طوق نجاة أم طوق خنق وحصار.. كيف تحولت الأنظمة العربية إلى درعٍ يحمي الاحتلال؟
تاريخ النشر: 23rd, April 2025 GMT
يمانيون../
في خضمّ نيران التصعيد الصهيوني المستمر على قطاع غزة، لا يكاد الفلسطيني يجد فسحة أمل، أو سندًا حقيقيًا من “الأشقاء العرب”، الذين باتت بعض أنظمتهم -بشكلٍ علني أو مستتر- تمارس سياسة الطوق حول المقاومة، ليس لحمايتها، بل لخنقها.
فعلى وقع المجازر التي يرتكبها الاحتلال في غزة، تسود حالة من الصمت العربي الرسمي، تتجاوز الحياد إلى ما هو أخطر؛ محاولات فرض الاستسلام على المقاومة، وشرعنة التنسيق مع كيان الاحتلال في دول “طوق فلسطين” كالأردن ومصر ولبنان وسوريا وتركيا.
هذا التحول المشهود لم يعد مجرد اجتهاداتٍ فردية أو انعكاس لبيانات فصائل الجهاد والمقاومة، بل ملامح نهج سياسي قيد التشكيل بإشرافٍ أمريكي مباشر، هدفه خنق المقاومة الفلسطينية وإعادة رسم الميدان السياسي والعسكري بما يخدم مصالح الاحتلال وحلفائه.
السكين من الخلف: اعتقالات وتضييق واتهامات
لم تكتفِ بعض الدول العربية بالتخلي عن واجبها الديني والقومي تجاه غزة، بل مضت إلى ما هو أبعد، حين باتت تتعامل مع فصائل المقاومة وكأنها الخطر الحقيقي لا الاحتلال الصهيوني.
في سوريا، تم اعتقال اثنين من قادة “سرايا القدس” دون توضيحٍ أو مبرر، في وقتٍ يؤكد فيه جناح الجهاد الإسلامي أنهم من خيرة كوادرها، ممن نذروا حياتهم لدعم المقاومة على الأرض السورية وفلسطين.
وفي لبنان، أوقفت مخابرات الجيش اللبناني عناصر من حركة حماس، وفتح القضاء اللبناني تحقيقًا عاجلًا، رغم أن الروايات تشير إلى أنهم شاركوا في إطلاق صواريخ على الاحتلال الصهيوني الذي يستبيح الأرض والسيادة اللبنانية.
أما في الأردن، فقد اختارت الحكومة الطريق الأمني لمواجهة من تعتبرهم “مخربين”، رغم أن المعلن في خلفيات القضايا يرتبط بمحاولة دعم المقاومة الفلسطينية.
وعلى الفور، تم وصم المعتقلين بالإرهاب، فيما تبرأت جماعة الإخوان المسلمين الأردنية من الأفراد المتهمين رغم وضوح الخلفية السياسية المناصرة لغزة.
التحرك الأردني، الذي حظي بدعمٍ لبناني رسمي ومن رئيس الوزراء، يعكس تناغمًا مقلقًا في تضييق الخناق على كل من يخرج عن “الصف الرسمي” ويعبّر عن دعمٍ حقيقي لمقاومة غزة.
اليوم الثلاثاء، أصدرت حركة المقاومة الإسلامية حماس، بيانًا أوضحت فيه اطلاعها على مجريات وتفاصيل القضية المتعلقة باعتقال مجموعة من الشباب الأردنيين.
وأكدت أنها على ثقة بأن “أعمالهم جاءت بدافع النصرة لفلسطين، ورفض العدوان الصهيوني المتواصل على غزّة، والدفاع عن القدس والمسجد الأقصى المبارك، مشيرةً إلى أنهم لا يشكلون “بأي حالٍ من الأحوال تهديدًا لأمن الأردن أو استقراره، خاصة في ظل بشاعة الجريمة الصهيونية والإبادة الجماعية المتواصلة في غزة.
الضغوط تتكامل: تطويق داخلي وإقليمي
التحركات المتوازية في عدة عواصم عربية وإسلامية ليست محض صدفة، بل تأتي ضمن مخططٍ أوسع تقوده واشنطن بالشراكة مع حكومة الاحتلال لإعادة تشكيل المنطقة بما يضمن تحييد محور المقاومة.
هذا ما يفسر الضغوط الإعلامية والسياسية على حماس والجهاد الإسلامي، وتكثيف مراقبة كوادرهم في الخارج، بل واعتقالهم حين يلزم.
