يكثر الحديث هذه الأيام عن حروب الوعي أو حروب الإدراك. كان فضاء الحروب العسكرية هو البر أو البحر، الهواء أو الفضاء. وكانت أدوات الاشتباك مادية ومحسوسة. في عالم اليوم الذي -يُفترض به- أن يكون خالياً من العنف والصراعات، يحتاج من يشنون الحروب إلى تبرير عدائيتهم، ويحتاجون إلى تأليب الجمهور ضد خصومهم، بل ويطمحون لاختراق الفضاء الإعلامي لأعدائهم والتلاعب بروحهم المعنوية.
البروباغندا، دعاية الحرب، العمليات والحروب النفسية ستتكالب في عصر المعلومات مع البيانات الضخمة وأنظمة المعلومات، وكذلك مع علمي السلوك والأعصاب، لتنتج لنا حروب الوعي. يُقصد بحروب الوعي السعي نحو تشكيل أو تعطيل أو الهيمنة على تصورات ومعتقدات وقرارات وهويات الأفراد أو الجماعات، وذلك بالاستخدام المتعمد والاستراتيجي للمعلومات والعمليات النفسية والعلوم السلوكية والتكنولوجيا العصبية والأنظمة الرقمية. يُستهدف في هذه الحروب الإدراك البشري، ويقوم الصراع على التأثير والإقناع، وبمعنى مع احتلال الوعي والخيال البشري.
ودعوني أنوه قبل أن نبدأ بأن حرب الإدراك تختلف عن الحرب السيبرانية، وإن كانت الأدوات والمعارف المتعلقة بالبيانات وأنظمة المعلومات والذكاء الاصطناعي والإنترنت بالعموم جزءا مهما من حروب الوعي.
أحاول في هذا المقال، رصد أهم التقنيات التي تُسخر المعارف العلمية في مجالات علم الوعي، الأعصاب، السلوك، النفس، وعلوم الكمبيوتر لخدمة آلة الحرب. وأجادل بأن لهذه الأدوات أصلا استعماريا استفاد من تطور العلوم لتحسين أدواته واستخدام تطبيقاته الخبيثة بفعالية.
السيكوغرافيا (Psychographics) والاستهداف المجهري أو الدقيق (Microtargeting): لعقود اعتمد الإعلام والتسويق على التركيبة السكانية لتطوير البرامج، أو استهداف المستهلكين. فثمة مثلاً ما يستهدف جنسا محددا، أو فئة عمرية محددة، وإذا ما حاول المستهدف أن يكون أكثر دقة فإنه ينظر داخل هذه المجموعات إلى من ينتمون لطبقة محددة، مستوى تعليمي، الدخل والمهنة، أو المجموعة الإثنية. فتُوجه إعلانات السيارات إلى رجال الطبقة الوسطى، والغسالات إلى ربات البيوت، مثلاً. أتاح الإنترنت ومن ثم الشبكات الاجتماعية الوصول الدقيق إلى مجموعات مجهرية حسب الاهتمامات، الآراء السياسية، القيم الأخلاقية، والدوافع العاطفية. تستخدم منصات تحليل البيانات نماذج لتوصيف شخصيات مستخدمي الإنترنت، وبالتالي يُمكن استخدام رسائل مخصصة تستغل السمات الشخصية، الانحيازات الإدراكية، والمثيرات العاطفية للمستخدمين كل حسب شخصيته. نتذكر هنا فضيحة بيع شركة كامبريدج أناليتيكا للملفات الشخصية النفسية للناخبين الأمريكيين بهدف توظيفها في الحملات الانتخابية.
