يظن البعض أن السياحة قد تضررت بشدة في روسيا جراء حرب أوكرانيا التي بدأت في فبراير/شباط 2022، وإن كان هذا الأمر في جزء منه صحيح، فقد تأثر روسيا بشكل كبير خاصة في بدايات العام 2022 بسبب قيود جائحة فيروس كورونا وبدء الحرب، ولكنها بدأت تتعافى تدريجيا مع أواخر 2024، خصوصاً مع تراجع وتيرة الحرب وانتهاء الإجراءات الاحترازية المرتبطة بوباء كورونا.

روسيا هي أكبر بلد مساحة في العالم، وهي من البلاد التي ينبغي للسائح أن يضعها ضمن قائمته لخطط السفر، وحينما نتحدث عن السياحة فيها يجب أن نحدد أي منطقة نعني، فأراضي روسيا متباعدة ومترامية الأطراف، ومختلفة المناخ ومتنوعة الأعراق والقوميات، وبالتالي ينبغي ألا تُجمع البلاد في رحلة واحدة.

ورغم هذا كله، لا يسعنا في هذا الموضوع أن نتحدث عن السياحة في روسيا ككل، بل لا يسعنا أن نتحدث عن السياحة في أشهر مدنها حتى، بل سنسرد معلومات مهمة لا يسع السائح تركها عند زيارته لروسيا.

تعد موسكو وضواحيها هي الأساس من حيث السياحة في روسيا قبل اندلاع حرب أوكرانيا وبعدها، سنركز فيما يلي على بعض أهم الصعوبات التي قد يواجهها السائح بروسيا في ظل الحرب، ثم نقترح عددا من الحلول المجربة لتجاوز هذه المصاعب.

أحد أبرز الشوارع في وسط مدينة سانت بطرسبورغ التي يقصدها الزوار من داخل وخارج روسيا (شترستوك) صعوبات السفر عدم القدرة على تحويل الأموال عن طريق البنوك من خارج روسيا: أصبح تحويل الأموال إلى روسيا أكثر صعوبة بسبب العقوبات الدولية والقيود المالية التي تم فرضها بعد غزو روسيا لأوكرانيا، وتأثرت العديد من القنوات المصرفية التقليدية، وخاصة تلك التي تعتمد على نظام "سويفت، مما حدّ من إمكانية التحويلات المصرفية المباشرة.
نظام "سويفت" (جمعية الاتصالات المالية بين البنوك العالمية) هو نظام معترف به عالميا يستخدم للمعاملات المالية الآمنة بين البنوك، حيث يحدد كل بنك كود فريد لضمان وصول التحويلات إلى المستلم بدقة، وقد تم فصل العديد من البنوك الروسية عن شبكة سويفت كجزء من العقوبات الدولية عقب اندلاع الحرب، مما جعل من الصعب أو المستحيل معالجة التحويلات المالية الدولية إلى ومن هذه البنوك عبر سويفت.ويأثر هذا العامل بشكل مباشر على السياحة في روسيا خاصة على مستوى الشركات السياحية التي ترسل أو تستقبل أفواجا سياحية في روسيا. عدم القدرة على استخدام بطاقات البنوك الأجنبية سواء للسحب أو للشراء: لا يمكن للسائح استخدام بطاقة الصراف الآلي أو بطاقة الائتمان الأجنبية غير الروسية للسحب النقدي أو الشراء في روسيا، ويؤدي هذا إلى صعوبة في المعاملات المالية اليومية، ويضع السائح في ورطة كبيرة إذا نفد لديه النقد "الكاش"، فلا يمكنه سحب النقد من الصراف الآلي بأي حال من الأحوال رغم غنى رصيده.
لا يمكن للسائح استخدام بطاقة الصراف الآلي غير الروسية للسحب النقدي في روسيا (شترستوك) عدم القدرة على حجز الفنادق من المواقع العالمية الشهيرة مثل "بوكينغ" و "إير بي آند بي": ستظهر أمامك هذه المشكلة العويصة كأول مشكلة عندما تخطط للسفر إلى روسيا بعد أن فُرِضَت عقوبات دولية على روسيا بعد حربها مع أوكرانيا، ففي مارس/آذار 2022 أعلن موقع "بوكينغ" تعليق جميع خدماته في روسيا، مما منع المستخدمين من حجز الفنادق هناك عبر المنصة قبل أو بعد وجودهم في روسيا.وتعد هذه الصعوبة من أهم المعوقات الواجب ذكرها، إذ إن موقع "بوكينغ" هو الأشهر في العالم لحجز الفنادق لما يحتويه من أسعار وخيارات عديدة.