الضغوط لم تعد تقتصر على حدود الجغرافيا، بل تمتد لتشمل حرية التقييد في الحركة والتواصل وحتى مع منظمات العمل الإنساني، في محاولاتٍ خبيثة لنزع المشروعية الأخلاقية عن فصائل الجهاد والمقاومة، وتأليب الشارع الفلسطيني عليها.
وفي مشهدٍ بائس، تحاول بعض الأنظمة أن تُظهر المقاومة وكأنها سبب المأساة، متناسية أن من ينتهك التفاهمات والاتفاقيات ويقصف بلا توقف ولا رحمة هو الاحتلال الصهيوني، لا من يدافع عن شعبه المظلوم والأعزل.
الإعلام العربي والخليجي تحديدًا، يقوم بالترويج لفكرة “الواقعية السياسية” وكأنها تبرر الانبطاح الكامل، بينما يتم التشكيك في نوايا المقاومة الفلسطينية وتضخيم أي تحرك عسكري في غير غزة وكأنه فعل إجرامي، فيما تغض الطرف عن الإبادة المستمرة في القطاع.
واللافت اليوم أن بعض الأنظمة العربية تحولت من شركاء مفترضين في مشروع الجهاد وتحرير فلسطين، إلى أدوات في مشروع تصفية قضيتها.
ومع ذلك، تثبت غزة كل يوم أن المقاومة ليست مجرد بندقية، هي روح وفكرة لا تموت، ومن طوق العار المفروض عليها، ستصنع نصرًا، ومن بين الركام ستكتب فجرًا جديدًا، لأن غزة هاشم لا تُخنق، فمن يضيّق عليها اليوم باسم “أمنه” أو “واقعيته السياسية”، فليقرأ التاريخ: لم ينتصر محتل، ولم يُخلّد خائن.
عبدالقوي السباعي
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
كيف يصبح مواطن عميلا للاحتلال؟
تنقسم المجتمعات أمام تحدي الاحتلال العسكري، وتتخذ مواقف متباينة، بدءا من مقاومته، إلى التعايش أو التعاون معه، وذلك وفقا لمرجعياتهم الفكرية والثقافية، وبيئتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية، وسلوك المحتل تجاههم.
ويتخذ المتعاونون والمقاومون مواقف عدائية تجاه بعضهم، لتناقض مواقفهم ولكون نجاح مسعى أحدهما يعني إفشال مسعى الآخر.
ولاستكشاف طبيعة هذا الصراع يجدر إلقاء النظر على تجارب تاريخية له، بما يشمل تجارب من دول أوروبية عديدة تحت الاحتلال النازي، والهند تحت الاحتلال البريطاني، وفلسطين تحت الاحتلالين البريطاني والإسرائيلي.
يقدم المؤرخ المجري-الأميركي إشتفان ديك في كتابه "أوروبا في المحكمة" صورة لانقسام المجتمعات الأوروبية بشأن الموقف من الاحتلال النازي أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي اتخذت 4 مواقف رئيسة، هي:
التكيف: أي محاولة العيش بسلام مع الاحتلال، دون انخراط في أي عمل سياسي أو عسكري. التعاون: أي الانخراط الفعال مع سلطات الاحتلال، لأسباب أيدلوجية أو مصلحية. المقاومة: إعاقة الاحتلال من خلال أعمال التخريب أو التوثيق أو حماية المضطهدين. الانتقام: وذلك بالعقوبات القضائية والتطهير السياسي والأعمال الانتقامية -الرسمية والشعبية- التي حصلت بعد زوال الاحتلال.ويشير ديك إلى أن التعاون مع المحتل كان منتشرًا ومعقدًا؛ ففي معظم أنحاء أوروبا، لم يكن هناك انقسام واضح بين "الخونة" و"المقاومين". وتعاونت شعوب مثل سكان جزر القنال البريطانية مع المحتلين بشكل واسع. واختارت السلطات المحلية والنخب الاجتماعية في كثير من الدول التعاون إما بدافع الخوف أو المصلحة.
إعلانولم يكتف بعض المتعاونين بالتواطؤ الصامت مع الاحتلال، بل اتخذوا مواقف عدائية مباشرة ضد المقاومين، إذ سعوا لتصفية مقاومين بالتعاون مع الاحتلال، واستخدموا نفوذهم لإقصاء معارضيهم المحليين أو الإبلاغ عنهم.
