يقول المطران سعد سيروب لماذا  الاعتراف عند الكاهن؟

سألني أحدهم عن الاعتراف لدى الكاهن: لماذا يجب الاعتراف لدى الكاهن؟ ألا نستطيع أن نذهب إلى الله مباشرة؟ أليس الله قادر على أن يغفر خطايانا وهو يعرف دواخلنا ويقرأها؟ يمثل هذا السؤال قضية كبيرة في إيماننا المسيحي وهي قضية الغفران.. وأريد أن أجلب الانتباه الى نقطتين أساسيتين فيه:

المسألة الأولى هي أن إيمان الكنيسة اليقيني يقول أنك إذا ركعت وسجدت وطلبت بمحبة شديدة لله الغفران من كلّ قلبك نادمًا على خطاياك، فإن الله مستعد أن يغفر لك خطاياك.

تؤمن الكنيسة أنه إذا تاب الشخص بصدق، أي توبة صادقة وحقيقية، وليس مجرد هروب من القصاص أو العقاب، بل توبة ملئها الحب لله وللخير وطلب الغفران في قلبه على خطاياه، فإن الله سيغفر له خطاياه.

أكيد أن هذه التوبة يجب أن يُصاحبها معرفة وإدراك حقيقي وصادق للخطايا المرتكبة والشرّ المقترف، فإذا ولدت التوبة فيَّ حبّا داخليا ونمت في داخلي إرادة الخير والحبّ، وتوجهت إلى إله العطاء والخير والجودة فأن الله بالتأكيد يعطيني الغفران.

ولكن دعوني أشير الى مسألة ثانية ومهمة في هذه القضية وهي أن الخطيئة ليست أمرا شخصيا وفرديا فحسب، أي بيني وبين الله وحدنا. الخطيئة تملك بُعدا اجتماعيا، أفقيا. فمهما كانت خطيئتي شخصية وفردية إلا أنني بارتكابها أهين جسد الكنيسة وشركة الجماعة فيها، والبشرية جمعاء. وهذا البعد الاجتماعي أو الافقي يحتاج إلى الإصغاء على مستوى الجماعة أيضا (في القرون الأربعة الأولى كان سرّ التوبة يمارس علنيا وأمام الجماعة الكنسية).

فالغفران يجب أن يأتي من الجماعة أيضا. فكما قلت أن الخطيئة لا نقترفها تجاه الله وحده، بل تجاه أخوتنا البشر، وبالتالي هي إهانة إلى الشركة والجسد الكنسي ككل. ومن هنا الحاجة إلى سرّ التوبة والمصالحة في الكنيسة الذي يمثل دمجا جديدًا وحقيقيًا للإنسان الخاطىء في الجماعة.

سرّ الاعتراف أذن هو نعمة كبيرة أعطيت ليّ من الرب يسوع المسيح من خلال رسله كنيسته بها استطيع التحرّر من الخطيئة ببعدها الاجتماعي وأجد الغفران من الأخوة من جديد، واندمج مرّة أخرى في الجماعة، جماعة أبناء الله، التي هي جسد المسيح السرّي. ومن هنا أهمية الاعتراف لدى الكاهن. الكاهن يمثل الجماعة التي تعيش الغفران. والسرّ ليس نوعا من التحديد والشرط الذي تضعه الكنيسة على محبة الله، لا ابدا.

السرّ هو التعبير والعلامة الخارجية والواقعية التي تمثل محبة الله وغفرانه ومحبته اللامحدودة واللامشروطة. هذه المحبة التي تعبّر عن ذاتها واقعيا في شخص الكاهن، في شركة الكنيسة، التي منا ايضا استلم الغفران واستطيع أن ابدأ من جديد.