وفي مارس/آذار 2022 نفسه، أعلن الموقع الأشهر لحجز الشقق "إير بي آند بي" تعليق خدماته في روسيا أيضا، وهو ما جعل الكثير من السياح يجدون صعوبة في إيجاد خيارات إقامة بسهولة في هذا البلد.

أحد مناطق العاصمة الروسية ويظهر فيها في الوسط أحد الفنادق الفخمة في موسكو (شترستوك) تطبيق المواصلات الأشهر "أوبر": من أهم التطبيقات التي يستخدمها السائحون حول العالم للتنقل بسهولة ويعتمدون عليه كثيراً، ولكن هذا التطبيق لا يعمل للأسف في روسيا.يعتمد الكثير من المسافرين على هذا التطبيق من أول وصولهم إلى المطار إلى تدبير تحركاتهم اليومية، ويستغني العديدون عن فكرة استئجار سيارة خاصة أو حتى بسائق ويعتمد في المقابل على هذا التطبيق لسهولته وأمانه وسرعة استجابة سائقيه وأسعاره التنافسية. تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستغرام لا تعمل: ربما لن يكون هذا عائقا كبيرا بالنسبة للأفراد العاديين، ولكنه يبقى عائقا لا يمكن تجاوزه بالنسبة لصناع المحتوى والمشاهير الذي يعتمد عملهم على نشر فيديوهات وصور يومية، سواء عن السفر أو غيره من المحتوى اليومي. تطبيقات التواصل الاجتماعي المعروفة عالميا مثل فيسبوك وإنستغرام لا تعمل في روسيا (شترستوك) شرائح الهاتف الأجنبية تعمل بصعوبة شديدة: في بعض الأحيان تنقطع الشبكة نهائيا في بعض المناطق لمن يستخدم الشرائح غير الروسية، ويعملون بشرائح الهاتف في بلدانهم الأصلية بعد تفعيل خاصية التجوال. ورغم تفعيل خاصية التجوال ومهما كان لدى السائح باقة إنترنت قوية في بلده الأم أو بلد آخر، فإن هذا لا يعني أنها ستعمل جيداً في روسيا. معظم تطبيقات الهاتف الروسية المهمة لا تعمل إلا بالشريحة الروسية: من واقع تجربة شخصية، قمت بتفعيل أعلى باقة دولية لشريحة هاتفي النقال لأستخدمها في روسيا، ورغم ضعف الشبكة إلا أن الشريحة كانت تعمل إلى حد ما من ناحية الاتصالات والانترنت ولكن، الشيء الذي لم يعمل قط هو تطبيقات الهاتف الروسية الهامة التي تقدم خدمات المواصلات والخرائط وطلبات توصيل الطعام وقد كنت بحاجة ماسة لها، فهذه التطبيقات تعتمد اعتماداً كلياً على الشرائح الروسية فقط. غياب معظم ماركات الموضة والملابس والمطاعم العالمية المعروفة: أغلقت العديد من الماركات العالمية الخاصة بمحلات الملابس والموضة فروعها في روسيا بعد الحرب الأوكرانية مثل أديداس ونايكي وزارا، وكذلك أشهر سلاسل المطاعم العالمية مثل "ماكدونالدز وستاربكس وبرغر كينغ".
غياب هذه الماركات يؤثر على السائحين من محبي العلامات التجارية المعروفة والمهتمين بالتسوق وخاصة السيدات، ولكن الحريصون على جودة المنتج سيجدون في روسيا بديلا لكل شيء تقريباً سنذكره لاحقا.

