سوق الشنيني... حرف وبضائع تراثية تقاوم الحداثة
تاريخ النشر: 24th, April 2025 GMT
يمتاز سوق الشنيني الذي يقع شمالي مدينة تعز القديمة باليمن في موازاة شارع الجمهورية، وتحديداً بين ثلاثة من أشهر أبواب المدينة هي؛ باب موسى، والباب الكبير، وباب المخلولة، بأنه أشهر أسواق المدينة وأقدمها، وهو يحافظ على طابعه التقليدي القديم الذي يقاوم كلّ موجات المدنيّة والحداثة في كلّ أرجائه، وهو ما يحرص على فعله أصحاب المحلات من خلال الحرص على عرض منتجات وسلع خاصة مصنوعة يدوياً، وتعكس التمسك بالتقاليد والتراث والتفرد بعرض منتجات خاصة لا تتواجد في أماكن أخرى.
يُرجع باحثون نشأة السوق إلى ما قبل مجيء السلطان الأيوبي توران شاه إلى اليمن عام 569 هجري، وازدهر في عهد الدولة الرسولية (626- 828 هجري). وقبل أربعة قرون كان السوق يفتح أبوابه يومَي الاثنين والخميس فحسب مثل عادة أسواق اليمن التقليدية التي تعمل أياماً محددة وتسمى بأسماء هذه الأيام، ثم تحوّل لاحقاً سوقاً دائماً خلال فترة الأئمة من بيت آل حميد الدين الذين حكموا اليمن بين عامَي 1918 و1962.
يحافظ السوق على نمط المحلات التجارية بشكلها الأول الذي بُنيت عليه من دون أن يطاولها أي تغيير، وأيضاً على طريقة عرض البضائع التي يوضع نصفُها داخل المحل ويُفرش نصفها الآخر أمامه داخل شوالات، ولا تزال معظم المحلات في السوق تتعامل بالكثير من الأوزان والأحجام القديمة، مثل القدح والثمنة ونصف الثمنة وربع الثمنة والأوقية.
ويستقبل السوق الزوار بروائح عطرية وبهارات مميزة، تعلَق في الذاكرة، وتُفصح عن هويته التاريخية الموغِلة في القِدم، باعتباره يحافظ على شكله القديم وبضائعه ومحلاته منذ عشرات السنين.
في مدخل السوق تفوح رائحة الجبن البلدي من محلات تقع على الجانبين، وتعرض جميع أنواع الجبن المصنوع محلياً بطرق بدائية وتقليدية، مثل العوشقي، والعرفي، والقاحزي، والهاملي، والضبابي، والقمهري، والكدحي، والعرفي، والقمهري، والعوب.
وحين يتجاوز الزوار بائعي الجبن البلدي تقعُ عيونهم على محلات وحوانيت تبيع جميع أنواع البهارات والبخور والعنبر والمنتجات الزراعية المحلية، مثل البُن والحلبة والحلقة والثوم والفول والفاصوليا، وأنواع الحبوب مثل الذرة والذرة الشامية والشعير إضافة إلى الوزف، وهو سمك سردين صغير ومجفّف.
ويوصف الوزف بأنه لحم الفقراء في اليمن، لذا يزداد الإقبال عليه من مختلف المحافظات، ولا يقتصر بيعه على المواطنين، بل يشمل شركات أجنبية تستخدمه عادة لتغذية الدواجن والجمال أثناء بيعه بسعر رخيص، لأنه يزيد إنتاج الحليب كونه ذا قيمة غذائية عالية.
تبيع محلاتٌ أيضاً العطارةَ والأعشاب الطبية التي لا يزال بعض كبار السّن في القرى يستخدمونها للتداوي من الأمراض، وأشهر هذه الأعشاب نبتة المرامية، وعين الديك، وعرق السوس، وزهرة البابوند، والشمار وغيرها، كما تتخصّص محلات في بيع أوانٍ فخارية مصنوعة من المدر، مثل الكيزان والفناجين والحَرِض، وتنور صناعة الخبز الذي يُعرف محلياً باسم مأفي، إضافة إلى البواري (رأس المداعة)، والمباخر وغيرها.
ويحتوي السوق على محلات قديمة للحدادة، خاصة بصناعة المستلزمات الزراعية لحراثة الأرض، مثل المحفر (المعول) والعطيف (الفأس) والمجارف والمضمد الخاص بحراثة الأرض باستخدام الثيران، إضافة إلى أدوات تستخدم في البناء مثل المطرقة والمفرص والشرنيم. وتتخصّص محلاتٌ ببيع التنباك (التبغ) والمدائع بكل مكوناتها من المداعة والقصبة التي تكون مزينة بغلاف من الخيوط المحاكة يدوياً، ومحلات أخرى لبيع الأدوات المصنوعة من سعف النخل، وحياكة المعاوز.
