تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

افتتاحية العدد 491 من صحيفة النبأ، الصادرة مساء الخميس 17 أبريل 2025، تبرز بوضوح تداخلًا معقدًا بين الأيديولوجيا والعنف السياسي الذى يعتمد عليه تنظيم داعش فى تشكيل خطابه الدعائي. تحت عنوان «الطاغوت الأمريكي: من الحرب الاقتصادية إلى الفوضى العالمية»، يقوم التنظيم بتوظيف سياسة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بشأن الرسوم الجمركية كأداة لتمرير رسائل معادية للغرب، وبشكل خاص ضد الولايات المتحدة الأمريكية.

المقال يستند إلى التوترات التجارية العالمية والأزمة الاقتصادية الأمريكية، مروجًا لفكرة أن هذه السياسات ليست مجرد تدابير اقتصادية بل جزءا من صراع أكبر بين الحضارة الإسلامية والحضارات الغربية، متمثلة فى الولايات المتحدة وأوروبا.

- التنظيم يستغل قرارات ترامب بفرض الرسوم الجمركية ويطلق خطابا دعائيا تحت عنوان «الطاغوت الأمريكى»

- توظيف الصراع الاقتصادى لتحقيق الأهداف الداعشية وتمرير رسائل معادية للغرب

من خلال هذه الافتتاحية، يعيد تنظيم داعش تقديم الأزمة الاقتصادية الأمريكية كجزء من مؤامرة أوسع تهدف إلى إضعاف النظام العالمى والتهديد بقيم الإسلام. ما يميز الخطاب هو استغلاله لهذه التوترات الاقتصادية ليس فقط فى سياق تحليل سياسي، بل لإعادة صياغة الصراع بين الإسلام والغرب على أنه معركة وجودية، تستدعى جهادًا دينيًا ضد "الطواغيت" المتمثلين فى الغرب، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية. يتخذ المقال من هذه الأزمة العالمية قاعدة لبناء سردية متطرفه تقنع متابعى التنظيم بأن "القتال ضد الغرب" هو السبيل لحماية الأمة الإسلامية من الانهيار الحضاري.

صناعة العدو وتوظيف الخطاب الأيديولوجي

فى قلب الافتتاحية، يقوم تنظيم داعش باستحضار صورة "العدو" الأمريكى بوصفه تهديدًا وجوديًا للمسلمين، وهو ما يظهر من خلال التلميحات المتكررة إلى وصف الولايات المتحدة بـ "الطاغوت" و"الصليبيين". هذا التوصيف يهدف إلى ترسيخ صورة للغرب كعدو مستمر فى صراع ضد الإسلام والمسلمين. ومن خلال ربط أمريكا بسياسات اقتصادية تعتبرها الافتتاحية ظالمة، يرسم التنظيم صورة لواشنطن كمصدر رئيسى للظلم والعنف الذى يستهدف العالم أجمع. فالتنظيم لا يقتصر فى نقده على السياسات العسكرية الأمريكية، بل يوسع الهجوم ليشمل الجوانب الاقتصادية التى تضر الدول النامية والشعوب الإسلامية بشكل غير مباشر، حيث يُصور الاقتصاد الأمريكى على أنه أداة للهيمنة والسيطرة.
إحدى الأدوات البارزة التى يستخدمها الخطاب هى تحويل السياسة الاقتصادية الأمريكية إلى قضية دينية. فالتنظيم لا يتوقف عند مجرد تحليل الأبعاد الاقتصادية، بل يعيد صياغة هذه الأحداث عبر عدسة دينية متطرفة، ليُظهر أن السياسات الاقتصادية الأمريكية ليست مجرد فشل فى الإدارة، بل تجسد للشرور التى يجب محاربتها. هذا النقل من التحليل الاقتصادى إلى التحليل الدينى يهدف إلى تبرير العنف والتطرف باعتبارها رد فعل مشروعًا ضد ما يُعتبر عدوانًا عالميًا من قبل "الطاغوت" الأمريكي. يتم تصوير ترامب وحلفائه فى هذا السياق على أنهم تجسيد للأعداء التقليديين للإسلام، وهذا التوظيف الدينى يعزز من شرعية الأعمال العنيفة ضد هذه القوى.
استغلال التنظيم للتوترات الاقتصادية العالمية يحقق له هدفًا مزدوجًا: فهو يعمق الانقسام بين المسلمين والعالم الخارجي، ويستثمر فى حالة الاستقطاب المتزايدة بين الشرق والغرب. من خلال عرض السياسات الاقتصادية الأمريكية كجزء من مخطط أكبر لتهديد العالم الإسلامي، يعزز التنظيم شعورًا بالتحفز والغضب بين أتباعه، ويصور ذلك الصراع كصراع مستمر ضد "الطاغوت" الذى لا يمكن تحققه إلا عبر المقاومة العنيفة. ومن هنا، يصبح التحليل الاقتصادى جزءًا من السردية الكونية التى يعرضها التنظيم، والتى تصوّر المسلمين فى حالة دفاع مستمر ضد تهديدات خارجية تأتى تحت مسميات متعددة، من بينها الاقتصاد والعسكرة والسياسة.
إن هذه السردية ليست مجرد تعليق على الأوضاع الحالية، بل تُعتبر استراتيجية مدروسة من قبل التنظيم لتغذية ما يُعرف بـ "الذهنية الحربية". فى هذه الذهنية، يصبح الصراع مع الغرب صراعًا وجوديًا لا يقف عند حدود السياسة أو الاقتصاد، بل يتعداه ليشمل المعركة الروحية والدينية. التنظيم يُصور أن هذا التهديد ليس مجرد مشكلة سياسية عابرة، بل هو جزء من حرب شاملة ضد الإسلام والمسلمين، تفرض عليهم التوحد والانخراط فى "الجهاد" لمواجهة هذا الخطر الداهم. يعزز هذا الخطاب من شعور الجماعات المتطرفة بأنهم فى مواجهة مستمرة مع قوى عالمية، مما يحفزهم على اتخاذ مواقف أكثر تطرفًا وتبنى أساليب قتالية لحل هذا النزاع.
وفى سياق هذا التصور، يصبح التنظيم فى نظر أتباعه قوة مضادة للظلم الذى تمارسه الدول الكبرى، خاصة أمريكا. من خلال تصوير هذا الصراع كصراع "أبدي" و"وجودي"، يخلق التنظيم صورة لعالم مقسوم بين "الخير" و"الشر"، حيث يمثل الغرب والولايات المتحدة تجسيدًا للشر الذى يجب محاربته بكل الوسائل. وهذا يساهم فى تقوية شعور الأتباع بأنهم جزء من معركة شاملة تحتم عليهم الاستعداد للمواجهة على كافة الأصعدة، الاقتصادية، العسكرية والدينية. فى النهاية، يقوم تنظيم داعش بتوظيف الأزمات الاقتصادية العالمية كأداة لإدامة الجدل حول الصراع مع الغرب، مما يساهم فى استمرارية رسالته التحريضية ويعزز من تماسكه الداخلي.