العديد من ماركات الملابس العالمية انسحبت من السوق الروسية لتحل محلها علامات محلية (شترستوك) تقلص أعداد الرحلات الجوية المتجهة لروسيا خصوصاً من أوروبا وأميركا: بعد شن روسيا الحرب على أوكرانيا، شهد قطاع الطيران تغييرات كبيرة أثرت على الرحلات الجوية المتجهة إلى روسيا، إذ فرضت فيها العديد من الدول الغربية حظرا على الرحلات الجوية القادمة والمتجهة إلى روسيا.بالإضافة إلى ذلك، قامت روسيا بحظر الرحلات الجوية من عدة دول أوروبية، مما أثر على حركة الطيران الدولية، فأدت هذه الإجراءات إلى إعادة تشكيل خريطة الطيران العالمية، حيث اضطرت شركات الطيران إلى تعديل مساراتها لتجنب المجالات الجوية المحظورة، مما زاد من مدة وتكلفة العديد من الرحلات.
جانب من مطار شيريميتييفو الدولي بضواحي موسكو (شترستوك) خاصية تحديد المواقع الجغرافية في تطبيق "واتساب" غير دقيقة: بسبب التشويش الروسي على نظام تحديد المواقع الجغرافية الأميركي "جي بي إس" لأسباب أمنية، لا يعمل هذا النظام في "واتساب" بشكل دقيق، وأحيانا بل لا يعمل إطلاقا.
يؤثر هذا وبشكل كبير على حياة السائح اليومية، فلقد أصبحت خاصية إرسال الموقع من أهم الأشياء التي يستعملها الأفراد يومياً فيما بينهم، وخاصة في السفر. بديل العوائق


1-الاحتفاظ باحتياط كاف من الدولار:
للتغلب على مشكلة عدم إمكانية تحويل الأموال من البنوك الأجنبية للبنوك الروسية، عليك بأخذ مبلغ كاف من الدولار عند السفر إلى روسيا وتحويله هناك إلى الروبل الروسي عند الوصول. وإذا نفد مخزونكم من الدولار في أسوأ الأحوال، فيمكنكم حينئذ تحويل مبلغ المال المراد استخدامه في روسيا (على سبيل المثال ألف ريال قطري) من حسابكم البنكي في قطر إلى حساب أحد الوسطاء الذين يمتلكون حساب بنكي في قطر ويعيشون في روسيا في الوقت نفسه، ولديه طبعا حساب بنكي محلي في روسيا.

العقوبات الغربية على البنوك الروسية تستلزم مما يزور روسيا من الخارج التحوط بأخذ مبلغ كاف من الدولار نقدا (الفرنسية)

وسيقوم هذا الشخص الوسيط بسحب ما يعادل ألف ريال قطري (274 دولار) من حسابه الروسي ويعطيها لك بعد أخذ عمولته، ولكن لا ننصح بالاعتماد على هذه الوسيلة إلا إذا كانت مضمونة، وفي هذه الحالة فإن هذا الوسيط سيأخذ عمولة كبيرة قد تصل إلى 25% من المبلغ الأصلي.

2- فتح حساب بنكي محلي: إذا كان لديكم مبلغ كبير من النقد وتخافون عليه من الضياع أو السرقة، فعليكم أخذ مبلغ كاف من الدولار ثم تحويله للعملة الروسية عند الوصول، ثم الذهاب لبنك محلي لفتح حساب واستخراج بطاقة صراف آلي لتمكنك من الشراء داخل روسيا فقط.

وأما إذا تبقى لديك المزيد من المال المدخر في الحساب عند العودة إلى الوطن، فيمكنك استرجاعه على هيئة دولار، مع الأخذ في الاعتبار سعر التحويل وعمولة البنك.

فرع أحد البنوك الروسية في العاصمة موسكو (الأوروبية)

3- الإقامة: لحل مشكلة حجز الإقامة في روسيا فإن أمامك الخيارات الآتية: أولا التواصل مع الفنادق مباشرة عن طريق البريد الإلكتروني أو الهاتف أو مع شركات سياحية روسية لحجز فندقك، وثانيا استخدام مواقع روسية بديلة لحجز الفنادق والشقق الفندقية مثل "زن أوتلز" (Zenhotels) أو "أوزتروفوك" (Ostrovok).

