في رسالته الأخيرة الأحد الماضي بمناسبة عيد الفصح المجيد، لم يَغْفُل البابا الراحل فرنسيس عن ذكر قطاع غزة والإبادة الإسرائيلية التي يتعرض لها بدعم أمريكي، قائلا "أدعو الأطراف المتحاربة إلى وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح الأسرى، وتقديم المساعدات للشعب الجائع الذي يتطلع إلى مستقبل سلام". 

وأضاف البابا حينها: "أمام قسوة الصراعات التي تشمل المدنيين العزّل، وتهاجم المدارس والمستشفيات والعاملين في المجال الإنساني، لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بأن ننسى أن الأهداف التي يتم استهدافها ليست أهدافاً، بل هي أشخاص لهم روح وكرامة".



وجاء في تقرير لصحيفة "الغارديان" أن كلمة البابا الأخيرة "جسّدت رحلته التي استمرت 12 عاماً على رأس الكنيسة الكاثوليكية. وكان البابا خارج المؤسسة عندما اختارته لجنة الكرادلة في خلوة مغلقة، وأطلقت الدخان الأبيض عام 2013، لكنه لم ينسَ جذوره التقدمية ونشأته في الأرجنتين".


وأضاف التقرير "أعلن الكاردينال كيفن فاريل، أمين سر الفاتيكان: في تمام الساعة 7:35 من صباح اليوم، عاد أسقف روما، فرنسيس، إلى بيت الآب، بعد أن كرّس حياته كلها لخدمة الرب وكنيسته".

وعانى البابا فرنسيس، الذي توفي عن عمر ناهز 88 عاماً، في الأسابيع الماضية من أزمة صحية حادة كادت تودي بحياته؛ إذ أُدخل إلى مستشفى جيميلي في 14 شباط/ فبراير بسبب التهاب رئوي مزدوج، وكان قد أُزيل جزء من إحدى رئتيه في شبابه. 

وأمضى 38 يوماً في المستشفى، وهي أطول فترة إقامة له فيه خلال بابويته. وغادر المستشفى في 23 آذار/ مارس، وظهر علناً آخر مرة يوم الأحد، حيث ألقى كلمة موجزة أمام الحشود المتجمعة في ساحة القديس بطرس لحضور قداس عيد الفصح.

ولم يتخلّ البابا، بعد خروجه من المستشفى، عن مهامه، حيث غادر مقر إقامته في كاسا سانتا مارتا عدة مرات، وزار سجناء في سجن ريجينا كويلي في روما يوم الخميس، كما قام بزيارة مفاجئة إلى كاتدرائية القديس بطرس مرتدياً زياً عادياً قبل أسبوع.

وكان قد بَسّط في العام الماضي طقوس الجنازات البابوية. وقال سابقاً إنه أعدّ قبره في كاتدرائية سانتا ماريا ماجوري في حي إسكويلينو في روما، حيث اعتاد الصلاة قبل وبعد رحلاته الخارجية.

وعادة ما يُدفن البابوات وسط ضجة كبيرة في الكهوف أسفل كاتدرائية القديس بطرس في مدينة الفاتيكان. ووسط الحزن الذي سيعم الكنيسة الكاثوليكية وأتباعها حول العالم، ستجتمع مؤسسة الفاتيكان للتشاور واختيار خليفته الـ268، حيث سيتدفق الكرادلة من أنحاء العالم لحضور خلوة سرية ومعقدة تعقد في دير سيستين، ويشارك فيها 138 من المؤهلين للتصويت.

وأشار تقرير الصحيفة إلى أن بعض المرشحين الذين تم تداول أسمائهم قبل وفاته هم ماتيو زوبي، الأسقف الإيطالي التقدمي، وبييترو بارولين، وزير خارجية الفاتيكان، والأسقف الفلبيني لويس أنطونيو تاغلي.

وتوقع التقرير أن تؤدي وفاة البابا إلى زيادة التوتر داخل الكنيسة، حيث سيحاول المحافظون استعادة السيطرة من الإصلاحيين. 

