في لحظة ما، دون إنذارٍ مسبق، يُشعل أحدهم عود ثقاب على حافة مدينة نائمة. لا يظنّه أحد أكثر من فعلٍ فرديّ، انفعاليّ، عابر، لكن تلك الشعلة الصغيرة تُوقظ في ملايين الناس ما ظنّوا أنّه مات فيهم: الغضب، الكرامة، والحقّ في السؤال.

الثورات لا تُدبَّر على ورقٍ أبيض، ولا تُولد بمرسوم، ولا تمضي وفق تعليمات. إنّها انفجار مؤجل، تأتي حين تتآكل السلطة من الداخل، لا حين تسقط من الخارج.

تأتي حين تُصبح الطاعة خيانة للذات، ويغدو الصبر مرضا جماعيا، ويصبح السكوت حُكما جائرا.

“ماذا تثور الشعوب؟"، ليس سؤالا صعبا، فالجوع، والذل، والقمع كفيل بجعل الأرض تغلي. لكن السؤال الأكثر إلحاحا هو: متى تثور الشعوب؟ ولماذا لا تثور دائما؟ ما اللحظة التي تنقلب فيها الموازين؟ متى يصبح الحُكم بلا غطاء، والخوف بلا وظيفة، واليأس بلا فائدة؟

الجوع، والذل، والقمع كفيل بجعل الأرض تغلي. لكن السؤال الأكثر إلحاحا هو: متى تثور الشعوب؟ ولماذا لا تثور دائما؟ ما اللحظة التي تنقلب فيها الموازين؟ متى يصبح الحُكم بلا غطاء، والخوف بلا وظيفة، واليأس بلا فائدة؟
لنفكّك هذا السؤال لا كمجرّد حدث سياسي، بل كتحوّلٍ أخلاقي- تاريخي، نقرأه من خلال ثلاث عدسات فكرية كاشفة: الماوردي، وروسو، وإرنست بلوخ.

لا يجمعهم عصر ولا مدرسة، لكن يجمعهم إدراك عميق بأنّ الطغيان لا يُهزَم بالسيف فقط.. بل بكشف زيفه، ونزع القداسة عنه، واستعادة الحلم من بين أنقاضه.

الماوردي: حين تتحوّل الشرعية إلى قيدٍ على الناس لا على السلطان

كان الماوردي ابن زمن سياسي مختلّ، حيث الخلافة العباسية قد فقدت هيبتها، والسلطة الواقعية انتقلت إلى السلاطين والولاة. لكن ما قاله في "الأحكام السلطانية" ظلّ أخطر من صراعات العروش:

"إذا جار السلطان، واستُنفدت وسائل النصح، وفُقد الأمل في إصلاحه، وصار بقاؤه فتنة على الجماعة.. جاز خلعه، إن وُجد العدل سواه".

بهذه العبارة، أسّس الماوردي لمفهوم شرعية مشروطة، لا شرعية مطلقة. فالسلطان لا يُطاع بوصفه رمزا، بل ما دام حافظا للعدل. والعدالة ليست فضيلة أخلاقية فقط، بل مبدأ بقاء سياسي.

هذه الرؤية تفسّر انفجار الثورة التونسية في شتاء 2010-2011: حين تحوّلت الدولة من حامٍ للشعب إلى عبءٍ عليه، حين صار القانون أداة انتقام، وكرامة المواطن محلّ مساومة، حين استُنفدت كل وسائل "الإصلاح من الداخل"، انقلب الناس على شرعية صارت أداة استعباد.

لم تكن الثورة مجرّد ردّ على بطالة أو فساد، بل كانت صرخة ضدّ دولة خانت معنى وجودها. ولهذا لم يكن الشعار الاقتصادي هو ما هزّ الشارع، بل الشعار السياسي العميق: "الشعب يريد إسقاط النظام".

حين تُصبح الدولة مظلّة لاحتكار السلطة والثروة، فإنها، وفق الماوردي، قد فقدت شرعيتها.. حتى وإن بقيت على الورق "قانونية".

روسو: حين يُختَطَف العقد الاجتماعي وتُقنّن الهيمنة

كتب جان جاك روسو عن السلطة في عصر بدا ديمقراطيا على الورق، لكنه حوّل الناس إلى رعايا باسم القانون:

"حين تمثّل الدولة مصالح فئة قليلة، فإنّها لم تعُد شرعية، حتى وإن بدت قانونية".