فحلّة الكاهن من الخطايا ضرورية بطبيعتها لكي أتخلص من قيود الخطيئة واندمج مرّة اخرى من جديد في إرادة الله، وأدخل في شركة جديدة مع الكنيسة، التي تمثل اليقين، الى حدّ الملموس، ان الله غفر ليّ خطيئتي وأنه يقبلني مرّ أخرى في شركة معه ومع أخوتي ابنائه في المسيح. فسرّ الاعتراف هو فرصة لاكتشاف جودة الله ومحبته بشكل ملموس ويقيني.

المسيح بعد قيامته من بين الأموات وضع بيد الرسل سلطة غفران الخطايا قائلا لهم: "نفخَ فيهم وقال لهم: "خُذوا الروحَ القُدس. مَن غفرتم لهم خَطاياهم تُغفر لهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم" (يوحنا 20: 22-23)؛ أعطى المسيح الكنيسة من خلال شخص الرسول بطرس وتلاميذه خدمة المصالحة وغفران الخطايا (متى 16: 19).

أفضل نص لفهم الغفران والمصالحة موجود عن بولس الرسول الذي يقول: "هذا كلّه من الله الذي صالحنا بالمسيح وأعطانا خدمة المصالحة" (2 كور 5: 18-20)، ولهذا يطلب من المسيحيين أن "بِاسمِ المسيح أَن تَدَعوا اللّهَ يُصالِحُكُم". لم يقول تصالحوا انتم مع الله؛ بل قال: "دعوا الله يصالحكم"، بالطريقة التي ارادها وشائها منذ الأزل في يسوع المسيح.

من هنا تأتي ضرورة الكاهن الذي يمثل واقعيا وجسديا غفران المسيح الذي يمنح لنا. أعتقد أن من يعتقد أن الغفران يجب ان يكون شخصيا، بيني وبين الله وحده، يقع في تجربة كبيرة: انه يحول الغفران الى نوع من التبرير الذاتي، وعندها يطرح السؤال مرّة اخرى علينا: من قال اننا اعترفنا بإدراك ومعرفة حقيقية بخطايانا؟ أليس من الممكن أن نكون ارتكبنا منها المميت والشنيع وبررنا أنفسنا على اعتبارات ذاتية وشخصية؟ أليس من الممكن ان نكون قد حولنا الاعتراف الى نوع من التعلق بالذات اكثر منه التعلق بالله ووصاياه ومحبته؟ وكيف نعرف أن الله غفر له؟ الكاهن يمثل هذا الجانب الواقعي المتجسد للغفران الذي أعطانا إياه الله في المسيح.

اترككم مع صيغة الحلّة في سرّ الاعتراف في كنيستنا الكلدانية: "يا الهنا المملوء رحمة أفض حنانك على خادمك هذا، واغفر خطاياه وخلصه منها، وليجدده روحك القدوس وليثبته في سلوك طريق البر والقداسة".

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: أقباط المطران سعد سيروب

إقرأ أيضاً:

محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق

إن المتدبِّر في محكمات الشريعة ومسلماتها، ليتهادى بين يديه ويقف شاخصا بين عينيه؛ ذلك التطرُّق المصلحي النَّفعي للعباد في تفاصيل الأحكام ولميَّاتها، وتلك المكارم والنفحات الإلهيَّة التي ينصبغ بها الخطاب المؤسِّس للتَّكليف؛ فلا تكاد ترى ذلك الأمر أو النَّهي الجازمين، إلا وترى -في الحين عينه- ذلك التَّحنان والامتنَان الذي يمازجهما ممازجة الدَّم اللحم، فلا ينقطع حضورُ قلب المكلَّف عن شُهُود هذه المعاني، وإن كان الذي يطرقُ السَّمع في معطاه الظَّاهري هو من بابة الحثِّ أو الزَّجر؛ يقول العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلَامِ -رحمه الله- في (قَوَاعِد الأحكام): “التكاليفُ كلُّها راجعةٌ إلى مصالحِ العبادِ في دنياهم وأُخراهم، واللهُ غنيٌّ عن عبادةِ الكلِّ؛ ولا تنفعُه طاعةُ الطائعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصين”.