وخلال بابويته، كان فرنسيس – أول بابا يسوعي على الإطلاق – من أشد المدافعين عن الفقراء والمحرومين والمشردين، وناقداً لاذعاً لجشع الشركات وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية.

وانتقد في الفاتيكان الإسراف والامتيازات، داعياً قادة الكنيسة إلى التحلي بالتواضع. وقد أثارت آراؤه استياء عدد كبير من الكرادلة ومسؤولي الفاتيكان النافذين، الذين حاولوا في كثير من الأحيان إحباط جهوده لإصلاح المؤسسات العتيقة للكنيسة. لكن تعاطفه وإنسانيته أكسباه مكانة مرموقة لدى الملايين حول العالم.

انتُخب فرنسيس، المولود باسم خورخي ماريو بيرغوليو في بوينس آيرس، الأرجنتين، عام 1936، بابا للكنيسة الكاثوليكية في آذار/ مارس 2013. وأظهر على الفور أسلوبه المتواضع باستقلاله الحافلة بدلاً من السيارة البابوية إلى فندقه، حيث دفع فاتورته بنفسه قبل أن ينتقل إلى دار الضيافة في الفاتيكان، متجنباً الشقق البابوية الفخمة.

وفي أول ظهور إعلامي له، أعرب عن رغبته في "كنيسة فقيرة وكنيسة للفقراء". وركّز اهتمامه البابوي على الفقر وعدم المساواة، واصفاً الرأسمالية الجامحة بـ"روث الشيطان".

 وبعد عامين من توليه البابوية، أصدر رسالة بابوية من 180 صفحة حول البيئة، مطالباً أغنى دول العالم بسداد "ديونها الاجتماعية الباهظة" للفقراء. وأعلن أن تغير المناخ هو "أحد التحديات الرئيسية التي تواجه البشرية في عصرنا". كما دعا للتعاطف والرحمة، وطالب بإظهار الكرم تجاه اللاجئين، مؤكداً على عدم استخدامهم "كبيادق على رقعة شطرنج الإنسانية".


وبعد زيارته لجزيرة ليسبوس اليونانية، عرض على 12 سورياً اللجوء في الفاتيكان. كما سلط الضوء على السجناء وضحايا العبودية الحديثة والاتجار بالبشر في نداءاته المتكررة للرحمة والعمل الاجتماعي.
وخلال فترة وجوده الأخيرة في المستشفى، واصل اتصالاته الهاتفية بكنيسة العائلة المقدسة في غزة، وهو إجراء روتيني ليلي منذ 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

وكانت أكبر مشكلة واجهت البابا هي الانتهاكات الجنسية داخل الكنيسة الكاثوليكية، حيث كان عليه مواجهة فضيحة تلو الأخرى، واتُّهِم من قبل الناجين وعائلات الضحايا بأنه فشل في فهم حجم الأزمة والانتهاكات، والحاجة الماسّة لاقتلاع جذورها ومنع التستر عليها. 

وفي عام 2019، استدعى البابا فرنسيس أساقفة من جميع أنحاء العالم إلى روما لمناقشة الأزمة، وأصدر لاحقاً مرسوماً يُلزم الكهنة والراهبات بالإبلاغ عن الاعتداءات الجنسية لسلطات الكنيسة، وضمان حماية المبلّغين عنها.

وكانت هذه خطوة مهمة نحو الاعتراف بمسؤولية الكنيسة عن تلك الفضائح، وتجاوزت الإجراءات التي اتخذها أسلافه.

واتبع البابا فرنسيس في مساره خطى مثاله البابا يوحنا الثالث والعشرين، الذي قال عشية افتتاح مجلس الفاتيكان الثاني عام 1962 إنه يريد "فتح نافذة لدخول بعض الهواء النقي".

وفي توبيخ لا يُنسى للخدمة المدنية في الفاتيكان، انتقد أول بابا غير أوروبي في العصر الحديث "مرض السلطة"، وهاجم بشدة من وصفهم بـ"المطلعين الذين يشعرون بأنهم أسياد القصر وأنهم متفوقون على الجميع وكل شيء".