ولم يكن ذلك دائما بناء على أوامر مباشرة من النازيين، بل أحيانا بدافع المصلحة أو الكراهية الشخصية، وأسهموا في خلق عداء شعبي للمقاومين، بوصمهم بأنهم مغامرون خطرون يهددون استقرار المجتمع. إضافة إلى دورهم في اختراق جماعات المقاومة والوشاية بها بما أدى إلى اعتقال أو إعدام بعض قادتها.
أما بعد الحرب، فقد سارع كثير من المتعاونين السابقين إلى إعادة تشكيل روايتهم، ووصف أنفسهم بأنهم كانوا مجرد "وسطاء" بل حتى "مقاومين متخفّين".
وتظهر التجربة الأوروبية أن المجتمعات كانت معقدة ومتذبذبة، إذ تعاون البعض مع الألمان ثم مع السوفيات، أو العكس، فيما كان تغير الولاءات شائعا في بلدان مثل أوكرانيا وهنغاريا وسلوفاكيا.
فقد قامت معظم الدول الأوروبية، سواء في المعسكر الغربي أو الشرقي، بعد الحرب، بخلق سرديات زائفة تدّعي أنها ضحايا للنازية وأن شعوبها ساهمت في المقاومة. وأخفى هذا الخطاب تعاون الكثيرين، ورفع المقاومة إلى مرتبة "الأسطورة الجماعية".
ويوجه ديك نقدا حادا لتقاعس الشعوب والحكومات الأوروبية عن الاستعداد للحرب ولتواطئهم في جرائم تطهير عرقي، ويرى أنه على الرغم من أن محاكمات ما بعد الحرب كانت غير عادلة غالبا ومدفوعة بالانتقام أو الأيديولوجيا، فإنها في المقابل أرست مفهوم "الجرائم ضد الإنسانية".
حكومة فيشي وفلسفة الخيانةعقب هزيمة فرنسا أمام ألمانيا النازية عام 1940، نشأ نظام فرنسي متعاون مع الألمان على جزء من الأراضي الفرنسية، بقيادة المارشال فيليب بيتان، من مدينة فيشي، وقدمت هذه الحكومة نفسها كحكومة إنقاذ وطني، تهدف إلى الحفاظ على السيادة الفرنسية ومؤسسات الدولة، لكنها في الواقع كانت متعاونة بعمق مع الاحتلال النازي، وتلاحق المقاومين له، وتطوع النظام الإداري الفرنسي لخدمة الألمان.
إعلانوعقب الحرب سادت رواية دفاعية تزعم أن هذا التعاون مع الاحتلال كان اضطراريا. إلا أن المؤرخ روبرت باكستون في كتابه "فرنسا فيشي: الحرس القديم والنظام الجديد" يكشف أن ذلك التعاون كان مشروعا أيدولوجيا اختياريا، يقوم على أفكار، منها:
1- الانهيار يشكل فرصة تطهير تاريخية، للتخلص من "الجمهورية الثالثة" ومبادئها الديمقراطية. 2- التحالف مع القوي، دون اعتبار للعدل، إذ فضّل قادة فيشي التفاهم مع النازية لأنها قوة منظمة ومنتصرة، بدل المجازفة في مقاومة قد تؤدي إلى الفوضى أو الشيوعية.وبذلك فإن التعاون لم يُبنَ على الضرورة فحسب، بل على اعتقاد بأن لألمانيا مستقبلًا وأن فرنسا يجب أن تجد لنفسها مكانًا ضمن "أوروبا الجديدة" التي يقودها الرايخ.
3- العدو الحقيقي ليس المحتل، بل خصوم الداخل، ولذلك طوّرت حكومة فيشي أجهزة قمع موازية لأجهزة الاحتلال، وتنسق عملها معها.وللتغطية على الجوهر غير الأخلاقي لهذه السياسة اعتمدت الحكومة سلوكا يظهر قدرا من الاستقلال عن النازيين، لتبرير استمرار وجودها وتبرئة نفسها، لكنها في الواقع كانت تمارس "سيادة مستعارة" تنفذ بها أجندة الاحتلال بشكل أكثر فعالية مما لو حكم الألمان مباشرة.
