صحيفة التغيير السودانية:
2025-04-23@09:03:40 GMT

الجحيم- أو: حين تخون الحرب الوطن

تاريخ النشر: 22nd, April 2025 GMT

الجحيم- أو: حين تخون الحرب الوطن

الجحيم– أو: حين تخون الحرب الوطن

وجدي كامل

ذاق السودانيون الجحيم، لا على نحو عابر، ولكن كما يكون الجحيم جحيما. لم ينجُ إلا أولئك الذين أشعلوه، فظلّوا ينفخون في أوار الحرب، مزهوّين بوهم الرسالة، مدّعين أنها حرب كرامة تُخاض نيابةً عن الشعب. أي كرامة تلك التي تنبت من رماد الخراب؟ وأي شعب ذاك الذي تُنصب له المذابح، ثم يُقال له: هاك خذ لقد انتصرنا لك؟ في غمرة جنون الثأر من الثورة والثوار والثائرات ومنظماتهم المدنية من تحالفات، تناسى هؤلاء أن الحرب، مهما تجمّلت شعاراتها، لا تبقي وطناً.

نسوا، أو تجاهلوا، أن ما يسعون إليه هو الانتقام من الثورة، لا استرداد الكرامة، وأنهم لا يحاربون لأجل السودان، بل ضده. فكانت النتيجة أن صار الوطن نفسه هو الضحية الكبرى، والرهينة، والحطام.

ها هي الحرب تدخل عامها الثالث. والسودان، من شرايينه حتى أصابعه، يحترق. من بقي فيه يعاني، ومن نزح عنه لا يقل وجعاً، ومن استراح في المنافي لا يملك غير الانتظار المرهَق والنقص المريع في الكرامة. ومع ذلك، لا تزال أصوات الخراب ترى في الحرب “مهمة وطنية”، و”خياراً أخلاقياً”، وتمضي بها إلى نهايات لا يتخيلها عقل.

الدعم السريع، الذي غادر الخرطوم بعدما أجهز على ما فيها من حياة، عاد لينسج حصاره، ويحكم قبضته على الفاشر، المدينة ذات التاريخ والمكانة والرمز. غير أن سقوط الفاشر لا يفضي فقط إلى واقع التقسيم الذي ظهرت مقدماته بقرب إعلان الحكومة الموازية، بل إلى انكسار المعنى نفسه: معنى الوطن الواحد، والخرائط المتماسكة، والناس الذين ظنوا أن الخراب له حدود. لكن القادم- كما تُنذر الوقائع- سيكون أكثر فداحة. فما يُمَهَّد له الآن هو وجه جديد للحرب، أكثر شراسة، وأكثر احتقاراً للمدنيين. تتجه الحرب إلى استهداف المناطق الشمالية والشرقية بضرب مصادر الامداد الكهربائي كمقدمة للتطويق والزحف، لتجرّم الناس بانتمائهم، وتُنزل العقاب بالأهالي لأنهم ينتمون، لا لأنهم يقاتلون.

فشلت محاولات التفاوض، واستُنزفت مؤتمرات الخارج والذي كان مؤتمر “لندن” آخرها بسبب أن المصالح الدولية لا يعلى عليها. واليوم، لا يمكن لأحد أن يتنبأ إلى أي درك ستنحدر البلاد أكثر. لكن المؤكد أن الأسوأ لم يأتِ بعد. فالحريق ما يزال يتلمس أطراف الوطن، وما يزال يجد في الخراب ما يغذّيه.

كلا الطرفين، بما اقترفا من آثام، قدّما للتاريخ مائدة دموية، زاخرة بكل ما يجعل الحاضر لعنة، والمستقبل سؤالاً مفتوحاً على الفجيعة. سيكتب التاريخ، لا محالة، كيف أن صعود قِلّة من الطغاة إلى الحكم كان كافياً لتهديد وجود أمة بأكملها، وسرقة الحياة من الأغلبية التي لم تطلب غير السلام والعدل والحرية.