وقال إن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بحاجة إلى "الخروج من ذاتها والتوجه إلى الأطراف"، لتصبح "كنيسة الفقراء للفقراء" و"مستشفىً ميدانياً للمؤمنين".

وعلى مدى العقد التالي، سيطرت مواضيع الفقر والتواضع والتضامن مع الفقراء والبيئة الطبيعية، وهي مواضيع فرنسيسكانية تقليدية، على أسلوب وجوهر البابوية الجديدة.

وكان قراره العيش المتقشف في دار ضيافة دينية داخل مدينة الفاتيكان، بدلاً من القصر البابوي، متناقضاً بوضوح مع نمط حياة سلفه البابا بنديكت السادس عشر، المحب للفخامة الاحتفالية. وكان فرنسيس يرتدي ثوباً أبيض بسيطاً وحذاءً أسود، ويقود سيارة فورد فوكس زرقاء بدلاً من الليموزين البابوي، وهو ما أرسل رسالة واضحة مفادها أن "الكنيسة الفقيرة" هي الأصل.

ثم بدأ بإصلاح الهياكل المالية التي لم تكن منظمة يوماً. وطلب من بنك الفاتيكان الامتثال لقواعد مجلس أوروبا لمكافحة غسل الأموال، وتم تعيين مراجع حسابات مستقل.


وبدت هذه التحركات مثيرة ومُرحَّب بها لدى التقدميين، لدرجة أن بعض الليبراليين الغربيين اعتبروا البابا فرنسيس واحداً منهم، فاختارته مجلة "تايم" شخصية العام، وأشاد به موقع "غاوكر" للمشاهير واصفاً إياه بـ"بابانا الجديد الرائع"، ونُشرت أعمال فنية تصور البابا كسوبرمان في شوارع روما.

لكن هذا الحب لم يدم طويلاً، إذ قال البابا للصحافيين: "من أنا حتى أحكم على المثليين؟". وباعتباره ابن مهاجر إيطالي إلى الأرجنتين، استثمر كثيراً في الدفاع عن الهجرة والمهاجرين.

 وبعد توليه البابوية، زار جزيرة لامبيدوسا الإيطالية، وشجب لامبالاة أوروبا بالقوارب الغارقة في البحر المتوسط. كما زار في عام 2017 معسكرات الروهينغا المسلمين في بنغلاديش، الذين تعرضوا لمذابح على يد الجيش البورمي.

وفي عصر استخدم فيه سياسيون مثل دونالد ترامب وجورجيا ميلوني وفيكتور أوربان الهوية المسيحية كسلاح، شكّلت مواقف البابا فرنسيس تصحيحاً وشهادة حاسمة. وقد تُوِّج ذلك بجهوده في تحسين الحوار بين الأديان، والتي تجسدت في لقائه المميز مع المرجع العراقي آية الله علي السيستاني، خلال زيارة بابوية تاريخية للعراق، إحدى الدول التي زارها، إلى جانب الإمارات العربية المتحدة والمغرب ومصر والأراضي المقدسة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية سياسة دولية البابا غزة الكنيسة الكاثوليكية الفاتيكان البابا فرنسيس غزة الفاتيكان البابا البابا فرنسيس الكنيسة الكاثوليكية المزيد في سياسة سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الکنیسة الکاثولیکیة البابا فرنسیس فی الفاتیکان

إقرأ أيضاً:

يكتفي بثوبين ولا يستخدم الليموزين البابوية.. هكذا عاش بابا الفاتيكان حياته

في كتاب صغير الحجم، عميق المعنى، قارب بابا الفاتيكان فرانشيسكو، الذي وافته المنية الأحد الماضي، بين الإسلام والمسيحية بدءًا من عنوانه الدال "اسم الله هو الرحمة"، إذ إن "الرحمة" هي القيمة المركزية، أو المقصد الجوهري للإسلام، بينما القيمة المركزية للمسيحية هي "المحبة".

وطرح البابا الرحمة بوصفها إطارًا أوسع للاستيعاب والتعايش وقبول الآخر، ومسألة قابلة للتنفيذ أو التحول إلى إجراءات وتصرفات لدى الناس، تغوص إلى أعماق اجتماعية بعيدة تصل إلى درجة أن يلتزم الإنسان بأن يكون رحيمًا حتى تجاه من يكرههم أو ينبذهم أو ينفر منهم لأسباب متعددة.