يقول أحمد الزغروري الذي يملك محل عطارة في السوق، لـ"العربي الجديد": "كان السوق في تسعينيات القرن العشرين قِبلة للسياح القادمين إلى تعز، وحصل انتعاش كبير في حركة السوق نتيجة الإقبال الكبير عليه، لكن بسبب الحرب والظروف التي أنتجتها، وأيضاً بسبب انتشار المحلات خارج السوق، انخفض الإقبال كثيراً، وحالياً معظم رواد السوق من أبناء الريف، خصوصاً الفلاحين وكبار السن الذين ارتبطوا روحياً بالمكان الذي ألفوه منذ طفولتهم، لكنه لا يزال يملك خصائص تميزه، إذ يحتوي على سلع ومنتجات لا يمكن إيجادها في أيّ أماكن أخرى خارج أسوار سوق الشنيني، مثل الأعشاب الطبية والمنتجات العطرية والمنتجات الفخارية، وهذا ما جعل السوق يواجه كل التحديات ويبقى قائماً، إضافة إلى تعلّق أصحاب المحلات هنا بمحلاتهم، كأنهم لا يستطيعون الحياة خارج هذا السوق".
المصدر: الموقع بوست
كلمات دلالية: اليمن تعز إضافة إلى الذی ی
إقرأ أيضاً:
صلاح بن البادية- سيرة رائد الحداثة الروحية في الأغنية السودانية
زهير عثمان
صوتٌ يرقص بين الروح والوطن
في فضاء الأغنية السودانية، حيث تتداخل الألحان الأفريقية مع الإيقاعات العربية، وتنحت الكلماتُ مشاعرَ الشعبِ بين ألمِ الحروبِ وبهجةِ الترابِ، يظلُّ اسم صلاح بن البادية علامةً فارقة. لم يكن مجردَ فنانٍ، بل كان ظاهرةً فنيةً جمعت بين العمقِ الروحيِّ والحداثةِ الفنيةِ، فخلقتْ لنفسها مسارًا خاصًا في ذاكرةِ السودانيين. رحلَ الجسدُ، لكن صوته ما زال يُردِّدُ في الأسماعِ: "سالَ من شعرِها الذهبُ... فتدلّى وما انسكبُ".
البدايات: من قرى الجزيرة إلى عرشِ الأغنيةِ
وُلد صلاح بن البادية في منطقة الدبيبة بولاية الجزيرة، حيثُ النيلُ ينسابُ بين الحقولِ الخضراءِ، وحيثُ تُورِقُ الأغاني الشعبيةُ كأشجارِ الطلحِ. نشأ في بيئةٍ تتنفسُ التصوفَ والمدائحَ النبويةَ، فتعلَّمَ من تراتيلِ الزوايا والصوفيةِ كيف تكون الموسيقى صلاةً. انتقلَ إلى أم درمان ليكملَ تعليمَه، وهناكَ بدأتْ موهبتهُ تتفجرُ بين جدرانِ المدارسِ والأحياءِ الشعبيةِ.
في ستينيات القرن الماضي، خطا أولى خطواته الفنية، حاملًا معه روحَ الريفِ السودانيِّ ونبضَ المدينةِ. لم يكن صوته مجردَ آلةٍ موسيقيةٍ، بل كان جسرًا بين التراثِ والحداثةِ، بين الفصحى والعاميةِ، بين الصوفيةِ والعاطفةِ الإنسانيةِ.
"سال من شعرها الذهب": حين يُولد اللحنُ من إيقاعِ القطارِ
لا يمكن ذكر صلاح بن البادية دون التوقف عند تحفته الخالدة "سال من شعرها الذهب"، التي كتبها الشاعرُ أبو آمنة حامد بلغةٍ فصيحةٍ نادرةٍ في الأغنية السودانية، ولحنها الموسيقارُ عبد اللطيف خضر الحاوي (ود الحاوي).
القصةُ التي حيكت حول اللحنِ تُجسِّدُ سحرَ الإبداعِ: في رحلةٍ بالقطارِ من بورتسودان إلى الخرطوم، استوحى ود الحاوي الإيقاعَ من دندنةِ عجلاتِ القطارِ، فسجلَّ اللحنَ على عجلٍ في منزل بن البادية فجرًا، خوفًا من أن يطيرَ الإلهامُ مع أولِ خيطِ شمسٍ.
الأغنيةُ، التي غناها بن البادية بصوتهِ الجهوريِّ الممزوجِ بالحنينِ، تحولت إلى أيقونةٍ. كلماتُها تصفُ جمالَ المرأةِ بلغةٍ شعريةٍ مدهشةٍ:
"سالَ من شعرِها الذهبُ... فتدلّى وما انسكبُ
كلما عبثتْ به نسمةٌ... ماجَ واضطربُ".