التحريض على العنف

الخطاب الداعشى فى الافتتاحية لا يقتصر على تحليل الأبعاد الاقتصادية للأزمة العالمية التى تعصف بالاقتصاد الأمريكي، بل يتجاوز ذلك ليستخدم الأزمات الاقتصادية كسلاح دعائى قوي. التنظيم يركز على تصوير هذه الأزمات على أنها نتيجة مباشرة لممارسات "الطاغوت الأمريكي"، ويحولها إلى أداة لنقل رسالة أيديولوجية مفادها أن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، هو المسئول عن تدهور الاقتصاد العالمي. من خلال هذه النظرة، يُروج التنظيم لفكرة أن الأزمة الاقتصادية الأمريكية ليست مجرد مشكلة محلية أو إدارية، بل هى جزء من مخطط أوسع تهدف الولايات المتحدة من خلاله إلى إدامة هيمنتها على العالم عبر سياسات اقتصادية جائرة، وأن هذه الأزمة هى نقطة التحول التى ستؤدى فى النهاية إلى انهيار النظام الغربى برمته.
إحدى الاستراتيجيات الخطابية التى يعتمد عليها التنظيم هى تصوير تداعيات السياسات الاقتصادية فى الولايات المتحدة على أنها "قنبلة نووية" و"زلزال اقتصادي" سيضر بالجميع، ويقوض النظام العالمى الذى تقوده أمريكا. هذا التصوير المبالغ فيه يعزز من شعور الخطر والتهديد الذى يعانى منه العالم بسبب السياسات الأمريكية، ويسعى التنظيم من خلال هذه اللغة المشحونة بالعاطفة إلى تحفيز مشاعر الغضب والرفض تجاه الغرب. لا يقتصر التنظيم على وصف الأثر المادى للأزمة، بل يحاول إضفاء طابع درامى وخطير عليها، ليجعلها تبدو كما لو أنها بداية لنهاية النظام الاقتصادى العالمي، وهو ما يساهم فى تأجيج مشاعر الكراهية والعداء تجاه القوى الغربية ويعزز من التصور بأن الغرب هو عدو يتربص بالمستقبل.
من خلال هذه السردية، يستفيد التنظيم من تصوير السياسة التجارية التى اتبعها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على أنها استعادة لأساليب اقتصادية قديمة فاشلة، ويمثل ذلك تعبيرًا عن الفوضى الاقتصادية التى تسود الغرب. فى هذا السياق، يتم استحضار قانون "سموت هاولي" الذى تم تطبيقه فى فترة الكساد الكبير فى الولايات المتحدة كدليل على أن السياسات الاقتصادية التى يتبعها ترامب ليست جديدة، بل هى تكرار لممارسات أثبتت فشلها فى الماضي. الهدف من هذا الطرح هو تعزيز الفكرة التى يسعى التنظيم لترسيخها بأن الغرب يعيش حالة من الفوضى والتخبط الاقتصادي، الأمر الذى يساهم فى تصويره كقوة منهارة ستتجه نحو الانهيار الحتمى فى المستقبل القريب.
الخطاب الداعشى لا يتوقف عند التحليل الاقتصادى البحت، بل يستخدم هذه التحليلات كأداة لتحفيز مشاعر الرفض والتحريض ضد الغرب، مستغلًا الأزمة الاقتصادية الأمريكية كدافع لتبرير العنف. ففى رأى التنظيم، فإن الفوضى الاقتصادية الناجمة عن السياسات الأمريكية ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هى بداية "التحولات الكبرى" التى تسبق التغيير الجذرى فى النظام العالمي. التنظيم يعرض هذه التحولات على أنها فرصة تاريخية يجب أن يستعد لها المسلمون، ويحثهم على التسلح بالعنف كوسيلة لتحقيق الأهداف الكبرى. من خلال هذه الدعوات، يسعى التنظيم إلى استغلال الأزمات الاقتصادية لتوجيه رسائل تحريضية تهيئ بيئة مؤاتية لتوسيع نفوذه وأيديولوجيته فى المنطقة والعالم.
فى النهاية، يصبح الخطاب الداعشى الذى يروج لأزمة اقتصادية كبرى نتيجة "الطاغوت الأمريكي" أداة فعالة للتجييش الأيديولوجى والسياسي. التنظيم لا يكتفى بمجرد التحليل أو التفسير للأحداث الاقتصادية، بل يحولها إلى جزء من استراتيجياته الدعائية التى تهدف إلى تحفيز الجماهير على اتخاذ مواقف متطرفة. هذا الاستغلال للأزمات الاقتصادية يعكس التوظيف السياسى للعناصر الاقتصادية كأداة لصناعة عدو وهمي، مما يساهم فى تشويه صورة الغرب ويعزز من الدعوات للتحضير لمعارك "كبرى" يعتقد التنظيم أنها قادمة لا محالة.

