تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في المشهد الأدبي العربي، يبدو عزت القمحاوي كاتبًا يمضي بعينين نصف مغمضتين، لا من غفلة، بل من دُربة. يعرف تمامًا كيف يُغمض عينًا عن الضجيج ليفتح الأخرى على ما يُهمّ: الكتابة بوصفها ضرورة. لا يلهث خلف الموضة الروائية، ولا يلهو بصوت مرتفع في سوق الأدب، بل يصغي إلى النص وهو يتشكل داخله، كما يُصغي النحات إلى الحجر قبل أن يضرب عليه بأزميل الرؤية.

 

ولد في الريف، لكنه لم يتركه تمامًا، حتى حين تنقّل بين العواصم الثقافية. حمله داخله كحكمة قديمة، كوشم لا يظهر إلا حين يتعرّى النص من زينته، فيبدو الطين هناك، دافئًا، يفيض بالحكايات والوجوه. في "بيت الديب" لا نقرأ رواية عن عائلة مصرية وحسب، بل نقرأ طبقات من الزمن، محمولة على ظهر سرد يعرف كيف يمضي عميقًا دون أن يتثاقل.

 

كتابة القمحاوي تنتمي إلى سلالة نادرة: تلك التي لا تخشى البطء، ولا تستعجل النهاية. لغته ليست للعرض، بل للبناء. جملة بعد جملة، كأنما يعيد اختراع النظر، لا الحكاية فقط. تتجاور عنده البساطة مع الفخامة، الريف مع الميتافيزيقا، البهجة مع الحداد. في "غرفة المسافرين"، مثلًا، يسافر دون أن يغادر، يكتب عن المدن والخرائط والفنادق، لكن المعنى الحقيقي للسفر يبقى داخليًا، مُحاطًا بالأسئلة لا بالإجابات.

 

عزت القمحاوي لا يكتب كثيرًا، لكنه حين يفعل، يزرع أثرًا. كلماته مشغولة بعناية صانع لا تعنيه الكثرة، بل الدقة. حتى حين يكتب عن الحواس في "الأيك في المباهج والأحزان"، فإنه لا يصف، بل يعيد بناء الحواس نفسها. كل صفحة تحمل دهشة، كما لو أن القارئ يتذوق اللمس، ويشمّ الصوت، ويرى الكلمات ككائنات حيّة تنمو أمامه.

هو كاتب لا يريد أن يُبهر، بل أن يبقى. ولهذا، ستجد أثره فيك بعد أن تطوي الصفحة، لا على الصفحة ذاتها.

 

في زمن السرعة، يختار القمحاوي البطء. في زمن النشر اليومي، يختار الصمت أحيانًا. وفي زمن التكرار، يكتب كما لو كانت الجملة الأولى في التاريخ.

 

وهو إذ يكتب بهذه السكينة الظاهرة، لا ينتمي إلى فصيلة الكُتّاب الذين يختبئون خلف الغموض، ولا أولئك الذين يستعرضون معجمهم ليرعبوا القارئ. عزت القمحاوي لا يعوّل على الدهشة السهلة، ولا يصنع المفاجآت الرخيصة، بل يبني نصّه كما تُبنى العلاقات العميقة: بالإنصات، بالتواطؤ، بالصمت المحسوب، وبالتكرار الحميم للجمال غير الصاخب.

 

من يقرأ له يدرك سريعًا أن الكاتب لا يبحث عن بطولة شخصية، بل عن إنقاذ اللغة من ابتذالها اليومي. هو لا يكتب ليثبت شيئًا، بل لأنه يحمل شيئًا يجب أن يُقال. حتى حين يكتب عن الحب، كما في "ذهب وزجاج"، فإن الحب لا يكون حكايةً عاطفيةً عابرة، بل اختبارًا للجسد والزمن والهوية، في مساحة لا تتسعها الرواية بمعناها التقليدي. يجعل من العلاقة بين رجل وامرأة لوحةً من النور والخذلان، من التذكّر والنسيان، ليصوغ عالمًا هشًا وشفافًا كما الزجاج، وثقيلًا كما الذهب في تأويله العاطفي.