لكنها أيضًا كانت قصيدةً في حبِّ السودانِ، حيثُ الذهبُ رمزٌ لثراءِ الأرضِ، والنسيمُ إشارةٌ إلى شوقِ المغتربين.
الحداثة الروحية: حين يصيرُ الغناءُ ابتهالًا
تميز بن البادية بقدرتهِ على تحويلِ الأغنيةِ العاطفيةِ إلى تجربةٍ روحيةٍ. في أعمالٍ مثل "يا زهرة الروض الظليل" و"وا أسفاي"، مزجَ بين الغناءِ الصوفيِ والعاطفةِ الإنسانيةِ، فكان صوتهُ يُشبهُ الدعاءَ.
أسلوبُه اعتمد على:
الانتقاء الشعري الراقي: تعاون مع شعراء كبار مثل أبو آمنة حامد والتجاني حاج موسى، واختار قصائدَ تحملُ طبقاتٍ من المعنى.
التلحين الهادئ العميق: فضلَ الألحانَ التي تتنفسُ برويةٍ، كأنها تيارٌ نهرِيٌّ يلامسُ الشواطئَ.
الأداء المسرحيِّ الوقور: على المسرح، كان يرتدي الجلبابَ الأبيضَ، ويحركُ يديهِ كأنه يُناجي السماءَ.
أغنياتٌ صارت عيونًا: بصماتٌ لا تُنسى
من أبرز أعماله التي شكلت "عيون الأغنية السودانية":
"ليالي الخير": احتفاليةٌ بالأملِ، لحنٌ يرقصُ بين الفرحِ والطمأنينةِ.
"كسلا": قصيدةٌ في حبِّ المدينةِ، غناها وكأنها معشوقةٌ تستحقُ التمجيدَ.
"ردي النضارة": حوارٌ مع الذاتِ عن فقدانِ البراءةِ في زمنِ الحربِ.
في كلِّ أغنيةٍ، كان بن البادية يحفرُ في الذاكرةِ الجمعيةِ للسودانيينَ، ليتركَ نقشًا يقولُ: "هنا مرَّ فنانٌ رأى الجمالَ حتى في جراحِ الوطنِ".
الجدلُ الفنيُّ: عندما اختلفَ العمالقةُ
أثارتْ أغنيةُ "سال من شعرها الذهب" غضبَ الفنانِ الكبيرِ إبراهيم عوض، الذي اعتبر أن ود الحاوي كان يجب أن يمنحَ اللحنَ لهُ بعد تعاونهما الناجحِ في أغانٍ مثل "المصير". لكن التاريخَ أثبتَ أن اختيارَ ود الحاوي لبن البادية كانَ صائبًا، فقد حوّلَ الصوتُ القويُّ والروحُ التأمليةُ الأغنيةَ إلى تحفةٍ خالدةٍ.
الإرثُ: ما بعد الرحيلِ
رحل صلاح بن البادية تاركًا وراءه إرثًا غنائيًا يُدرسُ في كلياتِ الموسيقى، وصوتًا ما زالَ يُعيدُ للسودانيينَ ذكرياتِ زمنٍ كان الفنُّ فيهِ رسالةً وليسَ سلعةً. اليومَ، تُعيدُ الأجيالُ الجديدةُ اكتشافَ أغانيهِ، لا كتراثٍ فحسب، بل كدليلٍ على أن الفنَّ الحقيقيَّ لا يموتُ.
في زمنِ الانقساماتِ، يظلُّ بن البادية رمزًا لوحدةِ السودانِ الثقافيةِ، حيثُ لا فرقَ بين شمالٍ وجنوبٍ، إلا في تنوعِ الإيقاعاتِ التي تجتمعُ تحتَ سماءِ أغانيهِ.
النغمةُ التي صارتْ ترابًا
عندما يُذكر صلاح بن البادية، يُذكر السودانُ بكلِّ تناقضاتِه: جمالُ الأرضِ وقسوةُ الحروبِ، غنى الثقافةِ وفقرُ السياسةِ. كانَ صوتُه مرآةً لهذا التناقضِ، لكنه اختارَ أن يُغني للجمالِ رغمَ الجراحِ. اليومَ، وبعد رحيلِه، صارتْ أغانيهِ جزءًا من ترابِ السودانِ، تُنبِتُ كلما مرَّ عليها مطرُ الذاكرةِ.
رحم الله صلاح بن البادية، فقد كان نغمةً صادقةً في سماءِ الفنِّ السودانيِّ.
zuhair.osman@aol.com