تأكيد "الشرعية" الدينية لأيديولوجيا العنف

ما يميز هذا الخطاب الداعشى عن غيره من الخطابات الأيديولوجية هو استخدامه الفعّال للبعد الدينى فى تفسير الأزمات الاقتصادية التى يشهدها العالم. التنظيم لا يقتصر فى تحليلاته على الأبعاد السياسية أو الاجتماعية فقط، بل يقوم بربط الأزمة الاقتصادية العالمية بالأبعاد الدينية بشكل مباشر، مستعينًا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى تحث على مواجهة "الطواغيت" الذين يقودهم النظام الأمريكي. هذا الربط بين الأبعاد الاقتصادية والدينية يجعل من الخطاب أداة قوية تكتسب شرعية دينية، وهو ما يعزز من جاذبيته للمؤيدين والمتعاطفين مع التنظيم، إذ يقدم نفسه كحامل للحق الدينى الذى يجب أن يتبعه المسلمون فى مواجهة التحديات العالمية.
فى سياق هذا الخطاب، يُستشهد بالآيات القرآنية التى تتحدث عن الربا والظلم كأدلة شرعية تدعم الموقف العدائى ضد النظام الاقتصادى العالمى القائم على المبادئ الربوية. على سبيل المثال، تم استحضار الآية الكريمة: "أَفَأَمَنُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ اللَّـهِ" لتبرير موقف التنظيم الرافض للنظام المالى العالمى الذى يرى أنه قائم على الربا، ويشكل بالتالى ظلمًا يستحق العقاب الإلهي. من خلال هذا الاستخدام الديني، يسعى التنظيم إلى ترسيخ فكرة أن ما يعانيه العالم من أزمات اقتصادية هو بمثابة عقاب إلهى بسبب هذه الممارسات الربوية التى تدر الأموال وتُسهم فى تكريس الفساد.
بالإضافة إلى ذلك، يُظهر التنظيم الربط الوثيق بين السياسة والشرعية الدينية فى تفسيره للأزمات. فالنظام الأمريكي، الذى يقود العالم الرأسمالى والذى يعتمد على الربا، يُصوَّر على أنه يمثل "الطاغوت" الذى يجب محاربته وفقًا لما نصت عليه الشريعة الإسلامية. هذا الربط بين السياسة والشرع يساهم فى تقديم التنظيم كحامل للرسالة الدينية التى تحث على الجهاد ضد هذا النظام، محملًا إياه مسئولية الفساد الذى يعم العالم. يضيف هذا البُعد الدينى قوة إضافية للخطاب، حيث يبدو أن مواجهة هذا النظام ليست فقط ضرورة سياسية، بل واجب دينى لا يمكن للمسلمين التراجع عنه.
علاوة على ذلك، يُقدّم الخطاب الداعشى نفسه كمُجسّد للحق الدينى المطلق، مشيرًا إلى أن ما يعانيه العالم من أزمات هو نتيجة للظلم الذى يمارسه النظام الأمريكى وحلفاؤه. هذا التصوير للأزمة الاقتصادية باعتبارها "جهادًا ضد الظالمين" يعزز من مكانة التنظيم كطليعة لمواجهة هذا الظلم، ويساهم فى تأطير الأزمات الاقتصادية فى سياق دينى يجعلها جزءًا من "حرب الله" ضد الظالمين. وبالتالي، يحاول التنظيم نقل الصراع إلى مستوى وجودى وديني، حيث تكون الأزمات الاقتصادية العالمية بمثابة مقدمة لحرب كبرى يُشرعن من خلالها الجهاد ضد الأنظمة الغربية.
من خلال هذا الخطاب، يصبح من الواضح أن التنظيم لا يسعى فقط إلى تفسير الأزمات الاقتصادية، بل يسعى إلى تسخير هذه الأزمات لتحقيق أهدافه الدينية والسياسية. ربط الأبعاد الاقتصادية بالأبعاد الدينية يضفى على الخطاب مصداقية دينية فى عيون المتابعين، ويجعل من الدعوة للجهاد ضد النظام العالمي، الذى يقوده ما يُسمى "الطاغوت الأمريكي"، واجبًا دينيًا لا مفر منه. وهذا النوع من الخطاب يشكل تحديًا كبيرًا فى فهم الأزمة العالمية بشكل عام، إذ يجعلها تندرج ضمن سياق دينى يصعب على الكثيرين فهمه بعيدًا عن التفسير الأيديولوجى المتشدد الذى يتبناه التنظيم.

التأثير الاجتماعى والتحولات المحتملة:

الافتتاحية الداعشية لا تقتصر على التحليل الاقتصادى والسياسى فقط، بل تتناول أيضًا الأبعاد الاجتماعية الناجمة عن الأزمة الاقتصادية العالمية، مما يضيف بعدًا جديدًا ومؤثرًا إلى الخطاب. فى هذا السياق، يشير التنظيم إلى ما يسميه "التفكك الاجتماعي" المتوقع فى الولايات المتحدة وأوروبا نتيجة لتداعيات الأزمة الاقتصادية، مُرَوِّجًا لتوقعات تشير إلى تفشى الجريمة والفقر فى هذه الدول. يهدف التنظيم إلى تعزيز الفكرة القائلة بأن النظام الاجتماعى فى الغرب على حافة الانهيار، وبالتالي، يُصَوَّر هذا التفكك الاجتماعى باعتباره نتيجة مباشرة للسياسات الاقتصادية الفاشلة التى يتبعها الغرب، بما فى ذلك النظام الربوى الذى يُعتبر مسببًا رئيسيًا لهذه الفوضى.
من خلال هذه التوقعات، يسعى التنظيم إلى رسم صورة سوداوية للوضع الاجتماعى فى الغرب، حيث يصبح المجتمع هناك مهددًا بالانهيار الأخلاقى والاقتصادي. وفقًا لهذا التصور، فإن الأزمات الاقتصادية ستؤدى إلى زيادة معدلات البطالة والفقر، مما سيسهم فى تزايد الجرائم مثل السرقة، القتل، وتجارة المخدرات. هذه الصورة تشكل جزءًا من استراتيجية التنظيم فى تشويه الصورة الاجتماعية للدول الغربية، حيث يُقدَّم الغرب على أنه مجتمع متهالك، يعانى من انعدام الأمن الاجتماعى ويعيش فى حالة من الفوضى التى تؤدى إلى تدهور كبير فى قيمه الأخلاقية.
التنظيم لا يكتفى بالتوقعات المستقبلية، بل يعزز هذه الصورة بالرجوع إلى أزمات سابقة، مثل أزمة كورونا، التى وصفها فى وقتها بأنها دلالة على "الهمجية الغربية". كان التنظيم يرى فى تفشى الفوضى أثناء الجائحة مؤشرًا على ضعف الأنظمة الغربية، التى فشلت فى التعامل مع الأزمات، مما أدى إلى ظهور مظاهر الاضطراب الاجتماعى والعنف. وفقًا للخطاب، فإن هذه الأزمات السابقة تعتبر بمثابة نموذج لما قد يحدث إذا استمرت السياسات الاقتصادية الفاشلة، حيث يُتوقع أن تتدهور الأوضاع أكثر وتغرق الدول الغربية فى مزيد من الفوضى.
يعمل التنظيم على استغلال هذه التوقعات الاجتماعية السلبية فى إطار ترويج صورة أكثر سوداوية لعالم ما بعد الأزمة الاقتصادية. فى هذا العالم، يصبح الغرب غارقًا فى الفوضى الاجتماعية والسياسية، حيث تتفكك القيم المجتمعية وتهدد الأزمات الاقتصادية استقرار المجتمعات الغربية. هذه الصورة، التى يعرضها التنظيم، تشكل نوعًا من التحفيز الدينى والسياسي، حيث يُحاول إبراز فكرة أن هذا الانهيار الاجتماعى هو جزء من معركة كونية بين المسلمين والغرب، مما يعزز من فكرة "الحرب المقدسة" ضد العدو.
الخطاب يهدف إلى تعزيز الفكرة القائلة بأن "العدو" فى حالة ضعف، ويجب على المسلمين استغلال هذه الفرصة لمحاربة النظام الغربى الذى يعانى من أزمات داخلية. تصوير المجتمع الغربى على أنه فى حالة انهيار يساهم فى تعزيز شعور التنظيم بأن المعركة مع الغرب هى معركة وجودية. هذا النوع من الخطاب يُسهم فى بناء حالة من الاصطفاف لدى أتباع التنظيم، حيث يُروج لفكرة أن المعركة ضد الغرب ليست مجرد صراع سياسى أو اقتصادي، بل هى صراع وجودى له أبعاد دينية، تشجع على الجهاد باعتباره الرد المناسب على هذا التفكك الاجتماعى المزعوم.