بهذا التصور جاء فرانشيسكو إلى البابوية ومعه تجربة حياتية تمنحه أصالة ومصداقية تتمثل في "لاهوت التحرير" في أميركا اللاتينية، التي يعد الرجل واحدًا من رموزها، وهي منحى في المسيحية نقلها في الغرب من تواطؤ طويل مع السلطة الزمنية تحت لافتة "الحق الإلهي للملوك"، ومن ابتعاد عن الشأن العام وفق مبدأ "اعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، إلى انخراط في المشكلات الاجتماعية عبر الانتصار للمظلومين والمحرومين والمهمشين وضحايا الاستبداد السياسي.

ساهم تنوع الخبرة الشخصية لفرانشيسكو في تعميق رؤيته الإنسانية، فهو الابن البكر بين خمسة أبناء، فر والداه من وطنهما إيطاليا هربًا من ويلات الفاشية، وعمل حارسًا لملهي ليلي، وعامل نظافة، ثم عاملًا في مصنع، وأكمل دراسته في مجال الكيمياء، وبعدها درس الفلسفة والأدب وعلم النفس، واقترب من الناشطة السياسية إستير باليسترينو التي ناهضت الحكم العسكري في الأرجنتين، وتعرضت للتعذيب، وقتلت ولم يعثر على جثتها.

إعلان

وشغف فرانشيسكو في شبابه برقص التانجو، وشجع أحد الأندية الأرجنتينية المحلية لكرة القدم، وجرب المرض المزمن إثر نوبة التهاب حاد أدى إلى استئصال جزء من رئته، ثم عانى من آلام مزمنة في ركبته اليمنى اعتبرها "موتًا للجسد".

حين تولى فرانشيسكو البابوية كان الحوار الحضاري بين الشرق والغرب يعاني من عيوب شتى تمثلت في اختلاط الأدوار بين المسائل العقدية والفكرية والاستقطاب السياسي والسجال العقائدي والمذهبي والاستسلام للصور النمطية المغلوطة والمتوارثة والثاوية في طبقات التاريخ الاجتماعي والثقافي عن "الآخر"، ما خلق تصادمًا بين القوى السياسية والاقتصادية النافذة في مختلف الحضارات، لبس لبوس "الصراع الحضاري"، بينما الحضارات في طبيعتها في حالة تراكم وتلاقح.

كما كان الحوار الحضاري محصورًا في إطار مختلف النخب الثقافية والسياسية، وتغلب عليه اللغة والتوجهات الاستعلائية، التي تنطلق من أن هناك أطرافًا أقوى وأكثر تحضرًا من الأخرى المتحاورة معها.

الأخطر من هذا أن البابا السابق بنديكت، كان قد أعاد الكنيسة الكاثوليكية لتسير في ركاب المشروعات السياسية النازعة إلى تصورات تبتعد كثيرًا عن جوهر المسيحية الذي يقوم على مبدأ "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة"، نظرًا لارتباط هذه التصورات بالتوحش الرأسمالي، وتبني الغرب فكرة "صراع الحضارات" التي عبر عنها الأميركي صامويل هنتنغتون في كتاب شهير، كتب بمداد القوة المهيمنة على السياسة في الغرب، وتسعى إلى تسيّد العالم المعاصر، حتى ولو بالقوة المادية الجبارة، عسكرية كانت أم اقتصادية.

رفع البابا فرانشيسكو شعار "كفى حروبًا، كفى عنفًا!"، وتبنى هذه الرؤية حتى أيامه الأخيرة، ما يدل عليه ظهوره في الأسبوع الأول من ديسمبر الماضي/ كانون الأول ، أمام لوحة صممها فلسطينيان عنوانها: "ميلاد بيت لحم 2024″، رمت إلى بث التعاطف مع الذين "يعانون من مأساة الحرب في الأرض المقدسة وأجزاء أخرى من العالم"، حسب ما صرح به البابا نفسه، الذي حافظ على علاقة طيبة مع أهل الشرق، غير مقتصر على المسيحيين منهم فقط.