4- تطبيقات بديلة:
أهم التطبيقات البديلة التي لا غنى عنها ما يلي: "يانديكس غو" (YANDEX GO) وهو بديل عن أوبر للمواصلات، و"يانديكس مابس" (YANDEX MAPS) بديلا عن غوغل مابس، و"يانديكس إيت" (Yandex Eats) لتوصيل الطعام. جميع هذه التطبيقات تعمل بكفاءة عالية وبطريقة مشابهة للتطبيقات المشهورة عالميا.

إعلان

5- استخدام "في بي إن" (VPN) قوي: لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي العالمية المعروفة مثل "فيسبوك وانستغرام ويوتيوب"، عليكم باستخدام خاصية "في بي إن" (VPN) للتغلب على حجب المواقع، ومع ذلك لا تعمل هذه الخاصية بكفاءة في جميع الأحيان.

6- شراء شريحة روسية: سيكون من الضروري عند السفر إلى روسيا الاعتماد على الباقات الدولية المفعلة من البلد الأم لشرائح الهاتف المحمول، وشراء شريحة محلية لاستخدامها في الاتصالات والإنترنت وتفعيل تطبيقات الهواتف الذكية.

7- المطاعم ومتاجر الملابس: من تطبيقات الهاتف لتوصيل الطعام إلى المطاعم والمقاهي ومحلات الملابس، ستجدون بديلا روسياً لكل ماركة غربية تقريبا، وهي ذات جودة عالية وربما تفوق جودة الماركات العالمية أحيانا.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات السیاحة فی روسیا الرحلات الجویة إلى روسیا العدید من لا تعمل

إقرأ أيضاً:

أحمد عبد الوهاب يكتب: اللغة العربية بين العولمة والهوية "تحديات وحلول"

ذات يوم، دُعيتُ إلى الغداء في أحد المطاعم العربية الشهيرة. استوقفني على الطاولة المجاورة مشهدٌ لعائلة عربية تتحدث اللغة الإنجليزية، تتخللها بعض الكلمات العربية الواضحة. 
قال أحد الأطفال لوالدته بالإنجليزية: "Mom، can I please have some sweets?" 
ابتسمت الأم وردت كذلك بالإنجليزية: "Wait، habibi، after lunch."  

رغم عملي في مؤسسة تعليمية أجنبية، أثار هذا المشهد تساؤلاتٍ: لماذا تُفضَّل الإنجليزية داخل أسرة عربية، داخل مطعم عربي دون ضرورة واضحة؟ وإلى أي مدى يؤثر هذا النمط اللغوي على انتماء الأبناء وهويتهم الثقافية؟

اللغة بين التحدي والانتماء

تشير التجارب الميدانية إلى أن غالبية الأطفال العرب في المدارس الأجنبية في مصر ودول الخليج يفضلون الحديث بالإنجليزية في حياتهم اليومية. ومع هيمنة المحتوى الرقمي الأجنبي، أصبحت الإنجليزية جزءًا من نسيج يومهم، أحيانًا على حساب لغتهم الأم. لكن المشكلة أعمق من ذلك؛ فاللغة ليست  مجرد وسيلة تواصل، بل وعاء للفكر والثقافة والهوية، ومفتاح لفهم الذات والآخر.

 

اكتساب اللغة... لا مجرد تعلمها

لسنا بحاجة إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية كمادة دراسية جامدة، بل إلى أن يكتسبوها كما يكتسب الطفل لغته الأولى: بالتعرّض الطبيعي، والمشاركة، والتفاعل. فالاكتساب لا يبدأ من السبورة، بل من الحياة. وكثير من أبنائنا العرب في المدارس الأجنبية – رغم خلفياتهم – يُعاملون كمتعلمين للغة لا كمكتسبين لها، وكأن اللغة غريبة عنهم، لا امتداد لهويتهم. ولكي تصبح العربية حيّة في وجدانهم، لا بد أن تعيش في تفاصيل يومهم: أن يتنفسوها لا يحفظوها، أن يتذوقوها في المسرحيات، يستخدموها في الألعاب، ويعبّروا بها عن أفكارهم ومشاعرهم. حينها، تتحوّل العربية من "مادة دراسية"... إلى "أسلوب حياة".