العقد الاجتماعي، عنده، ليس وثيقة مؤرشفة، بل ميثاق حيّ بين الناس. وإذا اختُطفت الإرادة العامة، سواء بالبيروقراطية أو المال أو الإعلام، فإنّ الدولة تصبح تمثيلا زائفا.. لا شرعية حقيقية.

انظري إلى ثورة يناير في مصر: لم تكن المشكلة في غياب المؤسسات، بل في أن هذه المؤسسات لا تُمثّل أحدا، البرلمان كان أداة تلميع، الانتخابات كانت مُسيّرة، والدولة كانت تتحدث عن الشعب، لكن دون أن تستمع إليه.

وحتى بعد الثورة، اختُطِف العقد من جديد، عادت الدولة في زيّها العسكري-المدني، تُعيد إنتاج منطق الهيمنة باسم "الاستقرار".

روسو لا يقدّس الثورة من حيث هي فوضى، بل يراها لحظة استعادة للعقد المغتصب، وحين تُستبدل الثورة بثورة مضادة ذات واجهة قانونية، يصبح الانفجار القادم أكثر عنفا.. وأقل توقيرا للنظام.

بلوخ: حين يتحوّل الحلم من رغبة فردية إلى طاقة جماعية
الثورة ليست معادلة حسابية، ليست حاصل ضرب الجوع في الظلم في القمع، بل هي لحظة شديدة التعقيد، تتولد حين يتصدّع هيكل الشرعية، ويُختطَف تمثيل الإرادة العامة، ويشتعل الرجاء في هوامش الحياة
لم يكن إرنست بلوخ مهتما بما يحدث فقط، بل بما يُمكن أن يحدث:

"ما من شيء عظيم حدث، إلا وكان مسبوقا بصورة عنه في الوجدان الجماعي".

الحلم، عند بلوخ، ليس خيالا مجرّدا، بل هو وقود التغيير. الثورة تبدأ حين ترى الجماهير في نفسها شيئا أكبر من وضعها، وتؤمن بأن هذا العالم لا يستحقّها كما هو.

هكذا بدأت الثورة الروسية، ليس فقط في مصانع بتروغراد، بل في تخيّل عالم بلا قياصرة، وهكذا خرج شباب السودان عام 2019 لا ليرفعوا لافتات خبز، بل ليقولوا: "حرية، سلام، وعدالة".

الحلم عند بلوخ ليس ترفا فكريا، بل ضرورة سياسية. فمن لا يحلم، لا يثور، ومن لا يرى مستقبلا آخر، لن يُخاطر بالخروج من الحاضر.

خاتمة: حين يلتقي الوعي بالهشاشة ويقوده الرجاء

الثورة ليست معادلة حسابية، ليست حاصل ضرب الجوع في الظلم في القمع، بل هي لحظة شديدة التعقيد، تتولد حين يتصدّع هيكل الشرعية، ويُختطَف تمثيل الإرادة العامة، ويشتعل الرجاء في هوامش الحياة.

الماوردي يحذّرنا من شرعية لا تحرس العدل.. روسو يكشف لنا أن العقد الاجتماعي لا يُكتب مرة واحدة.. بلوخ يمنحنا وعدا: أنّ الحلم ليس ترفا، بل نواة التحوّل.

السؤال إذا ليس: لماذا لا تثور الشعوب؟ بل: هل ما زالت ترى وجها آخر للمستقبل؟ هل ما زالت تحتفظ بصورة ما عن حياة تستحق أن تُعاش؟ فإن وُجد هذا الرجاء، ولو في أغنية، أو قصيدة، أو نظرة في الميدان.. فإنّ الثورة آتية، لا محالة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الشعوب العدل الثورة التغيير حرية حرية الثورة العدل تغيير شعوب مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة اقتصاد مقالات اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

صفقة أسلحة مع إسرائيل تهدد الائتلاف الإسباني الحاكم

حذّرت حركة "اليسار الموحد"، الشريك في الائتلاف الحاكم الإسباني، من احتمال اندلاع أزمة حكومية غير مسبوقة في حال استمرار الحزب الاشتراكي في اتخاذ "قرارات أحادية" بمجال التسلح، خاصة في ما يتعلق بصفقات مع إسرائيل وزيادة كبيرة في ميزانية الدفاع.

