سراب التحليل الطبقي في الحرب السودانية وشياطين أخري
تاريخ النشر: 23rd, April 2025 GMT
كشفت هذه الحرب عن حالة خرف كامل لعقل شرائح واسعة من المثقفين الليبراليين (تجاوزا) واليساريين. من أهم تجليات هذا الخرف الهذيان بان المنافحين عن مؤسسات الدولة بما فيها الجيش دافعهم هو حماية إمتيازاتهم الطبقية وممتلكاتهم أو أنهم عنصريون أو جهويون من أهل الشمال والوسط. ولكن هذا التشخيص هراء ما بعده هراء كما سنري.
هل كل أو جل أو حتي نصف من يقف مع الدولة ضد همجية الغزاة الجنجويد هو إنسان صاحب إمتيازات وممتلكات يسعي لحمايتها؟ هذا كلام فارغ ووسواس أيديلوجى لا يختبر مقولاته في سحاحة الواقع.
من الواضح لأي إنسان يري الواقع كما هو، لا كما يوسوس به شيطانه الأيديلوجي، أن جل أعداء الجنجويد والمساندين لجيش الدولة هم فقراء المدن والريف ألذين نكل بهم الجنجويد مباشرة وبسبب تداعيات الحرب علي حياتهم وقصف بنيتهم التحتية الحيوية بما فيها مصادر الماء والكهرباء.
وغالبية هؤلاء فقراء لا يملكون قوت اسبوعهم قبل الحرب وبعدها. إن رفض جنجويد شردوا أكثر من أثني عشر مليون مواطنا من دورهم إلي منازح الذل والمسغبة لا يحتاج إلي إمتيازات طبقية لا توجد إلا في تدليس سردية يسارية مخيفة السطحية، عميقة التدليس. ولا أدري ضرورة حزلقة طبقية أو جهوية لتفسير كراهية إمراة إنتهكها الجنجويد في الهلالية أو رجل قتلوه في تمبول ليفسر كراهيتهم للجنجويد ووقوفهم مع دولة تكف عنهم مثل هذا الأذي.
أيضا، اتهام الرافضين بحزم للغزو الجنجويدي بالتحيز الجهوي أو العرقي مدعاة للرثاء لان الإتهام يذهل عن حقيقة أن مدن مثل الخرطوم ومدني والجزيرة يقطنها ملايين من غرب السودان وفي بعض نواحيها أهل الغرب وجبال النوبة والسودانيين من خارج الشمال والوسط هم في الحقيقة أغلبية، وهي أغلبية رافضة لللجنجويد بمثل رفض أهل الشمال والوسط وربما أشد رفضا.
كما لا يهم هذه السردية تفسير الصمود الأسطوري لفاشرالسلطان ومعسكر زمزم ضد بربرية الجنجويد، وحسب علمي أهل هذه المناطق لا هم من شريط النيل ولا من الوسط ولا هم من أصحاب الإمتيازات الطبقية أو التاريخية. أضف إلي ذلك أن مجموعة هامة من داخل قبيلة الرزيقات – محاميد موسي هلال -ترفض المشروع الجنجويدي بشدة ومستعدة لمقارعته بالسلاح. كما أن الزغاوة حاربوا الجنجويد بالسلاح وكان لهم سهم معلي في التصدي لهم. ولم يحتاج رجل أو إمراة من دار مساليت لإمتيازات طبقية أو جهوية لكراهية جنجويد أبادوه. ولكن خطاب التدليس المتلبس بلبوس يسارية مبتذلة لا تهمه هذه الحقائق ولا يهمه تفنيد دلالاتها ونفيها لتشخيصه اليرقاني.
ولا يهتم هذا الخطاب بفحص المصالح الطبقية والانحياز الجهوي للذين إنضموا لقافلة الجنجويد من بليونيرات ذهب وبرجوازية صغيرة تحلم بالمال والسلطة علي سنابك الجنجويد ورشاوي الإستعمار حتي لو دفعت ثمنها أعراض النساء المنتهكة .
كما ينسي خطاب الإمتيازات تناول قضية الدور الإستعماري في الحرب السودانية. ولا أدري كيف يقفز “تحليل طبقي” فوق حقائق الإستعمار بما أن اليسار يعرف منذ لينين – صاحب كتاب الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية – ، وحتي في بذور ماركس، يعرف مركزية البعد الإستعماري في أي تحليل للتمدد الراسمالي والصراع الطبقي. فهذا يسار نسى أهم نصوصه واخترع أوهام تساعده علي تبني مواقف مريحة. ولن نلوم الليبرال – تجاوزا – فهم متطفلون علي موائد اليسار الفكرية في الوجبات السريعة التي تناسبهم. وإذا كان اليسار للدف ضاربا فلا تلم الليبرال علي الرقص المتهتك.