إعلان

كان فرانشيسكو هو أول بابا يزور دولًا في شبه الجزيرة العربية، حيث مهد الإسلام ومكان انطلاقه، ووقع وثيقة "الإخوة الإنسانية" مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، ولم يُقصر تواصله على السُنة، وهم الأغلبية بين المسلمين، بل التقى أيضًا بقيادات من الطائفة الشيعية في العراق عام 2021، في الوقت نفسه واصل اهتمامه بالمسيحيين العرب، الذين كان يراهم "همزة الوصل بين الشرق والغرب"، والتعبير الأعمق عن بيئة المسيحية الأولى، ولذا فإن بقاءهم في مكانهم، بغض النظر عن مذاهبهم أو طوائفهم، هو نعمة لمسيحيي العالم أجمعين، ولم يكن هذا بغريب على رجل تعاون مع طوائف الأنجليكان واللوثريين والميثوديين في الغرب.

هذه التوجهات هي التي حكمت "دبلوماسية الفاتيكان" في فترة بابوبة فرانشيسكو، التي قامت على مبدأ أخلاقي راسخ يقول: "إما نحن أخوة أو أعداء.. لا يوجد خيار ثالث"، ما أعطى انفتاح الكاثوليكية على الإسلام مددًا قويًا، تجاوز ما أقرته وثيقة "نوسترا أيتاتي" أي "في عصرنا"، التي تم بمقتضاها الكف عن تكفير أتباع الديانات الأخرى، كما كان يحدث على مدار أكثر من ألفي عام.

أبدى فرانشيسكو إصرارًا على توجهه هذا حين حضر إلى القاهرة عام 2017 ملبيًا دعوة من شيخ الأزهر، ومجلس حكماء المسلمين، لمؤتمر موسع ناقش قضايا التفاهم والحوار والمواطنة، ومواجهة التطرف والتعصب لدى بعض أتباع الأديان، وحين صلى في سبيل أن يعود السلام والسكينة إلى ربوع سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، ونُقل هنا عنه قوله: "أصلي كي يعيش الشعب السوري في سلام وأمن على أرضه الحبيبة.. في البلاد التي عانت من سنوات كثيرة من الحرب"، فيما كان قد صلى من أجل أن تنتهي الحرب في لبنان وغزة، ودعا المجتمع الدولي لبذل أقصى جهد في سبيل "إيقاف هذا التصعيد الرهيب وغير المقبول."

أدان غارة جوية إسرائيلية قتل فيها سبعة أطفال من عائلة واحدة في شمال قطاع غزة، ووصفها بأنها "قاسية"، وكان يتصل باستمرار وبشكل شخصي مباشرة بالمسؤولين عن الطائفة المسيحية في غزة خلال الحرب الإسرائيلية، وقد زار بعد عام واحد من توليه البابوية فلسطين، والأردن، وإسرائيل، وجمع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، ونظيره الفلسطيني محمود عباس في صلاة من أجل السلام عام 2014.

إعلان

على المنوال نفسه بذل جهدًا في طي صفحة العداء بين الولايات المتحدة وكوبا، وزار في عام 2023 جنوب السودان، وناشد القادة هناك من أجل إنهاء الصراع، ودعا إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا واصفًا إياها بـ "الحرب العبثية والشرسة".

وبالتوازي مع السعي إلى التآخي مع أتباع الأديان الأخرى، وعلى رأسها الإسلام، لم يتخلّ البابا فرانشيسكو، الذي عرف بالزهد والتقشف، عن صورته كقديس فقير، وقت أن كان الكاردينال برغوليو في إحدى كنائس العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، ولحظة اختياره اسم فرانشيسكو، اقتداء بالقديس فرانشيسكو الأسيزي الذي تخلى عن ثروته لصالح الفقراء والمعدمين، وكان ينادي بالرفق بالحيوان.