وهذه الكليَّة الشرعية المتدبَّرة في التَّوجيهات الإلهية والنبوية؛ لتُوحي لمعاشر المجتهدين وفئام النُّظار، أنه لن يُستفرغ الوسعُ، ولن تُؤدى رسالةُ البلاغ، ولن تلامسَ الأرواح برْدَ اليقين؛ ما لم يكن العطاء المحاسني والإيحاء المقاصدي عضيدًا للألفاظ في ساحة مدلولاتها، وأنيسا للأقيسة في سماءات إلحاقاتها؛ يقولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه اللهُ- في (مجموع الفتاوى): “وَإِلَى سَاعَتِي هَذِهِ؛ مَا عَلِمْت قَوْلًا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدهِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَحَاسِن الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ وَالْعَدْلِ التَّامِّ”.

إنَّ هذا المشهد والذي يضرب فيه المددُ المحاسني بعمقٍ، ليسجلُ هذا التجلِّي أن يكون المكوِّن المحاسني حاضرا في ميادين العلوم وساحات الفنون الشَّرعية، ولياذننَّ أن يتبوئَ من مقعدها خير متكئٍ، وأن يتفيئَ من باسقها أوفر ظليليةٍ؛ فهو القادح لزناد المقايسات العليَّة، والناظم لجمعيَّة الدلالات اللفظيَّة، وهو الذي يتصدر جيدُه وينبض وريدُه، ويُلقي أسمال الحياة ويبعث إكسيرَ الخلود في شخوص تلك الفروع وطُوليات الأحكام المسبحة بكمال وجمال إرادة الربِّ الشرعية؛ يقولُ الشيخُ وَلِيُّ اللهِ الدِّهْلَوِيُّ -رحمه الله- في (حجة الله البالغة)، وهو يؤسس لعملقة

هذا الفنِّ النَّوراني: “هذا؛ وإنَّ أدقَّ الفنونِ الحديثيَّة بأسرِها عندي، وأعمقَها محتدًا، وأرفعَها منارًا، وأَوْلى العلومِ الشَّرْعِيَّة عن آخرها فيما أرى، وأعلاها منزلةً وأعظمها مقدارًا: هو علمُ أسرارِ الدِّين، الباحثُ عن حِكَمِ الأحكامِ ولمِّياتِها، وأسرارِ خواصِّ الأعمال ونِكاتِها؛ فهو -واللهِ- أحقُّ العلومِ بأنْ يَصْرِفَ فيه مَنْ أطاقَه نفائسَ الأوقات، ويتَّخذَه عُدَّةً لمعادِه بعدما فُرِضَ عليه من الطاعات؛ إذْ به يصيرُ الإنسانُ على بصيرةٍ فيما جاء به الشرع، وتكونُ نسبتُه بتلك الأخبارِ كنسبةِ صاحبِ العرُوضِ بدواوين الأشعار، أو صاحبِ المنطق ببراهين الحُكماء، أو صاحبِ النَّحْو بكلامِ العَرَبِ العَرْباء، أو صاحبِ أصولِ الفقه بتفاريعِ الفقهاء، وبه يأمنُ من أن يكونَ كحاطبِ ليل، أو كغائصِ سيل، أو يخبطَ خبطَ عشواء، أو يركبَ متنَ عمياء”.

ثم إنه -بعد وارق هذا الفَنَن- لم يلبث قلمُ الفكر الإسلامي، وفي وقت مبكِّرٍ من الولادة التدوينية: أن تمسَّ أناملُ الصَّنعة وأن تبحرَ سفائنُ الكَشف، عن ذلك الخِدر الطَّاهر والخِبء النَّادر والمشرع المورود؛ فأفصحَ لسانُ الحقيقة والمجازِ عن سُدَّة الإعجاز، وتطاوحت هامة العقلِ المبجَّل ساجدةً بين يدي إحكامات وإتقانات الوحي المنزَّل، وأمطرت زُبُرُ الأحكام وصُحُف التكليف غَيثًا غَدَقًا مُجَلَّلًا طبَقًا؛ حتى اخضَّرت أرواح النَّاظرين والمتدبِّرين، وَرَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيجٍ.