تحفيز للجهاد

أهم ما يميز الافتتاحية الداعشية هو استخدامها المتقن للأحداث السياسية والاقتصادية، ليس فقط للهجوم على الغرب، بل أيضًا لتحفيز الأفراد على الانضمام إلى "الجهاد" باعتباره الحل النهائى لجميع الأزمات التى يواجهها المسلمون. فى هذه الافتتاحية، تتشابك التحليلات الاقتصادية، مثل فرض الرسوم الجمركية أو الحرب الاقتصادية بين الدول الكبرى، مع الدعوات المباشرة وغير المباشرة إلى ضرورة الانخراط فى المعركة المقدسة ضد "الأنظمة العالمية" التى يعتبرها التنظيم عدوًا للإسلام. هذه الاستراتيجيات الدعائية ترتكز على تصوير الأحداث الراهنة على أنها علامات على قرب النهاية للنظام الغربي، وأن المجاهدين هم فقط القادرون على إيقاف هذه الموجة الهائلة من الانهيارات السياسية والاقتصادية.
من خلال تسليط الضوء على الأزمات الاقتصادية التى يسببها "الطاغوت الأمريكي" و"الصليبيون"، يهدف التنظيم إلى نقل القارئ إلى قناعة مفادها أن الوقت قد حان لاتخاذ موقف حازم ضد هذه القوى، ولتعبئة الجهود الدينية والجهادية. هذا التوظيف السياسى والاقتصادى يخلق شعورًا بوجود خطر محدق يجب التصدى له من خلال الجهاد، ويربط بشكل واضح بين التحديات الاقتصادية الكبرى والحاجة الماسة إلى تحرك جهادى على الأرض. فى هذه الحالة، يصبح الجهاد ليس فقط وسيلة للدفاع عن الإسلام، بل أداة لتحقيق العدالة وإزالة النظام الظالم الذى يراه التنظيم مُهيمنًا على العالم.
تستمر الافتتاحية فى تصوير "المجاهدين" كطائفة منقذة، تم اختيارها من قبل الله للوقوف فى وجه هذا "الطاغوت". من خلال هذا السرد، يروج التنظيم لفكرة أن المجاهدين ليسوا مجرد مقاتلين، بل هم أبطال مُقدَّرون فى معركة وجودية كونية ضد قوى الشر، المتمثلة فى الغرب والأنظمة المتحالفة معه. هذه الصورة المثالية للمجاهدين تقوم على تصويرهم كحماة للأمة الإسلامية، ومجددين لها فى لحظة تاريخية فارقة. هذه الإيديولوجيا المتطرفة تُستخدم بشكل متكرر لتعبئة الأتباع وتحفيزهم على اتخاذ خطوات ملموسة نحو الانضمام إلى صفوف المجاهدين، باعتبارهم الطائفة المنصورة التى ستقود العالم إلى بر الأمان.
بجانب هذا التوظيف الإيديولوجي، تسعى الافتتاحية إلى خلق حالة من الاضطراب والتوتر داخل المجتمعات المسلمة، من خلال إشعارهم بأن الوضع العالمى يتطلب استجابة جهادية سريعة وحاسمة. هذه الدعوة تتجاوز التحليل السياسى الاقتصادى لتصبح دعوة شاملة للجهاد الذى يُصور على أنه الحل النهائى للانتصار على الأعداء. التنظيم يعرض نفسه كممثل حقيقى للإسلام، ويُروج لخطاب دينى يربط بين الحق الإلهى والقتال ضد "الطاغوت". فى هذه المرحلة، يصبح الانخراط فى الجهاد ليس مجرد خيار، بل واجبًا دينيًا مُلحًا، وهو ما يحاول التنظيم غرسه فى أذهان أتباعه.
الافتتاحية أيضًا تُظهر كيف يمكن استخدام الأحداث العالمية الكبرى كفرص للتجنيد، حيث يتم تحويل الأزمات الاقتصادية والظروف السياسية إلى أدوات لتحفيز الشباب المسلم على المشاركة فى الجهاد. يشير الخطاب إلى أن المواجهة مع الغرب ليست مجرد صراع اقتصادى أو سياسي، بل هى صراع نهائى سيحسمه المجاهدون الذين هم الطائفة المنصورة، مما يعزز من فكرة أن المجاهدين فى الحرب ضد الغرب هم المحاربون الذين سيُعيدون الأمور إلى نصابها، ويحققون النصر النهائى للإسلام. هذا السرد يشجع على رؤية الجهاد كوسيلة حتمية لإنقاذ الأمة الإسلامية من فخاخ النظام العالمى الذى يراه التنظيم فاسدًا وغير صالح.

