يقترب معرض مسقط الدولي للكتاب فـي نسخته التاسعة والعشرين من الانطلاق، ولم يتبق سوى ساعات قلائل، وينشر القراء مطويات السنة التي دونوا فـيها الكتب التي يريدون ابتياعها من سوق الكتب ومهرجان الثقافة الأبرز والأجمل الذي ينتظره الجميع بشغف وترقب.
لكن تجارب المعارض السابقة، وتجارب شراء الكتب فـي عمومها، تعلمنا أن نتنبه حين نختار كتابنا القادم ودار النشر التي نتعامل معها، وسعر الكتاب، وهنا سأسرد تجربتي فـي هذا الجانب الذي علمني عدة أمور أحاول جاهدًا تجنبها فـي هذا المعرض.
قبل عامين، كنت متحمسًا لشراء مجموعة معينة من الكتب الضخمة والموسوعية، من قبيل تلك التي تعد من أمهات الكتب ومن أعمدة الأدب والعربية. وفـي الحيدث الشريف -وإن كانوا يعدونه ضعيفًا، إلا أن معناه جليل دقيق- قال - : «حُبُّكَ الشيءَ يُعْمِي ويُصِمُّ». فجاء المعرض المنتظر حينها، ودخلته دخول المسحور المتلهف ليروي روحه من معين الكتب العذب، وانطلقت أبحث عن أمهات الكتب دون أن ألتفت إلى أهمية أن أتروى وأبحث عن محققي تلك الكتب.
بحثت عن دار نشر معينة اشتهرت بطباعة هذا النوع من الكتب، فمن دواوين الشعراء إلى كتب الأدب والبلاغة والأخبار إلى كتب التراث التي لا يستغني عنها قارئ للثقافة العربية، ولا مؤلف ناطق وكاتب بها. وجدت الدار ، وحقا كنت كالأعمى وأنا أكدس الكتب فرحا بحصولي على هذه الفرائد والنفائس وبهجةً بما وجدت. ابتعت تلك الكومة الكبيرة وخرجت من المعرض وكأنني حزت الدنيا بما فـيها، ومع اشتغالي فـي حينها، لم أتمكن من فتح جميع تلك الكتب وتصفحها، فكيف يفتح الكنز من انتظره بشدة؟ إنه يتأمله ويبتهج برؤيته والنظر إليه كل يوم، ففـي تحقيق المراد لذة قد تكون أكبر من ذات المراد.
بدأت القراءة فـي تلك الكتب، فإذا بي أتعلم الدرس المر؛ لا تشتر كتابا تراثيا بناء على دار النشر التي نشرته وطبعته، بل اختر محقق الكتاب قبل أن تختار الدار والكتاب ذاته. فقد وجدت الجاحظ الذي فـي تلك الكتب، غير الجاحظ الذي أعرف!؛ وكأن جاحِظَ عبدالسلام هارون غير جاحِظِ الدار التي ابتعت منها كتابي!. وهكذا دواليك فـي كتاب العمدة لابن رشيق ومحاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني، والمفضليات وغيرها.
لكن السخرية الحقيقية كانت حين فتحت قاموس جمهرة اللغة للعماني الكبير ابن دريد؛ فلم يكن هذا الكتاب مطبوعا كما تطبع الكتب الصالحة للقراءة، بل كان مصورا بتصوير رديء تم تغليفه بغلاف قشيب جميل. وهنا كان الدرس الثاني، لا تشتر كتابا لم تفتحه وتتصفحه فـي حينه، كي لا تذهب نفسك حسرات على الدرة التي تضطر أن تنتظر سنة أخرى ومعرضا آخر لتحصل عليها.
لم تكن الدروس التي تعلمتها من كتب التراث كافـية، فقد بحثت عن كتب مترجمة وأخرى حديثة لأبتاعها من الناشر مباشرة ولا أفوت فرصة الحصول عليها أو أضطر للانتظار. بحثت عن رواية معينة تتقاطع أفكارها مع ما يحدث منذ سنتين فـي غزة وفـي العالم، فوقعت على الرواية عند دار نشر كنت أحترمها بشدة، واشتريت الكتاب مسرعا، نظرا لما تتمع به تلك الدار من شهرة وسمعة وصيت فـي الترجمة والنشر. فكان الدرس الثالث بانتظاري، لا تشتر كتابًا مترجمًا إلا بعد أن تبحث عن الترجمة الأفضل له. فحال الترجمة كحال تحقيق التراث؛ يلعب المترجم والمحقق فـيهما دورًا يضاهي دور المؤلف الأصلي بل قد يفوقه من حيث المشقة والدقة وإيصال المعلومة والكلام إلى القارئ.
وهو ما وجدته فـي تلك الرواية التي شعرت أن برنامجا من برامج الذكاء الاصطناعي كان سيعطي ترجمة أفضل من تلك المطبوعة بين غلافـين وقُدِّمَت كما لو أنها الطبعة الأحسن والأجود لتلك الرواية. والدرس الرابع ألا أعتمد على صيت دار النشر وأتكئ على سمعتها فـي الثقة بما تطبع وتنشر حتى فـي الكتب المترجمة.