 

والقمحاوي لا يتورّع عن طرح الأسئلة المؤرقة، لكنه لا يقدّم إجابات مباشرة. يضع القارئ أمام مرايا مشروخة، لا تعكس شكله، بل تلمّح إلى كينونته. في "يكفي أننا معًا"، لا يهتم ببنية الرواية التقليدية، بل يشرع في كتابة تتجاور فيها الفلسفة مع الشعر، والسرد مع التأمل، والممكن مع المستحيل. كأنه يخبر القارئ بأن الرواية لم تعد ملزمة بالشكل، بل بالعمق. بالإنصات للفراغ، لا بملئه.

 

ثمّة رهافة في مفرداته لا تشبه أي حساسية أخرى، رهافة تعود إلى شاعر لم يكتب القصيدة، بل تركها تتسلّل إلى نثره وتستقرّ هناك، متواريةً بين الفواصل والنقط. هو كاتب يفهم الإيقاع كما يفهم الموسيقي السكون بين نغمتين. لا يكتب ليملأ الصفحات، بل ليملأ الغياب. هذا ما يجعل كتابته قابلة لإعادة القراءة، لا لأنها مبهمة، بل لأنها مشبعة بما لا يُقال مرة واحدة.

أعماله تشبه المراكب الصغيرة التي لا يُدرك المرء أنها تحمل ذهبًا إلا حين يفرغها على الشاطئ. لا تطلق أبواقها، ولا تلوّح بالأعلام، بل تمضي بصبرٍ في النهر، تاركةً خلفها أثرًا خفيًا، لكنه لا يُمحى.

 

وعزت القمحاوي، في النهاية، كاتب يصنع من اللغة وطنًا مؤقتًا، ومن الحكاية نزهة بطيئة في غابة الذاكرة. كأن كل نصّ له، هو غرفة انتظار بين زمنين، بين قارئ وذاته، بين كاتب لا يريد شيئًا، وقارئ يبحث عن كل شيء.

فهل ثمة ما هو أصدق من هذا النوع من الكتابة؟

المصدر: البوابة نيوز

إقرأ أيضاً:

كاتب بريطاني يشيد بموقف البابا فرنسيس إزاء غزة.. منحنا قيادة أخلاقية

شدد الصحفي البريطاني أوين جونز على أن وفاة شخصيات عامة بارزة قد تُثير موجة من النفاق المُفرط، مشيرا إلى أن هذا ينطبق على البابا فرنسيس، الذي يُشيد به الآن قادة ووسائل إعلامية كانت "متواطئة في الشرور" التي أدانها، بما في ذلك العدوان الوحشي على قطاع غزة.

وأشار جونز في مقال نشرته صحيفة "الغارديان" وترجمته "عربي21"، إلى أن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الذي حرم العديد من المتقاعدين الضعفاء من دفعات وقود الشتاء قبل شنّ هجوم على إعانات الإعاقة، والذي من المتوقع أن يدفع ما يصل إلى 400 ألف بريطاني إلى براثن الفقر، قال إن "كان البابا فرنسيس بابا الفقراء والمُهمّشين والمنسيين".

ولفت الكاتب البريطاني إلى أن الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن الذي وصفه بأنه "مُمهد الطريق للهجوم الإسرائيلي الإبادي على غزة"، قال "لقد روّج... لإنهاء... المعاناة في جميع أنحاء العالم". 