قراءة نقدية 

افتتاحية العدد ٤٩١ من صحيفة النبأ تكشف عن براعة تنظيم داعش فى استغلال الأزمات الاقتصادية والسياسية ليس فقط لتقديم تحليل للأوضاع، بل لتعزيز وتوجيه الخطاب الدينى المتطرف نحو تحفيز العنف والجهاد. التنظيم لا يكتفى بتشخيص الواقع السياسى والاقتصادي، بل يقوم بتوظيف هذه الأزمات كدعامات أساسية لترسيخ فكرة "العدو الوجودي" الذى يجب محاربته. من خلال استغلال الأحداث الكبرى مثل الأزمات الاقتصادية والتوترات السياسية، يسعى التنظيم إلى تغذية خطابات الكراهية والتمرد على النظام العالمي، ما يعزز من شعور الإحباط لدى المتلقين ويساعد فى دفعهم نحو تبنى رؤى أيديولوجية متطرفة.
هذه الافتتاحية تشكل جزءًا من معركة أيديولوجية مستمرة تهدف إلى إعادة تشكيل الوعى الجماعى للشباب المسلمين، حيث يتم استخدام الأزمات العالمية كأدوات دعائية لخلق بيئة مواتية لتجنيدهم فى صفوف التنظيم. التنظيم يُعزز فكرة أن العنف والجهاد هما السبيل الوحيد لمواجهة الهيمنة الغربية والظلم الذى يروج له النظام العالمي. من خلال هذه السردية، يضع داعش نفسه كحامٍ للإسلام ومجدد له، مما يجعل الدعوة للجهاد جزءًا أساسيًا من التحفيز للمشاركة فى معركة مسلحة ضد ما يُعتبر تهديدًا لوجود الأمة الإسلامية.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تنظيم داعش الأزمة الاقتصادیة الأمریکیة السیاسات الاقتصادیة الاقتصادیة العالمیة فى الولایات المتحدة الأبعاد الاقتصادیة الأزمات الاقتصادیة یسعى التنظیم إلى الاقتصادیة التى النظام العالمی هذه الأزمات من خلال هذه التنظیم لا هذا الخطاب تنظیم داعش هذه الصورة لیست مجرد من الخطاب من الفوضى التنظیم ی لا یقتصر على أنها ضد الغرب فى الغرب یساهم فى مع الغرب الذى یجب جزء ا من فى حالة على أنه م الغرب لیس فقط حالة من فکرة أن جزء من صراع ا فى هذه شعور ا الذى ی على أن فى هذا وهو ما

إقرأ أيضاً:

سيناريوهات ومخاطر تشكيل النظام العالمي الجديد

ثمّة مخاوف وقلق كبيران ينتابان الكثير من المراقبين للعلاقات الدولية حول المنحى الذي يتجه إليه العالم في هذه اللحظة الحرجة من عمر الإنسانية، فالكلّ يراهن على أنّ ثمة مخاطر جيوسياسية آخذة في التبلور يومًا بعد يوم؛ بسبب بعض المتغيرات على صعيد بنية النظام الدولي وأطرافه الفاعلة بصفة عامة، والولايات المتحدة بصفة خاصة باعتبارها القوى العظمى التي يتجاوز تأثيرها محيطها الداخلي.

وتظهر هذه المخاوف ومنطقيتها بإجراء مقارنة بسيطة بين ما قاله الرئيس رونالد ريغان في خطاب الوداع الأخير الذي قدمه في الثامن من يناير/ كانون الثاني عام 1989، وبين الواقع الذي آلت له الأمور في واشنطن اليوم.

فقد أشار ريغان في ذلك الخطاب بالقول: " كانت ثورتنا أوّل ثورة في تاريخ البشرية تُغيّر مسار الحكومات تمامًا، وبكلماتٍ ثلاث: "نحن الشعب". "نحن الشعب" نُملي على الحكومة ما يجب فعله؛ لا تُمليه علينا. "نحن الشعب" السائق؛ والحكومة هي السيارة. ونحن نُقرر إلى أين تتجه، وبأي طريق، وبأي سرعة".

وبغض النظر عن الاختلاف مع ميراث سنوات ريغان وانعكاساتها السالبة على منطقة الشرق الأوسط، فإنّ الأمر الذي يمكن الاتفاق عليه آنذاك هو قدرة العالم على التعامل مع أميركا باعتبارها دولة مؤسسات، وبالتالي إمكانية التنبّؤ بسلوكها، على خلاف فترة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحالية التي يتحكم فيها شخص واحد لا يُمكن التنبؤ بسلوكه أو بخياراته القادمة.

إعلان

ومن هنا فإن هذا المقال معني بتقديم رؤية تحليلية حول مستقبل التحولات المتوقعة على صعيد بنية النظام الدولي، وذلك من خلال الإجابة عن التساؤلات الآتية:

ما مخاطر النزعة القومية الشعبوية التي يتبناها ترامب على الأمن الدولي؟ هل تدخل سياسة التعريفات الجمركية التي فرضها على العالم ضمن سياق الأدوات الشعبوية؟ إلى أي مدى تدفع هذه السياسات الراديكالية التي تنتهجها واشنطن في ضخ الدم والأكسجين اللازمين في جسد المشاريع المناوئة لدى روسيا والصين والتي لا تقل شعبوية عن نظيرتها الأميركية؟ هل انتهى عصر الهيمنة الأميركية وما مساهمة ترامب في الدفع بهذا الاتجاه؟ وما هي خيارات منطقة الشرق الأوسط إزاء ما يجري من متغيرات؟ النزعة القومية وحصادها

تُعدّ القومية مدخلًا مهمًا لفهم بعض التطورات السياسية في عالمنا المعاصر، وكثيرًا ما تُنتقد باعتبارها عقيدةً غير عقلانية وظاهرةً مَرضيةً ترتبط بظهور حركات اليمين الشعبوي المتطرف، وترافق تصاعدها مع انتشار حالة من الاستقطاب الاجتماعي والسياسي، والنزعة التوسعية، والانقسام، والعدوان.

وبإسقاط المقاييس أعلاه فإن صعود ترامب للمسرح السياسي منذ العام 2016 وإلى اليوم، يمثل تعبيرًا عن تلك النزعة القومية المرتبطة بإحساس غالبية السكان البيض في أميركا بأنّهم في طريقهم لفقدان رأس مالهم الاجتماعي المستند إلى نفوذهم السياسي والاقتصادي، ومن هنا جاءت مساندتهم المطلقة لترامب في الانتخابات الأخيرة، بل تصاعد الأمر ووصل مرحلة إحساس البعض منهم بأن ترامب شخص مقدس أرسله الله لإنقاذهم، وبالتالي بات يُنظر إلى كل سياساته وأفعاله في هذا السياق الأيديولوجي الضيق.