وفي هذا العمر الوليد من تاريخ التدوين الإسلامي، وفي قرنه الرَّابع الهجري، وهي طبقةٌ مبكرةٌ، ربما لم تشبَّ فيها بعضُ العلوم المركزيَّة؛ أطلَّ علمُ محاسن الشريعة، وأيُّ إطلالة كانت؟! فقد سُجِّل في هذا القرن عددٌ من مصادر ومدوَّنات هذا الفن التشريعي، ثم قدمت هذه المصادرُ مادة إثرائية رائدة، وكأنَّه عصر من عصور النَّهضة والنُّضوج العلمي؛ وقد كان من أقطاب هذا النَّتاج المبتكر والمفتخر:

– الإمام الحافظ العارف الزاهد، أبو عبد الله محمَّد بن علي بن الحسَن بن بشر الحَكيم التِّرمذي؛ صَاحب المصنَّفات الكبار في أُصول الدين ومعاني الحَديث، والذي عاش إلى حدود سَنة (320هـ)؛ وذلك في كتابه الذي مَزَعَ قرطاسةَ هذا الفنِّ: إثبات العِلل.

– ثمَّ أَبو زَيد أحمد بن سهل البَلْخِي؛ صاحب التَّصانيف المشهورة، وأحد كبار النَّظار والفلاسفة، والذي تُوفي سنة (322هـ)؛ وذلك من خلال أطروحته الفلسفية عن إعجاز التشريع، المسمَّاة: (الإبَانة عن علل الدِّيانة).

– ثم أبو الحَسَن مُحمد بن يُوسف العَامري النيسَابوري؛ عالم المنطق والفلسفة اليونانية، والذي تُوفي سنة (381هـ)؛ والذي قدَّم طرحا توليديًّا لمعاقد وفصول وأطروحات المادة المحاسنية، حتى قدَّم لنا بابا كان خليقا بكل مضارعة ومشاكلة، وإن تُحفظ على فكره العَقَدي، وهو باب: القَوْل فِي الشُّبَهَاتِ الَّتِي يَتَسَلَّقُ بها المُعَانِدُونَ للإسلام، وذلك في كتابه: الإعلام بمناقب الإسلَام.

– ثم محمَّد بن علي بن حسين بن مُوسى بن بابويه القُمي، المعرُوف بالشيخ الصَّدوق وبابن بابويه، من علماء الشِّيعة في القرن الرابع الهجري، والمدفون بالرَّي سنة (381هـ)؛ وذلك في مصنَّفه: علل الشرائع.

ثم بعد هذه الثَّورة التدوينية والدَّفق التصنيفي الكبير، والذي ربما توارى منه عن حركة الرصد التراثي بعضُ المخرجات؛ شهد هذا الحقلُ الشَّرعي فتورًا لافتًا، وأيُّ فتور كان؟! فقد توالت القرونُ المتطاولة، ونضجت المذاهب الفقهية، ولاحت أسرارُ الشريعة في أصول الأحكام وفروعها، وأينعت منها الثِّمار، واستقر على عرش التدوين جهابذة النظار وأساطين المفكرين؛ ولم تنبس شفةٌ، أو يخط يراعٌ، أو يُسود كاغدٌ، فيما بان من مطويَّات المطبوع والمخطوط؛ بل كانت رسومَ نقش لا يُرى منها إلا أطراف البنان، وإطلالة حييٍّ لا يبين منه إلا ذؤابة اللثام، وجرت بعد طيِّ هذه السنين مجرى اللمَامة من القَول، بعد أن كانت على أعواد منابر العلوم خطيبًا مصقعًا مفوهًا؛ فلم يُرَ فيما وُقف عليه، من المصنَّفات التراثية في محاسن الشريعة، والتي هي مستقلةٌ بذاتها في هذا الباب، بعد المائة الرَّابعة؛ إلا:

– كتاب (مَحَاسِن الإسلام)؛ لأبي عَبد الله مُحمد بْن عَبْد الرَّحْمَن بن أَحمد البُخاري الحُنفي، الواعظ المفسر المعروف بالزاهد، توفي في جمادي الآخرة سنة (546هـ).