الأسرة: الحاضنة الأولى للغة 

يظن بعض الآباء – خطأً – أن الحديث مع أبنائهم بلغة أجنبية دليل على الرقي الثقافي ووسيلة لدعم مستقبلهم الأكاديمي. ويواكب هذا الاعتقاد عزوف متزايد من الأطفال عن المحتوى العربي، الذي يفتقر في كثير من الأحيان إلى التشويق والخيال مقارنةً بما تعرضه اللغات الأخرى. غير أن الأسرة تبقى المؤسسة اللغوية الأولى، والحاضنة الأصيلة لهوية الطفل. عندما يُستبدل الحديث في البيت بلغة أجنبية، فكأننا نهمس للطفل: "لغتك الأم ليست أولوية"، وهنا تبدأ الفجوة في الاتساع، وتضعف الصلة باللغة تدريجيًا. لذا، علينا أن نعيد توعية الأهل بأهمية لغتهم، ونرشدهم إلى سبل عملية تعزز استخدامها في البيت: مثل القراءة المشتركة، واللعب، والأناشيد، والبرامج المشوقة بالعربية. فالعربية ليست مجرد لغة، بل نبض وهوية. ويبدأ اكتسابها حين تصبح جزءًا من حياة الطفل اليومية: من دفء البيت، وحكايات الجدات، وأغاني الطفولة.

 

المعلم: قدوة لغوية داخل الصف

كم من معلّمٍ كان سببًا في تعلّقنا بلغةٍ أو مادة؟ فالمعلم ليس ناقلًا للمعلومة فحسب، بل قدوة حيّة تعكس جمال اللغة وأصالتها. وحين يُتقن أداءه ويمنحه شيئًا من الشغف والإحساس، تتحوّل اللغة العربية في أعين طلابه من "واجب" إلى "رغبة"، ومن "مادة دراسية" إلى "شغف يومي".
من هنا تأتي أهمية تمكين المعلمين وتدريبهم على أساليب تفاعلية حديثة تُحبّبهم في اللغة، وتربطهم بها وجدانًا وفكرًا.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل التحديات الواقعية: فكثرة المهام الإدارية والصفية الملقاة على كاهل معلمي اللغة العربية كثيرًا ما تعيقهم عن تقديم حصة متميزة بشكل مستمر.
لذا، فإن إعادة النظر في عدد الحصص، وتخصيص وقت كافٍ للتحضير والإبداع، لم يعد ترفًا، بل ضرورة لتعليمٍ حيّ، عميق، مبدع.

المجتمع: بيئة داعمة أو منفّرة

كي يتحقّق الاكتساب الحقيقي للغة، لا بد من بيئة عربية نابضة تُجسّد حضور اللغة في تفاصيل الحياة اليومية في اللافتات، ووسائل النقل، والمرافق العامة.

 وتُعدّ المؤسسات الثقافية – مثل قصور الثقافة، أندية القراءة، ومنصات الخطابة – ركائز أساسية في بناء الوعي اللغوي والثقافي لدى الناشئة.  غير أن تفعيل هذه المؤسسات بفعالية يتطلّب أنشطة موجهة للأطفال واليافعين، تراعي اهتماماتهم وأعمارهم، وتُقدَّم بلغة فصيحة جذابة تدمج بين المتعة والمعرفة.  ويمكن لعروض الأفلام العربية الراقية، تليها أنشطة مثل النقاش، التمثيل، أو إعادة الكتابة، أن تُسهم في هذا المسار. ومن الضروري أن تتحوّل هذه المؤسسات إلى فضاءات حيّة لا تشجع فقط على القراءة ولكن كذلك على التفكير النقدي، والكتابة الإبداعية، والتعبير عن الذات. حينها، تصبح هذه المرافق منصات حياة تنبض باللغة والانتماء، لا مجرد فضاءات ثقافية مقيدة.