حرب السرديات: يُقال إن من يملك السردية يملك الحق، في اعتراف بقوة تأثير القصة. تهدف سرديات الحرب إلى ابتكار معنى للأحداث، وتركيبها معا بما يخدم الأجندة. إنها تهتم بمحتوى السردية، كما تهتم بوسائل توصيلها إلى الجمهور، وتحديد هوية المجموعة المدانة. يقول البروفيسور پول ارمسترونج (Paul Armstrong) في ورقته «علم الأعصاب، السرد، وعلم السرديات Neuroscience, Narrative, and Narratology (2019)» إن القصص تُعين الدماغ على التفاوض في صراعه الأزلي بين البحث عن الأنماط، القواعد، الثبات من جهة، والمرونة، التكيف، والتغير الحتمي من جهة أخرى. القصة إذاً أكثر ثباتاً من فوضى الحقائق العشوائية، وأكثر مرونة من قاعدة أو قانون طبيعي. أخمن أنكم تفكرون الآن بالكيان الصهيوني الذي حبك قصة الأرض الموعودة لتبرير أمر لا أخلاقي بالمرة كالاستعمار الاستيطاني. مثال آخر يلعب أمامنا الآن، وهو تصوير السياسة الأمريكية للازدهار الاقتصادي الصيني بأنه تهديد لها، ما يُبرر حرب التعرفة الجمركية التي تشنها أمريكا على الصين.
التهيئة النفسية العصبية: في علم النفس يُشير مفهوم التهيئة إلى الحساسية المفرطة تجاه مؤثر ما. وكأداة حرب إدراك، فإن الغرض من هذا التكنيك إقامة علاقات غير واعية، وبالتالي ردود فعل عاطفية (مثل الرهبة، أو التقزز) تجاه بعض الأفكار أو المجموعات. للأعمال الخيالية قدرة على تقديم نسخة ذات مصداقية للواقع. يُجادل الڤارو پاستور (Alvaro Pastor) في ورقته «حرب الإدراك (Cognitive warfare (2024» بأن هذه المحاكاة للواقع «تستبعد أو تغير عملية العقلنة المعتادة». لهذا نرى التهيئة الصبورة للحروب بنزع الأنسنة عن المجموعة التي يُراد النيل منها أو إبادتها، إن كان عبر الكاريكاتيرات، الأفلام، وأدوات الدعاية الأخرى، التي تتحدث عن «العربي الخطِر» و«الإفريقي العنيف» و«الصيني الآكل للحوم الكلاب، والذي لا يحمل احتراماً لقيم وأعرف البشر» والبشر هنا هم العرق الأبيض حصراً بالطبع.
التضخيم الخوارزمي والتضليل القائم على الذكاء الاصطناعي: يُمكن للذكاء الاصطناعي -كما نعلم- إنتاج محتوى يصعب كشف زيفه. يُمكن للخوارزميات بدورها أن تمنح الانطباع الزائف أن من حولك يحملون الاتجاهات ذاتها التي تحمل. أن تبني لك -كما يقال- فقاعة، وذلك عبر العرض المتحيز للمحتوى الذي يُتوقع أن تتفاعل معه. ليس بالضرورة أن يكون نوع المحتوى الذي تتفق معه، إذا ما كان المحتوى مستفزا سيعني أنك ستتفاعل معه أيضاً وهكذا تتغذى الخوازميات إما من مشاعرك السلبية، أو -على العكس من ذلك- عبر إحاطتك بسيل من المحتوى، الذي يمنحك ثقة كاذبة بشيوع فكرة ما شيوعا يمنح يطمئن إلى معقوليتها وصحتها.