طوال إيمانه بأن الإنجيل يدعو إلى الانحياز للمحرومين، رفض فرانشيسكو الجلوس على كرسي مذهب، أو حمل صولجانات من ذهب، وقضى حياته يبدل في ثوبين فقط، لم يضع عليهما مجوهرات كغيره، وعاش في شقة بجانب الفاتيكان، وتخلى عن استخدام عربات الليموزين البابوية، وشارك الكرادلة في رحلاتهم بالحافلة، وكان يختار السفر بالطائرة في الدرجة الاقتصادية غالبًا، وكان يقول دومًا: "آه، كم أودّ أن تكون الكنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء"، كما دأب في عظاته على الدفاع بشدة عن العدالة الاجتماعية، وانتقد الحكومات التي تتقاعس عن الاهتمام بالفئات الأشد فقرًا في المجتمع.

كان البابا واعيًا للسياقات التي تكرس الظلم، وهي في نظره تتمثل في تسلط الدكتاتوريات، والتدين الفاسد، والتظالم الاجتماعي، والانحياز الجهوي، والصراعات المذهبية، لذا نجده، وإلى جانب لقائه قيادات شيعية في العراق، يلتقي رأس الكنيسة الأرثوذكسية في العالم البابا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية بمصر، في شهر أبريل/ نيسان 2017 لمواساته في ضحايا تفجيرين استهدفا كنيستين في شمال مصر، وهو في كل هذا كان منحازًا أكثر لـ "الإنسانية"، التي رأى أن المشتركات التي تجمعها أكبر بكثير من أسباب الفرقة والصراع.

إعلان

وقد انعكست رؤيته التي بناها على مهل، من النص الديني والتفاعل مع الناس، على تصوره وانحيازه إلى حقوق الإنسان وعلى رأسها الحق في الحياة، حيث رفض الفقر والإجهاض، واختزال دور المرأة إلى مجرد أداة لمتعة الرجل، ووصف المثلية بأنها "محاولة للنيل من مخطط الله".

وأيام جائحة كوفيد دعا إلى توفير اللقاح للجميع دون تمييز، وجعل الكنيسة في خدمة الشعب بعيدًا عن الكهنوت المتبتل، وقال هنا: "علينا أن نحذر من مرض روحي يصيب الكنيسة عندما تنغلق على ذاتها .. لو كان عليّ أن أختار بين كنيسة جريحة تخرج إلى العالم، وكنيسة مريضة منغلقة على ذاتها، لاخترت الأولى."

سيكون من حظ العالم أن يبني بابا الفاتيكان القادم على ما انتهى إليها البابا فرانشيسكو، وحبذا لو فتح حوارًا عالميًا تكون فيه المؤسسات الدينية الكبرى حاضرة تتنبى قضايا مثل: الاستشراق المنصف، وتهذيب علاقات السوق، واحترام الثقافات الفرعية كطريق آمن إلى تنوع إنساني خلاق، وإنقاذ الديمقراطية من النزوع الفاشي الذي يتمدد داخل الديمقراطيات الراسخة، وتقليم الأظفار الشريرة للعولمة، ومواجهة العنف المنظم، وتوظيف العلم في خدمة الإنسانية. لكن المؤشرات الأولية حتى الآن تقول إن هذا لا يعدو كونه تفكيرًا بالتمني.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • يكتفي بثوبين ولا يستخدم الليموزين البابوية.. هكذا عاش بابا الفاتيكان حياته
  • الغارديان تصف البابا فرانسيس بـالغريب الإصلاحي وبأنه حليف التقدميين
  • عاجل| الفاتيكان: جنازة البابا فرانسيس يوم السبت المقبل في العاشرة صباحا
  • الكنيسة تصلي من أجل راحة نفس البابا فرنسيس
  • مفتي الجمهورية ينعى البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية
  • أمين عام رابطة العالم الإسلامي يعزّي الفاتيكان في وفاة البابا فرانسيس
  • «البابا تواضروس»: البابا فرنسيس قضى عمره في خدمة الكنيسة الكاثوليكية
  • مفتي الجمهورية ينعي البابا فرنسيس الثاني بابا الكنيسة الكاثوليكية
  • العالم يودع بابا الفاتيكان.. رحلة بدأت من مسرح الجامعة إلى الكنيسة الكاثوليكية