 

 

 

الإعلام... كلمة السر 

الإعلام الرقمي العربي، لا سيما الموجّه للأطفال واليافعين، يتحمّل اليوم مسؤولية كبيرة في تشكيل الذائقة اللغوية. غير أن المحتوى المتوفّر غالبًا ما يكون محدودًا، أو ضعيف الجاذبية. نحتاج محتوى عربيًا يواكب عقل الجيل الرقمي، ويحترم ذكاءه، ويخاطبه بلغة متوازنة تجمع بين الفصاحة والحداثة، والعمق والجاذبية.

أدوات الذكاء الاصطناعي واللغة العربية 

وفي هذا الإطار، يشكّل الذكاء الاصطناعي – مثل ChatGPT – فرصة ثمينة لدعم تعلّم اللغة العربية بأساليب تفاعلية حديثة تناسب طلاب اليوم. لكن ينبغي التعامل مع هذه الأدوات بوعي تربوي وثقافي، فهي رغم قدراتها، لم تُصمَّم في بيئة عربية، وبالتالي فهي بحاجة إلى توجيه دقيق ومراجعة نقدية.
إن مسؤوليتنا الجماعية اليوم هي أن نُسهم في برمجة مستقبل لغتنا وهويتنا الرقمية، لا أن نكتفي بالاستهلاك الخاضع لمعادلات الآخرين.

 

من رياض الأطفال إلى البحث العلمي: نحو سياسة لغوية عربية شاملة

لا ينبغي أن يبقى دعم اللغة العربية حبيس المبادرات الفردية أو الموسمية، بل لا بد من تبني سياسة لغوية شاملة ومستدامة، تُترجم إلى قرارات واضحة تعزّز مكانة العربية في التعليم، والتواصل، والإنتاج المعرفي.
ويُعدّ قرار إلزام المدارس الخاصة في دبي والشارقة بتعليم العربية في مرحلة رياض الأطفال نموذجًا رائدًا لهذا التوجه؛ إذ يبدأ من العام الدراسي المقبل في الإمارتين تطبيق تأسيس لغوي مكثف يشمل جميع الأطفال، بصرف النظر عن لغتهم الأم. وهذه خطوة كبيرة للغاية لتمكين العربية بين أجيالنا سيظهر أثرها في السنوات القادمة. وهنا لا بد من توجيه الشكر لهيئة المعرفة والتنمية البشرية في دبي، وهيئة الشارقة للتعليم الخاص، على جهودهما الرائدة في هذا المجال. حيث نلاحظ فلسفتهم الجديدة إلى تبنّي رؤية تطويرية شاملة لتعليم اللغة العربية، تشمل دعم المعلمين، ومتابعة الأنشطة الثقافية والتراثية المتنوعة داخل المدارس. هذا التوجه الجديد يعكس قناعة عميقة بأن النهوض باللغة لا يتحقق بالرقابة فقط، بل بالشراكة الفاعلة، والرؤية الاستراتيجية، والمتابعة المستمرة. ويبدو جليًا أن هذا النموذج في طريقه إلى أن يشكّل توجهًا وطنيًا شاملً داخل الإمارات بالكامل. وأرجو أن يمتد ليكون أساسًا لتجربة لغوية عربية رائدة في عموم الوطن العربي.

 


وكما أن غرس اللغة في وجدان الطفل هو أول الطريق، فإن ترسيخها في عقل الباحث يمثل نقطة الذروة.
لذا، يجب أن تشمل السياسة اللغوية منظومة البحث العلمي والتعليم العالي، عبر خطوات عملية، منها:

إلزام المجلات العلمية بنشر ملخصات عربية للأبحاث المكتوبة بلغةٍ أجنبيةٍ.تشجيع الباحثين على الكتابة بالعربية.إنشاء مراكز للترجمة العلمية.تعزيز الشراكات بين الجامعات ومجامع اللغة.إدراج مهارات الكتابة الأكاديمية باللغة العربية ضمن مناهج ضمن الدراسات العليا. 