الهندسة الاجتماعية: في أمن المعلومات، تُستخدم الهندسة الاجتماعية للحصول على معلومات سرية أو خاصة، ليس عبر الاختراق التقني ولكن عبر الاحتيال أو الانتحال والتلاعب. أما عندما نتحدث عنها في سياق حروب الإدراك، فإننا نعني شيئاً أشبه بالوكز (nudging). الوكز مفهوم قادم من علم السلوك ويعني التأثير على السلوك واتخاذ القرار عبر التعزيزات أو الاقتراحات غير المباشرة. ويأتي الوكز السلوكي كبديل عن الإجبار أو التهديد. على سبيل المثال، يُمكن أن تعتمد حملات نظافة المدن توجهاً يقضي بالتذكير المستمر بغرامة رمي المخلفات، أو يمكنها بالمقابل أن تجعل أماكن رمي المهملات أكثر توفراً ووضوحاً للعين. أو أن يخصص للنفايات القابلة للتدوير حاوية قمامة أكبر من تلك المخصصة للنفايات العامة. هذه هي استخدامات الوكز في الاقتصاد السلوكي الذي يُوظَف لغرض التشجيع على العادات الصحية، والعادات البيئية المساهمة في حماية البيئة، لكنها توظف أيضاً في زيادة المبيعات عبر التأثير غير الواعي في عملية اتخاذ قرارات الشراء. فكثير من المطاعم -على سبيل المثال- تعرض طبقاً تسعّره قصداً فوق ما يستحق، فقط لتمنح شعوراً بأن ثاني أغلى طبق في القائمة هو صفقة لا تُفوت. أما في حروب الإدراك، فتشير المصادر إلى وجود 400 وحدة «وكز» حول العالم.
استغلال الوعي المُثقل: الإسهاب في ضخ المعلومات والروايات المتعارضة، على نحو يؤدي في النهاية إلى الارتباك والبلادة، وقتل أي حافز لمعرفة الحقيقة، أو التسليم السلبي برواية ما، لأن التثبت غير ممكن.
تقنيات التأثير التي استعرضناها أعلاه هي تكنيكات استراتيجية يُمكن رؤية أصلها الاستعماري عند التفكير فيها كأدوات للهيمنة والتسلط والسعي للتحكم بالمعرفة، والمعنى. حرب السرديات تُعيد صدى المبررات الاستعمارية كنشر الحضارة، والتطوير، ونشر المعرفة.
في رأي إدورد بيرنيز Edward Bernays وهو أب العلاقات العامة، أن عموم الجماهير تحتاج إلى من يوجهها لما هو صائب. فهو يؤمن بما يسميه «التلاعب الهادف» بسلوك واتجاهات العامة، ويرى فيه وسيلة للوصول إلى الإجماع. هذه العقلية التسلطية سمة الدولة الشمولية. الفارق الوحيد أن القوى الفاعلة هنا أكثر نعومة.
البحث في هذا الموضوع أشبه بالمشي وسط حقل من الألغام. فالأوراق التي كتبت بالإنجليزية لا تخلو من التحيز (خصوصاً للسياسات الأمريكية)، رغم أن هذه التكنيكات وهذا المجال مزدهر في أمريكا بشكل خاص. وكأنها هي الأخرى مثال على البروباغندا.
نوف السعيدية كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حروب الوعی التی ت
إقرأ أيضاً:
المسافة المتحركة بين قصر العلم والكرملين
حمود بن علي الطوقي
ليست المسافة بين مسقط وموسكو؛ حيث يقع قصر الكرملين، مجرد عددٍ من الكيلومترات تقطعها الطائرة؛ بل هي خريطة متبادلة من العلاقات، والمصالح، والرؤى المشتركة التي تتطور مع كل لقاء رفيع المستوى، ولا أدل على ذلك من الزيارة السامية الكريمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- إلى العاصمة الروسية موسكو، والقمة التي عُقدت بين جلالته وفخامة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هذه الزيارة تأتي في توقيت دقيق وغاية في الأهمية لما تشهده الساحة الدولية من تقلبات؛ حيث يتفق الجانبان على مواقف مشتركة حول استمرار الكيان الصهيونى والعدوان الغاشم، على غزة وفلسطين ويدين البلدان استمرار التعنت الصهيوني من جهة وتؤكد على مبدأ الحياد الإيجابي الذي تنتهجه سلطنة عُمان، وسياستها الثابتة في بناء الجسور مع الشرق والغرب؛ بما يخدم مصالحها الوطنية ويحفظ توازنها الدبلوماسي. إنها زيارة ذات دلالات استراتيجية، تُعلي من مكانة عُمان في السياسة الدولية، وتعزز من عمق العلاقات مع دولة كبرى كروسيا الاتحادية.
