتمّ توجيههم نحو دروسٍ معيّنة، وتكوينٍ خاصّ، من أجل عملهم الرسوليّ المستقبليّ. ومع أنّ القانون الكنسيّ يعفيهم من سنوات دروس الفلسفة واللاهوت القانونيّة، يستطيعون أن يدرسوا كلّ المواد مثل الّذين سيصبحوا كهنة، إذا اقتضت الحاجة ذلك، وكانوا قادرين عليها.
لحياة الإخوة ميزة خاصّة وهي أنّهم متحرّرون من التزامات العمل الكهنوتيّ، ويطوّرون عمومًا مهاراتٍ يدويّة أو عمليّة، ويكونوا بحكم تحرّرهم ومهاراتهم أقرب إلى الناس بمختلف أعراقهم وطوائفهم. وقد اشتهر الإخوة اليسوعيّون عبر الزمن ببساطتهم وتواضعهم، وحيازتهم على قلوب الناس. إنّهم الودعاء الّذين يرثون الأرض. فدعوة الأخ في الرهبنة اليسوعيّة هي دعوة خاصّة يشعر الإنسان بأنّ الربّ يدعوه إليها، وفيها يجد سعادته وملء انشراحه.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: أقباط الروحی ة یرید أن روحی ة
إقرأ أيضاً:
وكيل الأزهر: لغتنا العربية من أمضى أسلحة بقاء الأمة.. وسَنُحاسب إن فرطنا فيها
قال أ.د/ محمد الضويني، وكيل الأزهر، إن الحفاظ على اللغة والهوية العربية والإسلامية، مسؤولية دينية ووطنية ومجتمعية تقع على عاتق الجميع؛ كل في مكان عمله وتخصصه وحدود قدراته وإمكاناته، لنحافظ على ديننا وعقيدتنا وهويتنا، مؤكدا أننا ما أحوجنا إلى اليقظة والمقاومة لكل محاولات تذويب الهوية، والعمل الجاد على تقوية مناعتنا الحضارية، من خلال الاحتفاء بلغة القرآن والعناية بها، فهي مفتاح هويتنا، والاعتزاز بها اعتزاز بالهوية، وخدمتها خدمة للدين والوطن.
وأوضح وكيل الأزهر، خلال كلمته اليوم باحتفالية الأزهر باليوم العالمي للغة العربية، أن من فضل الله على الأمة أن ميزها بأجلى عقيدة، وأفصح لسان، وأعظم هوية، مؤكدا أن المحافظة على العقيدة واللسان والهوية مطلب شرعي، وواجب وطني، ومسؤولية مجتمعية، قائلا: "إذا كانت اللغة العربية أحد أركان هوية الأمة؛ فإن المحافظة عليها من الدين".
وأكد الدكتور الضويني، أن الواجب على كل مسلم أن يذود عن اللغة بقلبه حبا لها، وبلسانه تعلما ونطقا بحروفها وبلاغتها، وأن يزود نفسه ما استطاع من الثقافة العربية والإسلامية، وأن يكون على وعي بما تتعرض له اللغة والدين والهوية من هجمات شرسة، وأن يتنبه لصراع قديم متجدد، صراع خفية أدواته، خطيرة آثاره! وهو «صراع الألسنة واللغات»، مشددا على أن اللغة هي أحد أهم مكونات الهوية، ومن أهم عوامل البناء في مختلف الحضارات والثقافات، ومن أول ما يعنى الغزاة المحتلون بمحوه، ومن ثم فإن الصراع اللغوي صراع وجود وهوية.
واستنكر وكيل الأزهر، غياب الفصاحة العربية عن ألسنة كثير من أبنائنا الذين شغلوا عنها برطانات ولغات أعجمية، وأصبحوا يعمدون إلى بضع كلمات أجنبية يقحمونها بين الحين والآخر في حديثهم بلا داع أو مبرر، وكأنما اعوجاج اللسان العربي غاية التحضر والرقي، فضلا عن لافتات الشوارع وواجهات المؤسسات، التي تخلت عن اللغة العربية الفصحى، موضحا أن المشكلة ليست في استعارة بعض ألفاظ من لغات أخر، وإنما الأسى من أن يدور في فم المتكلم العربي لسان غيره، وأن يسكن دماغه عقل غيره!
وقال وكيل الأزهر، إن الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية يذكرنا بالحال الذي تحياه هذه اللغة، فالواقع يعلن أن بعض أبناء الأمة العربية قد هجر اللغة الفصحى إلى اللهجة العامية بدعوى التسهيل والتيسير، وأن بعضهم يقدم اللغات الأجنبية عن لغته الأم، أو يرتضي اختراع خليط لغوي عجيب لا نسب له، وكأنهم يظنون بهذا أن التقدم لا يكون إلا بالانسلاخ من اللغة العربية، وكأن اللغة العربية هي المسئولة عن مشكلات حياتنا!، مؤكدا أن هذا الواقع اللغوي يفرض على الأمة العربية أن توجد طرائق متنوعة لتجذير اللغة العربية في نفوس أجيال المستقبل؛ لتبقى حية متوقدة في ألسنتهم وفي أفكارهم، بدءا من المدارس والمؤسسات التربوية، ومرورا بوسائل الإعلام المختلفة، ووسائل التواصل الاجتماعي المحدثة التي تأتي بالعجائب وغيرها من أدوات معاصرة.
وشدد وكيل الأزهر على أن اللغة العربية ليست مجرد لغة للتواصل والتفكير فقط، وإنما هي لغة العقيدة والشريعة التي ارتضاها الله رب العالمين لغة لكتابه وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم، كما أنها مفتاح علوم التراث، ولا غنى لعلم من علوم الشريعة عنها، مبينا أنه إذا استعجمت الألسنة صارت العلوم غريبة عن أهلها، وإذا فرق بين العلوم وأهلها صاروا على موائد الأمم العلمية أضيافا إن أحسن إليهم؛ ولذلك كان إكرام اللغة واللسان من إكرام الأمة، وضعف اللغة واللسان من ضعف الأمة.
وفي ختام كلمته، قال وكيل الأزهر، إن لغتنا العربية من أمضى أسلحة بقاء الأمة، وأننا بقدر مسئوليتنا عن الأمة سنحاسب على مكونات هويتها إن فرطنا فيها، داعيا إلى ضرورة تفعيل التشريعات الخاصة بحماية اللغة العربية والنهوض بها، بما يجعلها حاضرة في مختلف ميادين المعرفة والثقافة، والحياة العامة، والأنشطة الفنية والإعلامية، وأن تعمل الدوائر التربوية على إيجاد صيغ وبدائل مرغبة للنشء في دراستها والتكلم بها، مع ضرورة توفر إرادة حقيقية وقرار بآليات تنفيذية يعنى بتعريب العلوم المعاصرة، وأن تصطبغ الرسالة الإعلامية بالصبغة اللغوية الفصيحة، كما دعا فضيلته الدبلوماسيين العرب أن يحرصوا على النطق باللسان العربي في المحافل الدولية، والأوساط السياسية.