وبهذا النهج، تتحوّل العربية إلى لغة إنتاج معرفي لا حفظ تراث فقط، وتستعيد دورها الحضاري في العلم والفكر. ولنا في إرثنا ما يُلهم، وفي تجاربنا الراهنة ما يُبشّر بانطلاقة جديدة تبدأ من الحرف الأول، وتمتد إلى آفاق الابتكار.

 

نماذج مضيئة: مبادرات تُحتذى

رغم التحديات التي تواجه اللغة العربية في العصر الرقمي، هناك مبادرات تُضيء الطريق، وتمنحنا أملًا حقيقيًا في استعادة حضورها. منها:

مبادرة "كلّمني عربي "لأبناء المصريين في الخارج.مشروع "القراءة في المرافق الحيوية "برعاية مركز أبوظبي للغة العربية.مبادرة "بالعربي" بدبي  التي تحتفي باللغة على المنصات الاجتماعية.

هذه النماذج تفتح آفاقًا جديدة لحضور العربية في الحياة اليومية، وتُثبت أن العمل الثقافي المؤسسي قادر على إحياء اللغة في الوجدان العام. لكنها لن  تزدهر إلا بتكامل الجهود، وتفعيل الدعم المجتمعي والرسمي. وحسبنا أنها تمثل بدايات واعدة، فكما تُنبئ قطرات الغيث الأولى بالمطر، تُبشّر هذه المبادرات بمستقبل لغوي أكثر إشراقًا وتأثيرًا.

 

بين الهوية والانفتاح: التوازن الذكي

تعلّم اللغات والانفتاح على الثقافات ضرورة، لكن دون أن نتنازل عن جذورنا.
العربية هي الأصل الذي ننطلق منه نحو العالم، لا العكس. تأمّلوا تجربة ألمانيا أو فرنسا: تتقن شعوبها الإنجليزية، لكنها لا تضعها فوق لغتها الأم. ذلك هو التوازن الذكي الذي نطمح إليه: أن ننفتح... دون أ ننسى من نحن.

في زمن العولمة، تبقى العربية قلب هويتنا النابض، وجسرنا نحو الماضي والمستقبل.
اجعلوها حاضرة في منازلكم، نابضة في مدارسكم، مرئية في شوارعكم، وفعالة في فضاءاتكم الرقمية.
حين نحترم لغتنا، نمنح أبناءنا جذورًا قوية تعينهم على الطيران عاليًا دون أن يفقدوا الاتجاه. إلى كل ولي أمر، ومعلم، وإعلامي، وصانع محتوىٍ: لغتنا ليست فقط ما كنّا... بل ما يمكن أن نكون.
لغتنا... هويتنا... مسؤوليتنا جميعًا.

مقالات مشابهة

  • أهم التهديدات التي تواجه الأمن القومي المصري.. ندوة بجامعة الملك سلمان الدولية
  • أحمد عبد الوهاب يكتب: اللغة العربية بين العولمة والهوية "تحديات وحلول"
  • فوز بنك ظفار بجائزة "أسرع البنوك نموًا من حيث شبكة الفروع"
  • التقرير الاقتصادي الفصلي لبنك عوده: تعدّد التحدّيات الاقتصاديّة التي تواجه العهد الجديد
  • الشرع يتحدث عن أبرز 3 تحديات في المرحلة الانتقالية
  • الرئيس التنفيذي لبنك التصدير والاستيراد يؤكد أهمية البنوك المتخصصة في تعزيز كفاءة منظومة التصدير العالمية
  • تحديات تواجه امتحانات الإعدادية.. ماذا لو عجزت بعض المديريات عن توفير البوكليت؟
  • مراسلة سانا: وزير السياحة السيد مازن الصالحاني يفتتح فندق “رويال ‏سميراميس” بسويّة 5 نجوم في دمشق بعد إعادة تأهيله وفق أحدث معايير الضيافة العالمية، ‏وذلك بحضور وزيري النقل الدكتور يعرب بدر والاتصالات والتقانة السيد عبد السلام ‏هيكل ومحافظ دمش
  • الموارد المائية تضع خطة لمواجهة تحديات الشحِّ المائي التي ستواجه البلاد خلال الصيف