وينسي مختزلو خصومهم في كستبانات جهة أو إمتيازات مستوهمة أن يطبقوا معاييرهم علي أنفسهم ليتبينوا كيف أثرت انتماءاتهم الطبقية أو الجهوية أو أماكن وجودهم الحالي علي تحليلاتهم ربما لانهم يؤمنون بأن نزاهتهم مثالية لا تشوبها طبقية ولا تجربة حياتية خاصة بكل فرصها وخيباتها. فهم ثوريون موضوعيون ما يخروش المية وما تبقي منا بورجوازيون، أنانيون، عنصريون، ذكوريون أو جندريات خن القضية فتم جلدهن حتي أعلن التوبة وطلبن الصفح من بابوات التقدمية وماماتها.
مما سهل بيع خطاب الإبتزاز البائس هذا هو ضعف فهم المنهج وعمي الإيبيستومولجي. لا شك في وجود خطوط إنقسام طبقي وإقتصادي ومناطقي في سودان الحرب وما قبلها. ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال إمكانية إختزال موقف أي فرد أو مجموعة من الحرب والدولة بالركون إلي أي من هذه التباينات التي لا يخلو منها مجتمع. ولا أدري أين المشكلة في أن يرفض ملياردير عندو تاني دور جنجويدا انتهكوا عرضه وروعوا نساء بيته ولا أدري لماذا عليه أن يشعر بالذنب ويلتزم الحياد تجاه مغتصبي عرضه لانه ملياردير، جعلي، أصفر، أمو بت عم ابوهو.
البرجوازيون موجودون في أوساط معسكر الدولة وايضا يوجدون في معسكر الجنجويد (دقلو الذهبي، والبرير الراسمالي، واللواء برمة وود الميرغني وزير البشير وأبناء الأرستقراطية القبلية). وكذلك الطبقات الدنيا والبرولوتاريا الرثة (ذلك المصطلح المؤسف) يوجدون في كل المعسكرات. كما يوجد غربيون ونيليون ونوبة في كلا المعسكرين. وكذلك توجد نساء هنا وهناك وتوجد جندريات هنا وهناك.
لذلك فان تخصيص أنصار الدولة بالإختزال الطبقي والجهوي لا يجوز فهو إما تدليس متعمد بائن بينونة كبرى أو وسواس أيديلوجى قهري لم يهضم أصحابه الفلسفة السياسية وصاروا علي حافة الجنون التحليلي. كل من سمع بأبجديات المنهج يفهم ضرورة التمييز بين الإرتباط والسببية ولكن هذا التخليط في المشهد السوداني أدني من السقف الفكري للتمييز بين الارتباط الذي لا يدل علي سببية.
إن خطاب التدليس هذا يمارس إبتزاز عملي باتهام كل مخالف بانه إنسان أناني، نرجسي، مصلحي لمجرد وقوفه ضد ميليشيا إبادة عرقية وعبودية جنسية. وبلغت الجرأة علي الحق أن يتهم هذا الخطاب النساء ضد الجنجويد بخيانة الأمانة النسوية الفيمنيستىية التي لا يؤرق منامها العنف الجنسي الواسع الذي مارسه الجنجويد ضد المرأة السودانية.
إن كل هذا الإبتزاز بافتراض إمتيازات أو تحيز عرقي يتم إختزال الموقف من الدولة فيه ما هو إلا دليل علي التبعية الفكرية المطلقة للإنتلجنسيا السودانية لانه في حقيقته مستلف من خطاب الهويات الغربي في مرحلة الوووك الذي يقمع الحوار ويكمم المخالف بان يختزل أي خلاف سياسي في هوية الخصم العرقية أو الطبقية أو الجندرية. وهذا ما دمر اليسار الغربي وخصب التربة لصعود اليمين المتطرف في أمريكا واوروبا بقيادة ترمب وأوربان وماري لو بين وغيرهم. وهكذا فان اليمين الديني في السودان لا يحتاج لبذل أي مجهود سوي أن يجلس في برش صلاته ويستمتع بمنظر اليسار والليبرال يحرزون هدفا تلو آخر في مرماهم ومرمى الشعب.
ولكن كما في غالب الأحيان لا بد أن يكون للمثقف شيئا ما في ألحكوة . في هكذا سردية، فجأة بقدرة الساحر يتحول مثقف مغلوب علي أمره، هامشي إلا في الأسافير، ومشرد علي حافة ألياس إلي صاحب أمتياز وكأنه ليبرالي أوروبي، ابيض، مصاب بعقدة الذنب جراء تعاليه علي الملونين ولكن من نبله قرر أن ينزل من البرج العالي وينصر المساكين بركل إمتيازاته العرقية والطبقية . ولا يكتفي الأبيض الرمزي بالتواضع الزائف فيشهر وهمه سوطا لجلد الآخرين وتصدير الإحساس بالذنب لمن قرروا أن الدفاع عن مدنهم وأجسادهم من استباحة جنجويد همج. وربما ساعد هذا التحول السحري إلي صاحب إمتياز علي التأقلم مع شدة هامشية الوجود التي لا تطاق ظروف الحياة في مهاجر ظالمة.