– وكتاب (كشف الأسرار عما خفي عن الأفكار)؛ من تأليف العلامة شهاب الدين أحمد بن عماد الأقفهسي، الشَّافعي المعروف بابن العماد، تُوفي سنة (808هـ).

ومع هذه المفارقة الغريبة المتصدِّرة لهذا المشهد؛ فهو في قرنه الأول وبواكير نُشوئه ومخايل ولادته، يُسجل نشاطا مذهلا، يتعدَّى الحجم المتوقَّع لكتابة الأحرف الأولى في العُلوم المبتكَرة، ثم لم يمكث غيرَ بعيد إلا ويتهاوى هذا الشِّهاب من سماء الوجود، وتذوي أعذاقه الشَّامخات في جوف كل عنقود، ويتفرق جمعُه، ويدبر نُسَّاكه؛ وهو يقع من علوم الشَّريعة موقع الحسنة من الوجه الطَّاهر المشراقِ، ويقوم في سُوقها مقام المنافح المسدَّد المقدَام.

وقد كنتُ أُفاتح فضيلةَ شيخَنا العالم الجليل، الدكتور أحمد بن عبد الله بن حميد -حفظه الله- في ذلك، وكنَّا نُقلب أوجه الظنِّ في استكشاف السَّبب الذي يقف وراءَ هذا الانقطاع التأليفي المتطاول؛ ولعل مما يمكن تسجيله في هذه المقالة السَّببان التالية:

أولًا: أنَّ هذا الحقلَ مِن التَّصنيف الشَّرعي، قُدِّرَ له -في هذا العُمر المبكِّر- أنَّ أكثرَ من يطرقُه هم أصحاب العلوم الكلاميَّة والمناهج الفلسفيَّة، سواءٌ أكانوا معتزلةً أم صُوفِيَّةً أم شيعةً؛ وربما صدَّر هذا الاختصاصُ الاتِّفاقي بين أصحاب هذه المناهج انطباعًا تحفظيًّا على هذا المنحى التَّأليفي، وربما ظُنَّ به الافتئاتُ على أصول أو مسلَّمات النَّظر الشرعي في هذه المتعلَّقات التكليفية؛ هذا إذا ما ضَمَمْنَا إليه ذلك النَّهج التأسيسي والبنائي الذي تعيشه المذاهب الفقهية في هذه الفترةِ، وأنَّها كانت أمام متطلباتٍ من الوجودِ والبقاء ورسم خرائط العطاء والإنتاج الفقهي، ما كان كفيلاً بالانشغال عن ذلك الطَّرح المتقدِّم والثَّوري بالنسبة إلى هذه الفترةِ الحرجة من أعمار المذاهب الفقهيَّة؛ الأمر الذي جعل من هذا الحقلَ المحاسني أولويةً متأخرةً في هذه الروزنامة الفقهيَّة، خاصَّة وأنها قد تشوكَّت بهذا الطرح الفلسفي والكلامي، والذي ربما احتاج إلى عملياتٍ متضاعفةٍ من التَّنقيح والتَّسديد والمقاربة.