كما قدمت خطابا ينظّر للتعاون مع النازيين طريقا لـ"إنقاذ فرنسا من الاحتلال الكامل"، و"حماية السيادة" من الانهيار الكلي، لكن سلوكها كان في حقيقته خضوعا مقنّعا بمبررات وطنية وأخلاقية زائفة.
كما شهدت تلك الفترة أشكالا من التعاون الاقتصادي والصناعي مع الاحتلال، كما يوردها كتاب "التعاون الصناعي في أوروبا تحت الاحتلال النازي"، لهانس فرولاند وآخرين، حيث تمكن الاحتلال من التعاون المنظم مع النخب المحلية والشركات في النرويج وهولندا وفرنسا وبلجيكا والدانمارك لتأمين الإنتاج واستقرار النظام.
إعلانوكانت السياسة الألمانية في غرب أوروبا قائمة على "تطويع النخب بدل كسرها"، وفي سبيل ذلك وظفوا آليات منها:
الإغراء الاقتصادي إذ قدمت القوات الألمانية عقود شراء ضخمة ومربحة للشركات النرويجية، فوجدت بعض الشركات نفسها فجأة أمام فرصة للتوسع في الإنتاج والربح بضمان سوق ألماني ضخم، مع ضمانات رسمية بالدفع، وغالبًا بعملة قابلة للتحويل أو بتعويضات. شرعنة التعاون عبر القوانين والأنظمة؛ فبدل أن تُجبر الشركات بقوة السلاح، تم تعديل البنية القانونية تدريجيًا، بحيث يبدو التعاون "مشروعًا" في الإطار الرسمي الجديد. كما تم الحفاظ على بعض البنى الإدارية المحلية لتسهيل "الاستمرارية القانونية". التفاوض المباشر مع مديري الشركات والنخب الصناعية، فلم يتم التعامل مع المصانع وكأنها "غنائم"، بل فُتحت قنوات حوار بين السلطات الألمانية والمديرين المحليين. الاستفادة من معاداة الشيوعية أو اليسار، إذ روّجت السلطات الألمانية لفكرة أن التعاون يخدم الاستقرار ضد الخطر البلشفي. استخدام الضغط المعنوي وليس القهر المادي، إذ لم تكن التهديدات صريحة في كثير من الأحيان، بل إيحائية "إن لم تتعاونوا فسيُسلم المصنع لآخر"، أو "سنتدخل إداريًا". وجعل هذا النوع من الضغط الخفي التعاون يبدو كخيار "أقل شرًا".ويفسر الكتاب نجاح الإستراتيجية النازية في تلك البلدان بأسباب، منها غياب مقاومة منظمة، فلم تكن هناك مقاومة مسلحة واسعة، مما قلل من ثمن التعاون. وكذلك بوجود نخب اقتصادية "واقعية"، إذ كان معظم مديري الشركات براغماتيين، لا أيديولوجيين. بالإضافة إلى تماسك مؤسسات الدولة، فلم يُفكك الجهاز الإداري كليًا، بل استُخدم كجسر لتطويع الاقتصاد.
وفي ظل هذه البيئة، كانت مقاومة الاستعمار تعد "عائقا بيروقراطيا"، إذ تشير الوثائق التي يوردها الكتاب إلى أن إدارة مصنع "دي إن إن" كانت تعارض أي تعطيل في الإنتاج، حتى حين أبدى بعض العاملين سلوكًا يوصف بـ"المقاومة السلبية"، مثل البطء في العمل أو الاعتراض على عقود التوريد. وسجّل المؤرخون أن الإدارة كانت تعتبر ذلك "تشويشًا غير مسؤول" وأنها أبلغت الجهات الألمانية لتتدخل أحيانًا.
إعلانوخلال عامي 1942–1943، عمد النازيون إلى دمج الشركات الصناعية النرويجية ضمن نظام مركزي للإنتاج العسكري، ما جعل الشركات نفسها تعتمد على التعاون الكامل مع الاحتلال للحفاظ على عقودها ووجودها. وكانت أي إدارة أو شركة لا تُظهر حماسًا كافيًا، تُستبعد أو تُدرج في قوائم المراقبة، مما دفع معظم الشركات إلى تطهير داخلي غير مباشر لأي عنصر مقاوم أو معترض.
الخضوع في الهند البريطانيةوتظهر تجربة مهمة بهذا الصدد في الهند، فوفقا لما ينقله المؤرخ البريطاني "كريستوفر بايلي" في كتابه "المجتمع الهندي وصناعة الإمبراطورية البريطانية"، فإن الإمبراطورية البريطانية لم تُفرض على الهند بكاملها بالقوة، بل تطورت بفعل تعاون نخب محلية "سياسية واقتصادية ودينية" ساهمت في ترسيخ الهيمنة البريطانية على المجتمع الهندي.