ولا داعي للإساءة لذكاء القارئ بالتذكير بمن هو المستفيد من كل هذا التخذيل عن التصدي للجنجويد.
كما قلنا، دخلت السياسة السودانية مرحلة الحوجة إلي طبيب نفسي، قبل المحلل الإجتماعي.
معتصم أقرع
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: ولا أدری
إقرأ أيضاً:
التشكيك: سلاح خفي في الحرب النفسية التي تشنها المليشيات
في الحروب، لا تُطلق النيران فقط من فوهات البنادق والمدافع، بل تنطلق أيضاً من وراء الشاشات وصفحات التواصل، عبر رسائل مشبوهة وأحاديث مثبطة، في إطار ما يُعرف بالحرب النفسية. ومن بين أبرز أدوات هذه الحرب وأكثرها خبثاً: “التشكيك”. هذا السلاح الناعم تُديره غرف إلكترونية متخصصة تابعة للمليشيات، تهدف إلى زعزعة الثقة، وتفتيت الجبهة الداخلية، وبث الهزيمة النفسية في قلوب الناس، حتى وإن انتصروا في الميدان.
التشكيك في الانتصارات العسكرية، أحد أكثر الأساليب استخداماً هو تصوير الانتصارات المتحققة على الأرض من قِبل القوات المسلحة السودانية على أنها “انسحابات تكتيكية” من قبل المليشيات، أو أنها “اتفاقات غير معلنة”. يُروّج لذلك عبر رسائل تحمل طابعاً تحليلياً هادئاً، يلبسونها لبوس المنطق والرصانة، لكنها في الحقيقة مدفوعة الأجر وتُدار بخبث بالغ. الهدف منها بسيط: أن يفقد الناس ثقتهم في جيشهم، وأن تتآكل روحهم المعنوية.
التشكيك في قدرة الدولة على إعادة الإعمار، لا يكاد يمر يوم دون أن نقرأ رسالة أو منشوراً يسخر من فكرة إعادة الإعمار، خصوصاً في مجالات الكهرباء والمياه وإصلاح البنى التحتية المدمرة. هذه الرسائل تهدف إلى زرع الإحباط وجعل الناس يشعرون أن لا جدوى من الصمود، وأن الدولة عاجزة تماماً. لكن الواقع أثبت أن إرادة الشعوب، حين تتسلح بالإيمان والثقة، أقوى من أي دمار، وقد بدأت بالفعل ملامح إعادة الحياة تظهر في أكثر من مكان، رغم ضيق الموارد وشدة الظروف.
التشكيك في جرائم النهب المنظمة، مؤخراً، لاحظنا حملة تشكيك واسعة، تُحاول التغطية على جرائم النهب والسلب والانتهاكات التي ارتكبتها المليشيات طوال عامين. الحملة لا تنكر تلك الجرائم بشكل مباشر، بل تثير أسئلة مغلّفة بعبارات تبدو عقلانية، لكنها في جوهرها مصممة بعناية لإثارة دخان كثيف ونقل التركيز نحو جهات أخرى.
كيف نُساهم – دون قصد – في نشر التشكيك؟ المؤسف أن الكثير منا يتداول مثل هذه الرسائل بعفوية، وأحياناً بدافع الحزن أو القلق على الوطن، دون أن يتوقف ليتساءل: من كتب هذه الرسالة؟ ولماذا الآن؟ وما الذي تهدف إليه؟ وبهذا نُصبح – دون أن ندري – أدوات في ماكينة التشكيك التي تخدم أجندة المليشيات وتطعن في ظهر الوطن.
كيف نواجه هذه الحرب النفسية؟
الرد لا يكون بصمتنا أو بتكرار الرسائل المشككة، بل بـ:
وقف تداول أي رسالة مجهولة المصدر أو الكاتب.
عدم إعادة نشر أي محتوى يحمل ظنوناً أو يشكك أو يُحبط أو يثير اليأس.
نشر الإيجابيات، وبث الأمل، وتعزيز الثقة بالله أولاً، ثم بمؤسسات الدولة مهما كانت لدينا من ملاحظات أو انتقادات.
في الختام، التشكيك لا يبني وطناً، بل يهدمه حجراً حجراً. فلنكن على وعي، ولنُفشل هذا السلاح الخفي، بمناعة داخلية قائمة على الإيمان، والعقل، والأمل، والثقة بأن الوطن سيعود أقوى، ما دام فينا من يرفض الانكسار ويؤمن بأن النصر لا يبدأ من الجبهة، بل من القلب والعقل.
عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
٢١ أبريل ٢٠٢٥م