يحدث أن يحب المرء كتابا لمؤلف ما، سواء أكان عربيًا أو غيره؛ ويتقصى كتبه ويجمعها ويشتريها طمعًا فـي قراءتها يومًا. ولكن الكاتب والمؤلف إنسان يجري عليه ما يجري على الناس من محاسن ومساوئ؛ فقد يؤلف الشيء الفاخر الذي لا يُضاهى، وقد يؤلف الغث الذي لا يجرؤ امرؤ سوي على قراءته. وهو ما حصل لي حين ابتعت كتبًا لفـيلسوف فرنسي قرأت له سابقًا ما وجدت فـيه فائدة ونظرة مختلفة.
ولكن الطامة حين فتحت ذلك الكتاب الذي اشتريته بغشاوة الكتب السابقة، وحين فتحته وشرعت أقرؤه؛ لم أستطع أن أقرأ أكثر فكأن الكاتب نصّب نفسه ملكًا فـي ذلك الكتاب، ولكنه ملك الدناءة والحقارة لما احتواه الكتاب من قذارة لا تصلح لأن ينفق العالم من حبره فـي كتابتها، فكيف بكتاب مطبوع؟. وهنا درس آخر، لا تشتر كتابا بناء على إعجابك بمؤلف سابق، اشتر الكتاب بعد أن تعرف أنه ما تحتاجه حقا وما يناسبك فكرًا وأدبًا وذوقًا.
يرى البعض أن المكتبات الرقمية ومواقع بيع الكتب حجَّمت من دور معارض الكتب ومن أهميتها لشراء الكتب، ولكن نسوا شيئًا مهمًا جدًا؛ وهو أن تلك الكتب تشترى بالمال ولا تعطى أو توهب. والريال الذي يخصصه المرء لاقتناء كتاب ما؛ قد يكون إنفاقه فـي مكان آخر أفضل وأجدى وأحسن. ومن محاسن المكتبات الرقمية ومواقع الكتب، أنها أعطتنا ما يشبه لوحات البورصة الواضحة؛ فسعر الكتاب الفلاني كذا، وسعر الكتاب الآخر كذا.. وهكذا دواليك.
ومن الدروس السيئة التي أحببت لو أنها لم تحصل لي أو أني لم أواجهها؛ أني اكتشفت بأن بعض الناشرين يستغفل القراء ويرفع سعر الكتاب بشكل مبالغ فـيه اعتمادًا على عدم معرفة القارئ بسعر الكتاب الحقيقي. فكان الحل الذي انتهجته؛ أن أقارن بين سعر الكتاب فـي المكتبات والمواقع الرقمية بالسعر الذي يقوله الناشر، كي لا أقع أو يقع غيري فريسة الاستغفال وحسن الظن المبالغ فـيه بالناشرين.
رغم هذا كله؛ يبقى معرض الكتاب عيدًا لا يشبهه أي عيد، وتبقى أيامه البهيجة محط انتظار وترقّب. ومن يظن بأن عصر القراءة انتهى، أو من يبحث عن المعنى الذي يمكن أن تعطيه القراءة والكتب للإنسان، فأجدني مشغوفًا بمقولة ديكارت «توقفت طويلًا مدققًا فـي الأمور التي ظلت تشغل الإنسان فـي هذه الحياة، محاولا أن أنتقي أفضلها. غير أنني لا أرى ضرورة للحديث هنا عن الأفكار التي خامرتني أثناء ذلك؛ يكفـيني أنه لم يتراء لي فـيما يخصني شيء أفضل من أن أظل متمسكًا بما آليت عليه نفسي من عمل، أي أن أنذر مجمل نصيبي من الزمن الذي سأعيشه للدأب على تربية عقلي وللمضي قُدُما فـي تتبع آثار الحقيقة على النحو الذي رسمته لنفسي.
ذلك أن الثمار التي تذوقتها خلال مسيرتي على هذه الطريق كانت من ذلك النوع الذي لن نستطيع أن نجد فـي هذه الحياة ما يمكن أن يفوقه لذة وبراءة، حسب رأيي. وعلاوة على ذلك كان كل يوم، منذ أن انتهجت هذا الضرب من المعاينة، يمنحني اكتشاف شيء جديد له وزنه الخاص دومًا وأبعد ما يكون عن المعهود بين العموم. هكذا أضحت حياتي مُفعمة فرحًا، بما يجعل بقية الأشياء كلها غير قادرة على التأثير فـيها».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تلک الکتب
إقرأ أيضاً:
منصة عين تدشّن أربعة كتب جديدة ضمن مشروع الكتاب الصوتي
تزامنًا مع معرض مسقط الدولي للكتاب الذي يفتح أبوابه اليوم (الخميس)، وفي إطار مشروع "الكتاب الصوتي" الذي أطلقته وزارة الإعلام منذ عام 2021، أعلنت منصة "عين" عن تدشين أربعة كتب صوتية جديدة، لترتفع بذلك حصيلة ما أنتجته المنصة إلى واحدٍ وستين كتابًا صوتيًّا، تتوزع بين أجناس أدبية وفكرية متعددة. ويأتي هذا الإنجاز استمرارًا للجهود المبذولة في توسيع نطاق الوصول إلى المعرفة المقروءة من خلال الصوت، وتوفير محتوى عربي غني يخاطب ذائقة الجمهور بمختلف فئاته.