وشمل هذا التعاون أشكالا منها:
تعاون نخب المقاطعات التقليديين، كالأمراء والبراهمة والتجار، خصوصا أمراء الولايات الهندية شبه المستقلة مع البريطانيين، مقابل ضمان مناصبهم ومكانتهم. واستخدم البريطانيون هذه النخب كوسيط لإدارة المجتمعات المحلية. تعاون جامعي الضرائب المحليين الذين اعتمد عليهم النظام الضريبي البريطاني، وكانوا وسطاء بين المستعمر والفلاحين، وغالبا ما كانوا أكثر قسوة من البريطانيين أنفسهم. تعاون بعض القيادات البراهمية والإسلامية ثقافيًا وأيديولوجيًا لتبرير النظام القائم، أو للحصول على امتيازات داخل النظام القضائي والتعليم الديني. تعاون نخب المدن والتجار الجدد، إذ برزت طبقة من التجار ورجال الأعمال الهنود الذين استفادوا من النظام التجاري البريطاني (الواردات، الصادرات، التموين العسكري) وأصبحوا قاعدة دعم للاستعمار.وعملت مجموعات المتعاونين بنشاط ضد مقاومة الاستعمار؛ إذ كانت بعض الزعامات المحلية من أكبر معارضي الحركات الفلاحية المناهضة للاستعمار، ودعمت الإدارة البريطانية في قمع ثورات منها ثورة عام 1857.
إعلانكما عملت الشرطة والمخبرون المحليون على ملاحقة القوميين وكتّاب الصحف الوطنية والطلاب المقاومين، وساهموا في إسكات المعارضة الفكرية من خلال التجسس والإدلاء بشهاداتهم أمام المحاكم البريطانية.
كما كان للمثقفين المرتبطين بالاستعمار دور مهم في إدامته من خلال مهاجمة مهاتما غاندي وحركة العصيان المدني في الصحافة، باعتبارها "غير واقعية" أو "مضرة بمصالح الهند الحديثة".
ويفسر المؤرخ البريطاني بايلي هذا السلوك بعوامل، منها البراغماتية السياسية، إذ آثرت هذه النخب الحفاظ على مناصبها بدلا من المجازفة بالمقاومة.
وتمكَّن البريطانيون من إعادة إنتاج الهرمية الاجتماعية مع الاحتفاظ ببعض الأنظمة الطبقية بما يعزز مصالحهم، والدمج الاقتصادي التدريجي، مع ازدهار مصالح بعض الشرائح بفعل التعاون مع الأسواق والمؤسسات البريطانية، إضافة إلى تجزئة المجتمع؛ باستغلال الانقسامات الطائفية واللغوية والعرقية مما جعل بناء مقاومة موحدة أمرا صعبا.
في حين كان الاحتلال في بعض الدول، كالهند، يسعى إلى السيطرة الاقتصادية والسياسية فقط، فقد كان يسعى في فلسطين إلى إلغاء وجود سكانها، ما جعل التعاون في فلسطين يُعد خيانة قومية بشكل أسرع وأوضح.
ويوثق أستاذ التاريخ العسكري البريطاني، ماثيو هيوز، تجربة مليشيات "فِرَق السلام" الفلسطينية المتحالفة مع الاستعمار البريطاني، والتي أسهمت بفعالية في إخماد ثورة عام 1936- 1939، وذلك في دراسته المنشورة عام 2016، بعنوان "التعاون الفلسطيني مع البريطانيين: فرق السلام والثورة العربية في فلسطين، 1936- 1939".
وتشير الدراسة إلى إسهام هذه المليشيات التي أسسها "فخري النشاشيبي" -الخصم السياسي للمفتي الحاج أمين الحسيني– في أعمال الملاحقة والاغتيال والتجسس والتحريض الإعلامي، والاصطفاف العلني إلى جانب الاحتلال.
إعلانفقد "ساعدت فرق السلام الجيش البريطاني في تعقّب وقتل القائد الثوري عبد الرحيم الحاج محمد في مارس/آذار 1939″، وقاتلت إلى جانب القوات البريطانية، كما حدث حين هاجمت فرقة تابعة للنشاشيبي قرية أبو شخيدم.