فباتت نزعة ترامب القومية المرتكزة على شعار أميركا أولًا، ذات طابع يميني شعبوي مناهض للهجرة، وصل إلى مرحلة أن أطلق عليه البعض ما يُسمى بـ"القومية البيضاء"، وهنا تجب التفرقة بين ما يسمى بالوطنية الصالحة التي تعني مراعاة مصالح الدولة وأمنها الوطني، وبين تلك الأيديولوجية ذات الطابع العنصري التفوقي.

إعلان

وتاريخيًا يمكن القول إنّ هذه النزعة التفوقية وتصاعدها كانت ضمن الأسباب الرئيسية التي قادت إلى الحرب العالمية الثانية، وتمثل ذلك في صعود الأنظمة الفاشية في أوروبا، واليابان، مدفوعة بالقومية الشديدة والعدوان المتزايد، ومثل موسوليني أحد أبرز روادها في إيطاليا، وقد استخدم أساليب الترهيب والدعاية للحفاظ على السيطرة وزراعة المخاوف في نفوس الناس.

في ذات المنحى فإن صعود أدولف هتلر وحزبه النازي إلى السلطة في ألمانيا، جاء عبر استغلال مخاوف البسطاء ووعدهم باستعادة الكرامة الوطنية، وإظهار ألمانيا كضحية للإمبريالية، وقاد ذلك ليصبح نظام هتلر عدوانيًا، وقام بغزو الدول المجاورة، وهذا ما قامت بفعله اليابان في شرق آسيا من خلال غزو إقليم منشوريا التابع للصين عام 1931، مما مهد الطريق لمزيد من الصراع، وفي النهاية قاد إلى الحرب العالمية الثانية.

وبإسقاط ذلك على الحالة الترامبية، فإن هذه الشخصية تستخدم ذات اللغة والتكتيك عبر التلويح بغزو كندا، وغرينلاند، وضم خليج المكسيك وتهجير أهالي غزة، ويمكن فهم سياسة رفع التعريفة الجمركية كإحدى الأدوات المربكة للتجارة الدولية في هذا السياق الشعبوي الذي ربما قاد لنتائج لا تختلف عن تلك التي قادت العالم لفقدان ما بين 70 إلى 80 مليون نسمة إبان الحرب العالمية الثانية.

الحرب الجمركية.. آثار جيوسياسية

يمثل الثاني من أبريل/ نيسان الجاري، والذي أسماه ترامب بيوم التحرير علامة فارقة على صعيد تعميق الحرب التجارية بين أميركا وبقية العالم من جهة، وبين أميركا والصين من جهة أخرى على وجه الخصوص.

ويُمثل سرد ترامب المظالم التاريخية التي تعرضت لها أميركا كأحد أهم الأسباب التي دفعته لاعتماد هذا النوع من الإجراءات الحمائية، امتدادًا لفكرة الشعبوية والنزعة القومية التي ربما قادت لنوع من التصادم بين أميركا وبقية العالم في مرحلة ما، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الولايات المتحدة تعد من كبرى الدول المستفيدة من الثروة الاقتصادية التي تراكمت خلال الخمسين عامًا الماضية، خاصةً الطبقة العليا في المجتمع الأميركي، والتي تشمل رجال الأعمال، والسياسيين، والعسكريين، ومن ورائهم المجمع الصناعي العسكري.

إعلان

فالإبقاء على نسبة الرسوم الجمركية البالغة 10% المفروضة على كل الواردات القادمة لأميركا، يأتي في اتجاه تعزيز الصناعات الوطنية الأميركية، وتوفير وظائف للعديد من الأميركيين كنتيجة للتوطين الصناعي المفترض، رغم أنّ هذه النسبة تُشكّلُ ضغطًا كبيرًا على المستهلك الأميركي، وربما تؤدي في وقت لاحق إلى ركود اقتصادي يقود إلى تعميق حالة الانقسام المجتمعي الناتجة عن سوء الأوضاع الاقتصادية المرتبطة بعدم اليقين من جهة، وتعزيز حضور الخطاب الشعبوي الذي يبرر لهذه الإجراءات.

والمعروف أنّ تمدد هذا النوع من الخطاب ذي النزعة القومية الشعبوية يجعل من الصعب تقديم رؤية نقدية بناءة حول جدوى هذه الرسوم بالنسبة للولايات المتحدة، وطرح بدائل أخرى يمكن أن تفيد الاقتصاد الأميركي على المدى الطويل.

وكما هو معلوم أنّ التعريفات الجمركية لم تعد أداةً فعّالة لمعالجة قضايا التجارة الحديثة، مثل سرقة الملكية الفكرية ونقل الوظائف إلى الخارج، نظرًا للأضرار المحتملة التي قد تلحق بالاقتصاد، وبالتالي فإنّ إجراءات إنفاذ القانون، لمعالجة قضايا مُحددة دون الإضرار بالاقتصاد الأوسع تُعد التِرياق الأفضل.

وفي سياق ذي صلة، فإنّ الرسوم المفروضة على بقية الدول والتي تأتي على رأسها الصين، اعتمدت على الموازين التجارية لكل دولة على حدة مع الولايات المتحدة، وكان نصيب الصين هو الأكبر من بين كل الدول، إذ بلغت 145%، مقابل 125% فرضتها الصين على المنتجات الأميركية. وتُمثل هذه الأرقام مؤشرًا لحجم التنافس والتوتر بين القوتين، والذي وصل مداه من خلال هذه الحرب التجارية.

والسؤال الذي ما يزال مطروحًا هو: هل سيستمرّ التنافس بين القوتين بشكل سلمي، أم إنّ الأمر سينتهي بمواجهة عسكرية تُمثل الحرب التجارية فصلًا من الفصول المؤدية لها؟

وبمنطق النظرية الواقعية الهجومية والتي تُعدّ أقرب المداخل النظرية التي يُمكن أن تُجيب عن التساؤل المطروح، فإنّ المواجهة العسكرية بين الولايات المتحدة والصين قادمة لا محالة، وذلك من واقع أن نشوء وسقوط الإمبراطوريات يخضع لمنطق المواجهة العسكرية في مرحلة من المراحل.

إعلان

وبالتالي، فإنّ استمرار الحرب التجارية بين الطرفين، وبهذا التصعيد والتصعيد المتبادل، سيقود لخلق أوضاع محفزة للمواجهة الشاملة، رغم أنّ الطرف الصيني حريص على تجاوز عملية البناء والاستعداد للسيطرة العالمية بنوع من الصبر الإستراتيجي الذي يأخذ بعين اعتباره الهدف الأسمى والتركيز عليه دون الدخول في مواجهات فرعية يمكن أن تعوق بكين عن الوصول لهدفها.