ثانيًا: وربَّما يجيب على استبقاء هذا الانصراف التَّأليفي عن محاسن الشريعة، حتَّى بعد تعدِّي هذه الأطوار المؤرِّقة من تكوِّن المذاهب الفقهيَّة، ووجود المساحات الواسعة والنِّزهة والقامات المتينة والمكينة من أوجه الإبداع والإثراء والفتح العلمي؛ وهو أنَّ الطَّريقة الاجتهاديَّة والأطروحة البنائيَّة التي انطلقت منها فكرة محاسن الشريعة وانقدحت عندها شرارتها الأولى، هي التزام القولِ بالتحسين والتقبيح العقليين، وهذا الالتزام سجَّلت أمامه المدرسةُ الأشعريَّة، والتي تمثِّل جمهورَ المذاهب الفقهيَّة المتَّبعة، موقفًا علميًّا عقيمًا من التَّعاطي مع هذه النظرية التَّشريعية، وذهبت منها مذهبَ التَّعطيل والإلغاء والتَّفريط، ولم تقدِّم الاتزان المتواجب في هذا المشتبه الاستدلالي؛ يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في (مفتاح دار السعادة): “وَكَذَلِكَ الإِمَام سعد بن علي الزنجانى بَالغ فِي إِنْكَاره على أبي الْحسن الأشعرى القَوْل بِنَفْي التحسين والتقبيح، وَأَنه لم يسْبقهُ إِلَيْهِ أحد، وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِم الرَّاغِب، وَكَذَلِكَ أَبُو عبد الله الحليمي، وخلائق لَا يُحصونَ؛ وكل من تكلم فِي علل الشَّرْع ومَحَاسِنه وَمَا تضمنه من الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد فَلَا يُمكنهُ ذَلِك إِلَّا بتقرير الْحسن والقبح العقليين… فَلَو تَسَاوَت الْأَوْصَاف فِي نَفسهَا لانسد بَاب الْقيَاس والمناسبات وَالتَّعْلِيل بالحكم والمصالح ومراعات الْأَوْصَاف المؤثرة دون الْأَوْصَاف الَّتِي لَا تَأْثِير لَهَا”.

إنَّ هذه المفارقة البحثيَّة في تاريخ التَّدوين في محاسن الشريعة؛ لتفتح آفاقًا واعدةً من الدِّراسات والتَّحقيقات التراثية، والتي تُنقِّب في الرَّصيد المخطُوط للأمَّة، بحثًا عما يمكن التبشيرُ به من مصنَّفات تسدُّ العوزَ العِلمي الذي يشوبُ هذا الحقل الشَّرعي الرَّائد، كما أنها تفتحُ أبوابًا مشرقةً أُخرى من الدِّراسات المنهجيَّة التي تؤطِّر عمليَّات توظيف وتفعيل المعطى المحاسني والمصالحي في الأحكام الجزئيَّة، بعيدًا عن هَلَكة الإفراط أو التفريط في نظرية التحسين والتقبيح العقليين؛ إنَّ مثل هذه الدِّراساتِ ونظائرها لتخفِّف على المجتمع المقاصدي والفروعي من وطئة عنوان هذه المقالة: محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق، وتُعيد ذلك المجدَ التَّليد لينطق شامخًا من جديد.

مقالات مشابهة

  • لماذا لم تنسحب إسرائيل من أراضي جنوب لبنان؟.. الإستراتيجي للفكر يجيب
  • هل يتألم أطفال غزة وهم يستشهدون.. ولماذا يسمح الله بمعاناتهم؟ شيخ الأزهر يجيب
  • هل يتألم أطفال غزة وهم يستشهدون .. ولماذا يسمح الله بمعاناتهم؟ شيخ الأزهر يجيب بمعرض الكتاب
  • هل يتألم أطفال غزة وهم يستشهدون ولماذا يسمح الله بمعاناتهم؟ الأزهر يجيب
  • مدح أحدهما السيد المسيح.. الكنيسة تحتفل بذكرى مريم ومرثا أختيّ لعازر الحبيب
  • الكنيسة الكاثوليكية: سياسات ترامب “قاسية وغير إنسانية”
  • هل هناك فضل للمتوفى إذا مات يوم الجمعة؟ الشيخ الماجد يجيب .. فيديو
  • لماذا يتلكأ الاحتلال في السماح لسكان الشمال بالعودة؟ محلل عسكري يجيب
  • محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق
  • شيخ الأزهر يجيب عن 31 سؤالًا للأطفال بمعرض الكتاب