العلاقات العُمانية الروسية ليست وليدة اللحظة؛ بل تمتد جذورها إلى عقود مضت؛ حيث بدأت الاتصالات الرسمية منذ عهد السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وشهدت مراحل متعددة من التعاون في مجالات السياسة والاقتصاد والطاقة والثقافة. وقد تطورت هذه العلاقة بتأنٍ وهدوء، دون صخب إعلامي، لكنها كانت تتجه دومًا نحو العمق والتفاهم.
وفي ظل التحديات العالمية الراهنة، تفتح هذه الزيارة آفاقًا جديدة للتعاون في مجالات متعددة، أبرزها: الطاقة، والتكنولوجيا، والأمن الغذائي، والسياحة، والتعليم، إلى جانب تعزيز الحوار السياسي والتفاهم حول قضايا إقليمية ودولية.
وفي هذا الإطار، يقود جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- توجهًا استراتيجيًا يُعرف بـ"الدبلوماسية الاقتصادية"؛ حيث أصبحت المصالح الاقتصادية في صلب الحوارات الثنائية بين عُمان وشركائها الدوليين. وقد أكد جلالته- أيده الله- خلال لقائه بفخامة الرئيس بوتين على أهمية بناء شراكات اقتصادية حقيقية بين البلدين الصديقين، وخاصة في قطاع الطاقة. كما عبّر جلالته عن تطلعه إلى توسيع هذه الشراكة لتشمل مجالات أوسع؛ بما يحقق المنفعة المتبادلة ويُسهم في ازدهار البلدين وتعزيز أمنهما الاقتصادي.
وتشير البيانات إلى أن حجم التبادل التجاري بين سلطنة عُمان وروسيا بلغ في عام 2023 نحو 512 مليون دولار أمريكي؛ حيث صدَّرت عُمان إلى روسيا ما قيمته 22 مليون دولار، تركزت في قطع غيار الطائرات والحاويات المعدنية الكبيرة وأجهزة قياس تدفق الغاز والسوائل. في المقابل، بلغت صادرات روسيا إلى عُمان حوالي 490 مليون دولار، شملت المنتجات النفطية المكررة (192 مليون دولار)، والقمح (132 مليون دولار)، والنفط الخام (63.1 مليون دولار).
المسافة المتحركة بين مسقط وموسكو، عنوان يلخص حيوية العلاقات العُمانية الروسية؛ فالمسافات الجغرافية قد تبقى ثابتة، لكن المسافات السياسية والاقتصادية والثقافية تتحرك باستمرار نحو تقارب أكبر وتعاون أعمق. وكل زيارة على هذا المستوى، هي خطوة إضافية على طريق بناء شراكة استراتيجية متوازنة، تحترم الخصوصية وتبني على المصالح المشتركة.
إنها ليست زيارة بروتوكولية؛ بل رسالة واضحة مفادها أن سلطنة عُمان، بقيادة عاهل البلاد المُفدى، تواصل دورها البناء على الساحة الدولية، وتسعى لتفعيل دبلوماسية الحوار والانفتاح، في زمن تحتاج فيه الشعوب إلى مزيد من التفاهم، لا التصادم.
ويصادف هذا العام مرور أربعين عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين سلطنة عُمان وروسيا الاتحادية، وهو ما يضفي على زيارة جلالة السلطان طابعًا رمزيًا واحتفائيًا. أربعة عقود من التعاون والحوار البنّاء، أثمرت عن علاقات قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وتُعدّ هذه المناسبة فرصة لتجديد الالتزام من الجانبين بالمضي قدمًا نحو آفاق أرحب من التعاون الثنائي في مختلف المجالات.
رابط مختصر