الدروس كثيرة، بقدر الجراح. لكن أعظمها أن على السودانيين، حيثما كانوا، أن يتعلموا كيف يُحصّنون حياتهم: لا فقط ضد رصاص وقاذفات الجيوش والمليشيات، بل ضد إنتاج الطغاة من جديد، ضد استسهال العنف باسم الدين، وضد كل من يُمهّد للطغيان بجهله أو صمته أو خوفه.

إن مشكلة المقاومة المدنية السلمية لا تكمن في قياداتها، التي تبلي بلاءً حسنًا على الصعيد الإعلامي المتاح، بل في الأغلبية الصامتة أو المتفرجة، التي بدا وكأنها وجدت في وسائل التواصل الاجتماعي متنفسًا للتعليق والسخرية أو التصفح السلبي، من دون أن نعمل على تحويل هذه الطاقة الثورية الهائلة إلى تظاهرة مجلجلة ضد قهر الحرب وتجلياتها المرعبة. فكلما أحسنّا توظيف وسائل التواصل في فضح جرائم الحرب، وكشف أكاذيب جنرالاتها وخطوطهم الإعلامية الزائفة، كسبنا أرضًا جديدة في المعركة، واقتربنا خطوة نحو خلق وحدة مدنية، تكون بمثابة كلمة السر الغائبة لاستشعار قوتنا وإسماع صوتنا للعالم، كضحايا لهذه الكارثة الوطنية غير المسبوقة.

الوسومالجيش الحرب الدعم السريع السودان المقاومة المدنية السلمية وجدي كامل

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الجيش الحرب الدعم السريع السودان المقاومة المدنية السلمية

إقرأ أيضاً:

كيف تتحوَّل الانتقادات الداخلية إلى طلقات في ظهر الوطن؟

 حين تصبح الكلمة سلاحاً في يد العدو

 

في خِضَمِّ العواصف التي تُحاك خيوطها حول اليمن، حيث تتساقط على رؤوس المدنيين والأبرياء صواريخ العدوان الأمريكي وتُزهق الأرواح تحت وطأة المؤامرات الخارجية، تخرج أصوات من الداخل.. تضخم الهفوات، وتسقط الأخطاء الروتينية من ميزان التاريخ، وكأنَّ الوطن لا يُحاصَر إلا بحدود أخطائه، لا بحدود أعدائه. هنا، حيث تتحوَّل الانتقادات إلى سكاكين تُجرح خاصرة الدفاع، وتُصبِح “الحرية الفكرية” للبعض ذريعةً لتمرير سموم التشتيت، تُطلُّ علينا إشكاليةٌ وجودية: كيف يتحوَّل المواطن والسياسي والصحفي والناشط الإعلامي إلى أدوات طيِّعة في يد العدو، دون أن يَشعروا بأنَّهم يُمسكون بيدٍ خفيَّة تُوجِّه سهامهم نحو قلب الوطن؟

ليست القضية في وجود أخطاء، فالأوطان كالبشر؛ تُخطئ وتتعثَّر، لكن الخطر كل الخطر أن تتحوَّل هذه الأخطاء إلى نفقٍ مظلم تُسرَق منه إنجازات الثورة والشعب، وتُهدر دماء شهدائه، وتُختزل تضحيات أبنائه وصمودهم في سرديةٍ سوداوية تخدم عدواً يتربَّص بالثغرات. فحين يُسقط الصحفي أو الإعلامي كل همومه في انتقاد دولة تُحارب على جبهاتٍ عدَّة، أو حين يُحوِّل قلمه – الذي يفترض أن يكون سلاحاً للوعي – إلى مِشرَطٍ يشقُّ جسد الوحدة الوطنية، فإنَّه بذلك يُقدِّم للعدو خدمةً مجانية: يُضعِف الجبهة الداخلية، ويُلهي الشعب عن عدوه الحقيقي، ويصنع من الهفوات العابرة سُلَّماً يصعد عليه الغزاة لاحتلال العقول قبل الأراضي.