ونشر فخري النشاشيبي رسالة يتهم فيها المفتي بـ"الإرهاب" و"تحويل أهداف الثورة النبيلة لخدمة مصالحه الشخصية، وحرض أنصاره ضد الثوار، إذ "صرّح وفد من 12 مختارًا بأنهم تعبوا من الثوار.. وقالوا إن رجالهم خُطفوا من قبل الثوار والجيش". وفي الوقت ذاته، وفرت هذه الظروف "فرصة رسمية لفرق السلام للسطو والقتل والاختطاف والنهب".
وكان رد المقاومة الفلسطينية في حينها هو اغتيال فخري النشاشيبي في العراق عام 1941.
وفي الوقت الحاضر، نجحت جهود إسرائيل وداعميها في تحويل مشروع التسوية السلمية وإقامة السلطة الفلسطينية إلى أداة لإدامة الاحتلال وتخفيض كلفته، كما تظهر العديد من الأبحاث التي تتبعت نمط عمل السلطة وفلسفته وهياكله، وذلك مما لا يمكن حصوله دون وعي من الآلاف من كوادر السلطة، رغم كونهم من المنضوين في حركات تحرر وطني.
إذ تشير دراسة للباحث في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف علاء الترتير إلى أن أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، منذ تأسيسها في أعقاب اتفاق أوسلو، تطورت في اتجاه وظيفي يخدم الاحتلال أكثر مما يخدم الشعب الفلسطيني.
وتؤكد أن عملية "إصلاح القطاع الأمني"، خاصة بعد الانتفاضة الثانية، قادها المانحون الدوليون والولايات المتحدة، وأسفرت عن أجهزة أكثر مهنية من حيث الشكل، لكنها فاقدة للسيادة ومرتبطة وظيفيًا بمصالح إسرائيل الأمنية.
ويرى الترتير في دراسته المعنونة بـ"نشوء وإصلاح قوات الأمن الفلسطينية" المنشورة عام 2015، أن هذه الأجهزة أصبحت أداة رئيسية في ضبط المجتمع الفلسطيني، عبر تجريم المقاومة السياسية والمسلحة، وملاحقة المعارضين، وتحييد أي تهديد لـ"الاستقرار" كما يُعرّفه الاحتلال.
إعلانوبدلًا من أن تكون هذه الأجهزة ذراعًا لتحرير الأرض، تحولت إلى بنية أمنية تعمل تحت سقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، ما أفقد السلطة شرعيتها الوطنية، وأعاد إنتاج السيطرة الاستعمارية بوسائل محلية.
وتقدم دراسة للباحثَين رجا الخالدي وصبحي سمور تحليلًا بنيويًا لكيفية اندماج أجهزة أمن السلطة ضمن مشروع سياسي–اقتصادي نيوليبرالي كان يقوده سلام فياض تحت عنوان "بناء الدولة".
وترى الدراسة أن هذا المشروع لم يكن يهدف إلى التحرر من الاحتلال، بل إلى إعادة تشكيل الحركة الوطنية الفلسطينية بوصفها كيانًا إداريًا وظيفيًا يخدم الاستقرار الدولي والإسرائيلي.
ويُظهر الكاتبان في دراستهما المعنونة بـ"النيوليبرالية كتحرير" والمنشورة عام 2011، أن الأجهزة الأمنية في هذا السياق لم تُستخدم فقط لقمع المقاومة، بل أصبحت أداة مركزية في إستراتيجية اقتصادية-أمنية تهدف إلى فرض الانضباط المجتمعي مقابل وهم التنمية والاستقرار.
وفي هذا النموذج، يُقدَّم "الأمن" كشرط للتنمية، و"الحكم الرشيد" بديلا عن الكفاح الوطني، فيما تُدار أجهزة الأمن بعقلية السوق ومفاهيم الحوكمة الدولية، لا بمنطق التحرير والسيادة.
وباستعراض هذه الشواهد، يظهر التشابه في السلوك العسكري والأمني والاقتصادي والإعلامي للمتعاونين مع الاحتلال، وتكرار وظائفهم المرتبطة وجوديا به وبزوال المقاومة أو هزيمتها. وإسهام هؤلاء المتعاونين في إطالة أمد الاحتلال، مع السعي إلى التنصل من تبعات ذلك والالتصاق بصفة الوطنية في حال هزيمة الاحتلال أو تراجعه.