ورغم أنّ ترامب أعلن وقف الإجراءات الحمائية لمدة 90 يومًا، فإنّ ذلك لن يُغير من معادلة التصادم الإستراتيجي المحتمل بين الغريمين حال استئنافها لاحقًا.

ومن منظور تحليلي فإنّ الولايات المتحدة قد استفادت من التجارة الحرة والتعاون الدولي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأسهم ذلك التعاون في منع الكثير من الكوارث، ولعبت واشنطن دورًا رئيسيًا في إعادة بناء الاقتصادات الأوروبية عبر مشروع مارشال.

بيدَ أننا نجد اليوم من بين المفارقات أن تصاعد القومية والشعبوية داخل أروقة البيت الأبيض، قاد إلى أن تدير أميركا ظهرها لحلفائها الأوروبيين كأقرب الشركاء.

ومن المتوقع أنّ الحمائية التي ينتهجها ترامب ربما تؤدي إلى تراجع عالمي في الإنتاجية، وزيادة خطر الصراع بين واشنطن وبكين، وبالتالي فإنّ تلك المواجهة المحتملة سيكون لها آثار جيوسياسية خطيرة للغاية، والتي ليس أقلها الدفع بتقوية المشاريع المتصادمة بين القوى الكبرى، وإحداث نوع من التغيير في موازين القوى العالمية.

صراع المشاريع المتصادمة

إنّ تصاعد النزعة القومية والسعي لتوظيف تلك النزعة في مخاطبة أشواق وأحلام شرائح اجتماعية كبيرة ليس مقصورًا على أميركا ترامب، بل نجدها حالة ماثلة داخل روسيا بوتين، وداخل الصين ورجلها الذي يتحكم في كل أمر، شي جين بينغ.

فالمشروع الروسي يستند إلى الأفكار الرئيسية التي وردت في كتاب "أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي" لمؤلفه الذي يُعد أحد أبرز المفكرين الإستراتيجيين الروس ألكسندر دوغين، وقد كان لآرائه دور بارز في استيلاء موسكو على القرم عام 2014، والغزو الروسي لكييف 2022، واستماتة بوتين في الحرب حتى اليوم.

إعلان

وقد ضُحي بعشرات الآلاف في دعم تصورات دوغين بشأن أوكرانيا، والتي يعتبرها الروس امتدادًا للوطنية الروسية، ومدخلًا صحيحًا لإعادة مجدهم الإمبراطوري الذي ضاع بسقوط الاتحاد السوفياتي سابقًا.

ووفقًا لأستاذ العلاقات الدولية بجامعة شيكاغو، وأحد أهم منظري التيار الواقعي الهجومي في العلاقات الدولية جون ميرشايمر، يرى أن الرئيس بوتين تحكمه نظرة ذات ثلاثة أبعاد متكاملة ومترابطة، فأولها هو توسع حلف شمال الأطلسي "الناتو" (NATO)، وامتداده شرقًا في اتجاه حدود بلاده، وثانيها توسع وتمدد الاتحاد الأوروبي، وآخرها التبشير بحتمية تحقيق الديمقراطية الليبرالية على النسق الغربي في كل دول القارة الأوروبية.

والملاحظة الجديرة بالاهتمام هنا هي أنّ ألكسندر دوغين يُعدُ أهم المساهمين في صياغة التوجّهات الكبرى للإستراتيجية الروسية التي تظهر في تصورات بوتين ذات النزعة القومية الرامية لجعل روسيا ضمن نادي الكبار في العالم.

وبالتالي فإنّ نزعة ترامب الشعبوية القائمة على تهميش دور المؤسسات المنتخبة وإدارة ظهره للأوروبيين أعداء بوتين، تضخّ الهواء في رئة المشروع الروسي الذي يتصادم كلية مع فكرة هيمنة أميركا على الشأن الدولي.

في منحى متصل بدور ترامب ونزعته الوطنية الشعبوية في إعادة بعث الحياة للمشروعات المتصادمة، فإن التصعيد مع بكين والدخول معها في حرب تجارية يُعد محفزًا وطنيًا ورافدًا مهمًا للمشروع الصيني الذي يستمد جذوره من رغبة الصين وحرصها على عدم تكرار ما يُعرف بعصر الإذلال الوطني، والذي بدأ بحرب الأفيون الأولى (1839-1842)، وانتهى في عام 1945 بخروج الصين (جمهورية الصين آنذاك) من الحرب العالمية الثانية كواحدة من الدول الأربع الكبرى واعتمادها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة.

وقد عانت الصين من ثلاثة أنواع من الخسائر خلال قرن الإذلال من قبيل فقدان الأراضي؛ وفقدان السيطرة على بيئتها الداخلية والخارجية؛ وفقدان المكانة والكرامة الدولية.

إعلان

وترافق ذلك مع هزيمة الصين في الحرب الصينية اليابانية الأولى وتوقيع معاهدة شيمونوسيكي التي عُدت مهينة مع الإمبراطورية اليابانية في عام 1895، وأصبحت الصين تعتبر "الرجل المريض في آسيا"، وتزايدت طموحات القوى العظمى للتنافس على المناطق الحيوية في الصين بشكل كبير.

هذه المآسي ما تزال حاضرة في ذهن الشعب الصيني وصناع القرار ومتخذيه. فسياسات واشنطن التي تستهدف ضرب الاقتصاد الصيني ومحاصرة بكين يُمكن أن تتحول إلى محفز وطني يعجل من أمد التصادم المتوقع، وبالتالي فإنّ شعبوية ترامب ونزعته الوطنية القائمة على إلغاء الآخر تُعدان بيئة حاضنة لنمو عالم متعدد الأقطاب وليس قطبًا واحدًا مهيمنًا في ظل تنامي المشاريع المتصادمة.

نظام عالمي جديد مسرحه الشرق الأوسط

ليس بمقدور أي باحث أو أكاديمي معاصر يودّ الحديث عن نظام عالمي جديد أن يتجاوز كتاب "النظام العالمي" لهنري كيسنجر الصادر في نسخته الإنجليزية في العام 2014، والذي صدرت ترجمته العربية في العام 2016 عن دار الكتاب العربي ببيروت، حيث يُعد من الكتب المهمة التي تتناول التحولات التي يشهدها النظام العالمي.