أمَّا المثقف الذي يرفض كل شيء، وينتقد حتى الهواء الذي يتنفسه الوطن، فإنَّه – وإن ارتدى عباءة التنوير – يصير أشبه بمن يُنارِق في سفينةٍ تغرق؛ يصرخ منتقداً لون الأشرعة، بينما المياه تُغرق المقاعد تحت قدميه. إنَّ معارضة كل شيء في زمن الحرب ليست شجاعة، بل غباءٌ مركب. فالمعارضة البنَّاءة تُصلح، أمَّا “ثقافة الرفض” التي ترفض حتى إصلاح الذات، فإنَّها تفتح الباب واسعاً لعدوٍّ يترصَّد الفرص، ويَستخدم هذه “الانقسامات الفكرية” كفأسٍ لهدم أسوار المقاومة.

إنَّ الحرب ليست معركة صواريخ فحسب، بل هي معركة وعي. فالعدو لا يحتاج إلى اجتياح الحدود إذا استطاع اجتياح العقول. وهنا يكمُن الخطر الأكبر: حين تُحوِّل الانتقاداتُ الداخليةُ الوطنَ إلى مسرحٍ للهزائم النفسية، وتجعل من المواطن جندياً في جيش التشكيك، بدلاً من أن يكون حارساً للوعي الجمعي. فما قيمة أن تُقاتل الجبهة بالسلاح، إذا كانت الجبهة الداخلية تُقاتل بالكلمات ضد نفسها؟

ولكن.. ماذا لو حوَّلنا هذه الطاقة النقدية إلى طاقة بنَّاءة؟ ماذا لو اتَّفقنا على هدنةٍ وطنية؟ هدنةٍ نؤجِّل فيها الخلافات إلى ما بعد النصر، نُجمِّد فيها الصراعات الصغيرة، ونُفرِّغ كل طاقاتنا لمواجهة العدو الكبير. فالحرب تحتاج إلى قلوبٍ موحَّدة، لا إلى ألسنةٍ مشرعة. إنَّ النصر لا يُبنى على أنقاض الانتقادات، بل على أسس التضامن. فالشجرة التي تُقاتل العاصفة لا تنشغل بتقليم أوراقها، بل تُعمِّق جذورها في الأرض.

لذا، فإنَّ الدعوة هنا ليست إلى “تجميد الحقيقة” أو إسكات الأصوات، بل إلى “ترتيب الأولويات”. فالنقد – في زمن السلم – ضرورةٌ لصقل التجربة، لكنَّه – في زمن الحرب – قد يكون انتحاراً جماعياً. فلنُؤجِّل الحسابات، ولنترك المهاترات جانباً، ولنُجمِع على أنَّ العدوان الخارجي هو العدو الأول والأخير. فإذا انهزمنا أمامه لا سمح الله، فلن تُجدِيَ انتقاداتنا ولا معارضاتنا، لأنَّ الهزيمة ستجعل منا جميعاً – الموالين والمعارضين – أسرى تحت أقدام الغزاة.

الوطن اليوم أمام مفترق طرق: إمَّا أن نكون جبهةً واحدةً تُحارب العدو بقلوبٍ متحدة، أو نكون حطباً تُشعله النيران لتحرقنا جميعاً. فلتكن كلمتنا واحدة، ولتكن مصالحنا العليا فوق كل اعتبار. لأنَّ المعركة – إذا خُسرت – لن تسأل من كان مُنتقداً أو مُؤيداً، بل ستسحق الجميع تحت عجلاتها. فهل نتعظ قبل فوات الأوان؟

مقالات مشابهة

  • إسطنبول: المدينة التي حملت أكثر من 135 اسمًا عبر التاريخ
  • كيف تتحوَّل الانتقادات الداخلية إلى طلقات في ظهر الوطن؟
  • “الاستهلاكية المدنية” تعلن عن تخفيضات على أكثر من 299 سلعة
  • أسعار البيض تحلّق في أوروبا... من هي الدولة التي تدفع أكثر من غيرها؟
  • غزة.. أكثر من 160 ألف قتيل ومصاب منذ بدء الحرب الإسرائيلية
  • العرموطي ..  من يعارض الدولة الأردنية فليذهب إلى الجحيم
  • الصمد في عيد الفصح: آمل أن يتجاوز الوطن الأزمات التي يعاني منها
  • "التضامن": لا غرامة جديدة على الأسر التي تعيد الأطفال المكفولين.. والقرار معمول به منذ أكثر من 4 سنوات