وقال جونز إنه في الواقع، بدا أن مصير غزة شغل البابا طوال سنواته الأخيرة. ففي خطابه الأخير بمناسبة عيد الفصح، أدان "الموت والدمار" وما نتج عنه من "وضع إنساني مأساوي ومؤسف" - وهي عظة مؤثرة لم تغطها أي وسيلة إعلام غربية تقريبا. بل ستجد صعوبة في العثور على تغطية بارزة لأي من تصريحاته الشجاعة بشأن غزة، مثل: "هذه ليست حربا. هذا إرهاب". وفي آخر مقال نُشر له، جدد البابا دعمه للدولة الفلسطينية، معلنا: "صنع السلام يتطلب شجاعة، أكثر بكثير من الحرب". 

وأشار ستارمر إلى عمل البابا فرنسيس مع "المسيحيين حول العالم الذين يواجهون الحرب والمجاعة والاضطهاد والفقر". ومع ذلك، لم يشر إلى كيفية اتصال البابا بالكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في غزة يوميا لتقديم التضامن والصلاة - أو إلى خوفه المُحق على مجتمع مسيحي يواجه خطر الإبادة بعد أن عاش في غزة لأكثر من 1600 عام. 

وأضاف الكاتب أن الإسلاموفوبيا لعبت دورا محوريا في تجريد الحياة الفلسطينية من أي قيمة أو معنى. لكن هذا التجريد من الإنسانية يتجاوز الدين أيضا، لأنه لم يكن هناك غضب غربي يُذكر إزاء الهجوم الإسرائيلي على كنيسة القديس برفيريوس في غزة، أو الغارة الأخيرة على المستشفى المعمداني الأهلي العربي الأنجليكاني، أو مذبحة العديد من المسيحيين، من بينهم الأم المسنة وابنتها اللتان قُتلتا برصاص قناص إسرائيلي في كنيسة العائلة المقدسة عشية عيد الميلاد عام 2023. كانت تلك هي الكنيسة التي كان البابا يتصل بها كل يوم؛ وقد تعرضت مدرستها لهجوم من قبل الجيش الإسرائيلي في تموز/ يوليو الماضي. 

لم تكن بريطانيا متفرجة، حسب الكاتب. يشمل "الموت والدمار" الذي استنكره البابا القنابل التي أمطرت غزة من طائرات إف-35 - وبريطانيا تزودها بمكوناتها الأساسية.

في كتابه الأخير، أشار البابا إلى أنه "وفقا لبعض الخبراء، فإن ما يحدث في غزة له سمات الإبادة الجماعية". ولكن الحكومة البريطانية، وفقا لجونز، ترفض وصف أي فعل فاحش إسرائيلي بأنه "جريمة حرب" ــ تذكروا عندما وبخ مكتب رئاسة الوزراء وزير الخارجية ديفيد لامي لمجرد قوله إن إسرائيل انتهكت القانون الدولي. 

وقال الكاتب البريطاني إن عادة ما يُسيَّس رحيل الشخصيات العامة بطريقتين. ففي حالات مثل حالة مارغريت تاتشر، يُرسِّخ الموت الانقسامات السياسية، ويُعامل النقاد على أنهم غير لائقين وغير محترمين إذا لفتوا الانتباه إلى إرث مُريع. وإذا كان الموتى شخصيات محترمة خالفت الوضع الراهن خلال حياتهم، فإنهم يواجهون بدلا من ذلك تزييف آرائهم بعد وفاتهم.

كان هذا مصير نيلسون مانديلا، الذي أعلن عبارته الشهيرة: "نعلم جيدا أن حريتنا غير مكتملة بدون حرية الفلسطينيين". ومرة أخرى، يُخاطر أولئك الذين يُشيرون إلى المعتقدات الأصيلة للمتوفى بالتعرض للإدانة باعتبارهم يسعون إلى إحداث الانقسام في وقت الحزن، وفقا للمقال.