يرى كيسنجر أن النظام العالمي يتغير بشكل كبير، وأن الولايات المتحدة تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى.

وهذا الكتاب يرد على الدعاوى التي يرددها بعض منسوبي إدارة الرئيس ترامب بأنّ التعريفات الجمركية التي تم فرضها تُمثل إستراتيجية تفاوضية بغرض الوصول لنتائج أفضل، وبالتالي تعزيز الاقتصاد الأميركي، ومن ثم تعزيز سيطرة أميركا كقوة عظمى.

فكيسنجر باعتباره أحد صنّاع المشهد الرئيسي خلال السبعين سنة الماضية، يجزم بأنّ الولايات المتحدة ليس بمقدورها الانفراد بإدارة العالم في ظل التحديات الجديدة، ويرى أن النظام العالمي الجديد يجب أن يكون متعدد الأقطاب، مشتركًا بين الولايات المتحدة والصين، وأن الاقتصاد العالمي يجب أن يسوده اقتصاد السوق.

إعلان

وبالتالي أي إجراءات شعبوية أو حمائية لن تفلح في إيقاف عجلة الزمن وحتمية التحول القادم، ويمكن القول إنّ ما يقوم به ترامب هو عملية تسريع للمعادلة القادمة التي ليس فيها طرف واحد مهيمن.

ولعل أبرز عمليات تسريع فك الانفراد الأميركي التي تطوع دونالد ترامب بفعلها إن كان واعيًا أو لم يكن يعي ذلك، هو ضرب روح القانون وسيادة المؤسسات وعلوها على الأفراد.

فسيادة القانون تُعد إحدى أهم قواعد النظام الأميركي، ومن بين مصادر قوته، وبات الرجل يسير على خطى الدكتاتوريات المطلقة دون أن توقفه المؤسسات المناط بها القيام بالأدوار الرقابية.

أمر آخر هو إدارة ظهره لشركائه الأوروبيين، وابتعاده عن الناتو، وهذا مُبتغى منافسيه الكبار -كالصين وروسيا – الذين لم يدفعوا دولارًا واحدًا للوصول لتلك النتيجة التي تكشف ظهر غريمهم الأميركي، بجانب أنّ إعاقة عمل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) التي أسسها الرئيس جون كينيدي عام 1961، والتي تُعنى بإدارة المساعدات الخارجية للمدنيين، أضاعت فرصة كبيرة كانت تستغلها واشنطن للتأثير على كثير من البلدان في اتجاه تعزيز نفوذها الدولي.

يُمثل قطع التمويل عن الكثير من البرامج البحثية والأكاديمية التي تُعد حجر الزاوية في تفوق أميركا العلمي والابتكاري أحد أهم مظاهر التراجع، والذي سيكون له أثر بعيد المدى في إطار قدرة واشنطن على التنافس الإستراتيجي مع الصين.

والنقطة الجديرة بالاهتمام هنا لصناع القرار والباحثين في الشرق الأوسط، هو أنّ هذه المنطقة ستكون أحد أهم مسارح التفاعل المفضي لظهور نظام عالمي جديد، وبالمؤشرات السياسية الآنية فإنّ الإقليم غير مؤهل ليكون طرفًا في معادلة التحول القادمة، بل سيكون متأثرًا بما سيجري.

وتُعد ملفات مثل طبيعة الشراكات الناشئة بين دول المنطقة والصين على الصعيد الاقتصادي، وملف العلاقات مع إيران وطبيعة الدور الذي سترسمه لنفسها، أو ذلك الذي يُمكن أن يفرض عليها، بجانب القضية الفلسطينية وتداعياتها، فضلًا عن تأمين طرق الملاحة البحرية من الأمور الحاسمة في طريق تشكيل نظام دولي جديد.

إعلان الخلاصة

يمكن القول إنّ مستقبل التحولات المتوقعة على صعيد بنية النظام الدولي، يتجه نحو إرساء دعائم منظومة دولية متعددة الأقطاب ليس فيها طرف مهيمن بل أطراف عديدة أبرزها الولايات المتحدة، والصين وروسيا.

ويعتبر وصول ترامب للسلطة وتصاعد النزعة القومية الشعبوية التي ميزت بداية فترته الرئاسية الثانية، والتي لم تتجاوز الثلاثة أشهر من بين المتغيرات الرئيسية التي تدفع بقوة نحو إقرار هذه المعادلة الجديدة.

وتُمثل السياسات الحمائية التي اعتمدتها الإدارة الجمهورية الحالية مدخلًا من مداخل المواجهة المباشرة بين بكين وواشنطن، والتي ربما انتهت بمواجهة عسكرية مباشرة لحسم جدل كيفية الانتقال لنظام عالمي جديد يرتكز على أسس وشروط مغايرة لتلك التي تمّ إقرارها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

وبالتالي فإنّ كل المؤشرات الآنية تُنبئ عن حتمية التصادم بين المشاريع المناوئة التي يقف على رأسها شي جي بينغ، وترامب وفلاديمير بوتين.

ومن المتوقع أن تتصاعد المخاطر الجيوسياسية التي سيشهدها العالم بشكل عام، ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص؛ بسبب الصدام المحتمل بين واشنطن وبكين.

ومن المرجح أنّ الشرق الأوسط وموارده ستكون محط أطماع المتصارعين الكبار في إطار سعيهم لإقرار معادلة الهيمنة القديمة، أو تفكيك النفوذ ورسم أخرى جديدة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الرقائق.. والذكاء الاصطناعي تفتح أبواب الصراع العالمي بين أمريكا والصين
  • منجي بدر: الحرب الاقتصادية بين أمريكا والصين ستؤثر على جميع دول العالم| فيديو
  • "المناطق الاقتصادية" تؤكد أهمية الإبداع والابتكار في "اليوم العالمي"
  • مخاطر الحرب الاقتصادية العالمية الثالثة
  • باتروشيف: الصين أصبحت الآن القوة الاقتصادية البحرية الأولى في العالم
  • المشيطي: الأزمة الاقتصادية وصلت نقطة اللاعودة.. وعودة الحرب غير مستبعدة
  • سيناريوهات ومخاطر تشكيل النظام العالمي الجديد
  • منى أحمد تكتب: شم النسيم عيد كل المصريين
  • السودان… حرب تُدار بالذهب والولاءات لا بالبنادق