أدب عالمي بصوت عُماني
الكتاب الأول الذي انضم حديثًا إلى مكتبة "عين" الصوتية هو "الساذجة: قصص من الأدب العالمي"، وهو مختارات قصصية مترجمة لأشهر كتّاب العالم، من أمثال تشيخوف، وماركيز، وكافكا، وأورويل، وكاواباتا، وجيمس جويس، وغيرهم. ترجم الكتاب الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت عام 2008 عدد من المترجمين ينتمون إلى "مجموعة الترجمة العُمانية" في جامعة السلطان قابوس، وهم أحمد حسن المعيني، وابتهاج الحارثي، وعلياء الشحي، وهلال المعمري، ويونس الحراصي، وشمسة الحوسني، وجهينة الكندي، وأحلام المعمري، وأمل النبهاني، وخليفة الكندي، وفاطمة المعمري، ومي سعيد العبري. تقدم هذه القصص مشاهد إنسانية تعالج قضايا الصراع النفسي، والقلق الوجودي، وتعقيدات العلاقات الاجتماعية، بأسلوب أدبي رفيع. ومن بين ما جاء في إحدى قصص الكتاب: "ذهبتُ إلى الفراش ولكني لم أستطع النوم... بدأتُ أحس أنني مهما فعلت فلن أستطيع أبدًا تحقيق ما أرغب به". وقد قُرئ الكتاب بصوت المذيعَيْن أحمد الكلباني وماجدة المزروعي، وأخرجه تقنيًّا حمد الوردي.
سيرة من الضوء والانتصار
أما الكتاب الثاني فهو السيرة المؤثرة "قصة حياتي" لهيلين كيلر، الأيقونة الأميركية التي تغلبت على إعاقتي السمع والبصر لتصبح أول كفيفة تنال شهادة جامعية. ترجمت الكتاب المترجمة العراقية الدكتورة أنوار يوسف، ونشرته دار الرافدين عام 2021. تنقل كيلر في هذا العمل روحًا متوثبة ومعرفة عميقة بالحياة، وتقول في أحد مقاطع الكتاب: "إن المعرفة سعادة، لأن معناها أن تعرف الأهداف الحقيقية من الزائفة". وقد أُلقِي الكتاب بصوت المذيعة فاطمة إحسان، وأخرجه فنيًّا أيمن الحبسي.
ضحك ودموع تحت القصف
الكتاب الثالث يحمل عنوانًا صادمًا ومركبًا: "ضحك ولعب.. دموع وحرب: يوميات العدوان على غزة"، للكاتبة الفلسطينية سما حسن، والصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون عام 2015، بتقديم من الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله. يوثق الكتاب تفاصيل العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، والتي لا تختلف كثيرًا عن تفاصيل حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل هذه الأيام، وذلك من منظور يومي حميمي يعايش الخوف والرجاء في بيت صغير تأوي إليه الكاتبة وأولادها الأربعة. تقول سما: "في غزة، أحسد كل من يموت مرة واحدة، لأن الأحياء يموتون كل لحظة". قرأت اليوميات بصوتها المذيعة أمل السعيدي، وأخرجتها صوتيًّا المخرجة فاطمة الرواس.
قصائد من رماد الروح
أما الكتاب الرابع والأخير، فهو الديوان الشعري "لديّ ما أنسى" للشاعر العُماني حسن المطروشي، الصادر ضمن أعماله الشعرية الكاملة الصادرة مؤخرًا عن مؤسسة الانتشار العربي. يضم الديوان خمسًا وعشرين قصيدة، تتأرجح بين شعر التفعيلة والقصيدة العمودية، وتمتاز بلغة مشحونة بالتأمل والقلق والبحث عن الهوية. يقول المطروشي في إحدى قصائده: "أغادرُ من ريحٍ لأخرى تُحيلني رمادًا، وإن بَعْثَرْتِه سَأُضيءُ!". وقد قرأ حسن المطروشي ديوانه بصوته، بينما تولى الإخراج الصوتي جمال الشعيلي.
وتجري حاليًّا الاستعدادات لتدشين مجموعة جديدة من الكتب في الأسابيع المقبلة، في إطار مشروع منصة "عين" الطموح لإثراء الفضاء السمعي العربي، عبر تقديم محتوى أدبي وثقافي متنوع يلبي تطلعات القرّاء المستمعين، ويجعل من الصوت جسرًا حيًّا نحو المعرفة، والتأمل، والانفعال الجمالي.