وعلى نحو مُنحرف، هناك شيء مُنعش تقريبا في صدق السياسية الأمريكية اليمينية المتطرفة مارجوري تايلور غرين، التي غرّدت، في إشارة ظاهرية إلى البابا: "شهدنا اليوم تحولات كبيرة في القيادات العالمية. الشر يُهزم بيد الله". يا له من أمر مُسيء بشكل مُدهش. ولكن كم هو أقل احتراما من الالتفاف حول جوهر معتقدات البابا ومواقفه الشجاعة، وتقديم عبارات مُبتذلة عامة؟  

وأضاف الكاتب أنه في الواقع، كان هذا هو سبب أهمية دور البابا. فالغربُ يُعاني من أشدِّ اعتداء على حرية التعبير منذ المكارثية في خمسينيات القرن الماضي، حيث يُحرمُ من يُعارضون الإبادة الجماعية الإسرائيلية من منابرهم، ويُهددون، ويُفصلون من وظائفهم، ويُطردون من الجامعات، ويُعتدى عليهم من قِبَل ضباط الشرطة، ويُعتقلون، ويُسجنون، بل ويُواجهون الآن الترحيل من دول مثل ألمانيا والولايات المتحدة. في هذه البيئة، كان البابا فرنسيس استثناء بارزا للقاعدة - ولا يُمكن إلغاء البابا. بل سعت النخب السياسية والإعلامية إلى تلميع سجله في الموت كما في الحياة - وهو ركيزة أخرى من ركائز استراتيجية القضاء على التدقيق والمساءلة عن هذه الجريمة ذات الأبعاد التاريخية. 


ولفت الكاتب إلى أن البابا كان استثنائيا حيث ندد بالرأسمالية المُتوحشة و"الاستعمار الجديد". ومع ذلك، كان مليئا بالتناقضات، حيث قدم قبولا أكبر لمجتمع المثليين مقارنة بأسلافه، بينما ندد بما أسماه "أيديولوجية النوع الاجتماعي" باعتبارها "أبشع خطر" في عصرنا. فالباباوات، في نهاية المطاف، ليسوا مسؤولين ديمقراطيا: "فنحن غير المؤمنين نعتقد أن اختيارهم تعسفي وليس إرادة الله".

وقال الكاتب إنه مثل أي شخصية قوية بدون تفويض ديمقراطي، فإن تعاطف البابا مع العدالة أو غير ذلك هو مسألة صدفة. والبابا الخيّر لا ينفي الحاجة إلى انتقاد الكنيسة الكاثوليكية، على سبيل المثال، لإساءة معاملة الأطفال ومعارضتها لمنع الحمل خلال جائحة فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز في أفريقيا. 

ولكن ما يهم هو هذا، على حد قول جونز، الذي لفت في ختام مقاله إلى أنه "في حال كنت تعتقد أن جريمة ضخمة تحدث أمام أعيننا، فعليك أن تتوقع من أي شخص يتمتع بالسلطة والنفوذ أن يتخذ موقفا. دع التاريخ يسجل أن هذا البابا اتخذ موقفا ضد إحدى أهوال عصرنا العظيمة". 

مقالات مشابهة

  • سامح قاسم يكتب | مجدي أحمد علي.. عينٌ على المدينة وقدمٌ في الحلم
  • سامح قاسم يكتب | ضي رحمي.. أن تترجم لتكون القصيدة قلبك الآخر
  • سامح قاسم يكتب | رنا التونسي.. شاعرة الحافة التي تنزف جمالًا
  • سامح قاسم يكتب | محمود الورداني.. صائد الخسارات النبيلة
  • كاتب بريطاني يشيد بموقف البابا فرنسيس إزاء غزة.. منحنا قيادة أخلاقية
  • أحمد عبد الوهاب يكتب: اللغة العربية بين العولمة والهوية "تحديات وحلول"
  • د.حماد عبدالله يكتب: (المقهى فى الحياة السياسية المصرية) !!
  • سوريا الشرع وترويض النمرة
  • كاتب إسرائيلي: نشطاء حقوق الإنسان لليهود فقط