وقال زعيم "اليسار الموحد" أنطونيو مايو، في تصريحات صحفية اليوم الأربعاء، إن القرار الذي اتخذه رئيس الحكومة بيدرو سانشيز بزيادة الإنفاق العسكري بمقدار 10.500 ملايين يورو "يفتقر إلى التوافق داخل الحكومة"، وإن هذا النهج "يهدد بتفجير الحكومة من الداخل".

وانتقد مايو بشكل خاص اتفاق تسليح مع إسرائيل يشمل توريد ذخيرة من عيار 9 ملم بقيمة تفوق 5.5 ملايين يورو، متهما وزارة الداخلية بعدم احترام قرار سابق يقضي بوقف التعامل مع شركات إسرائيلية.

وأضاف زعيم "اليسار الموحد" أن "الداخلية خالفت قرار مجلس الحكومة بإلغاء العقود مع إسرائيل، وهو ما يقوض إستراتيجية الحكومة حتى عام 2027".

وكان وزير الداخلية فرناندو غراندي مارلاسكا قد أعلن في أكتوبر/تشرين الأول عن "بدء إجراءات فسخ" العقد مع الشركة الإسرائيلية، إلا أن الصفقة استُكملت لاحقا، مما أثار غضب قوى اليسار المتحالفة مع حزب سومار، الشريك في الحكومة.

إعلان

ويتناقض العقد مع التزام حكومة سانشيز بعدم إبرام أي صفقة أسلحة مع إسرائيل، سواء للشراء أو البيع، في أعقاب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المستمرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

وقد كشفت إذاعة إسبانية عن العقد الذي نُشر الجمعة الماضي، مما أثار غضب اليسار، إذ أكد تحالف سومار في بيان أن "التزام الحكومة الإسبانية تجاه الشعب الفلسطيني يجب أن يكون مطلقا"، وجدد مطالبته "بإلغاء العقد فورا".

كما قال النائب إنريكي سانتياغو، الأمين العام للحزب الشيوعي الإسباني العضو في سومار خلال مؤتمر صحفي، "لا 6 ملايين يورو، ولا حتى 6 مليارات يورو، يمكن أن تبرر لإسبانيا المخاطرة بالتواطؤ في الإبادة الجماعية" بغزة.

وأضاف أن "الشركتين الإسرائيليتين تفصحان على شبكاتهما الاجتماعية عن مشاركتهما في ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وتطهير عرقي وتروجان لدورهما".

ويأتي هذا التوتر الذي يهدد بنشوب أزمة حكومية في وقت يسعى فيه سانشيز للوفاء بتعهداته تجاه حلف شمال الأطلسي (الناتو) برفع الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام.

وكانت إسبانيا أعلنت منتصف العام الماضي هي وأيرلندا والنرويج اعترافها رسميا بدولة فلسطينية مستقلة، مشيرة إلى أن الخطوة تتماشى مع القرارات الأممية وغير موجهة ضد أي طرف.

كما أثار ذلك غضبا في إسرائيل ضد إسبانيا، إذ أصدرت الخارجية الإسرائيلية قرارا تمنع بموجبه قنصلية إسبانيا في القدس من تقديم الخدمة للفلسطينيين.

وقد شدد رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشير في أوقات سابقة على ضرورة وقف إسرائيل حربها على غزة، داعيا المجتمع الدولي إلى وقف بيع الأسلحة لإسرائيل.

في حين قال وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس إنه لا أحد يستطيع إرهاب إسبانيا وثنيها عن المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار والاعتراف بالدولة الفلسطينية.

إعلان

مقالات مشابهة

  • وزير الأوقاف يبحث مع قضاة المحكمة الشرعية المسائل ذات الاهتمام ‏المشترك
  • صفقة أسلحة مع إسرائيل تهدد الائتلاف الإسباني الحاكم
  • مذكرة تتصدّى لـ "التحايل على الأبواب الخلفية" لنقابة الصحفيين
  • الريال يبدد الحلم السعودي بشأن فينيسيوس
  • نادين نسيب نجيم تتصدّر تريند جوجل بعد فيديو مؤثّر عن وحدتها: "ما عندي حدا أعمل معه صبحية"
  • مقتل سيدة بطلقة طائشة على يد ابنها فى أسوان
  • هيئة العقار‬⁩ تطلق خدمة إنشاء عقد وساطة بين وسيط ووسيط
  • رغم العقد الجديد.. صلاح مطلوب في السعودية!
  • أطل برأسه من شرفة البازيليك.. ننشر آخر رسائل البابا فرنسيس قبل رحيله