مَن البَعاتيُّ في هذهِ المُحاكمةِ؟ الدُّميةُ، أَمِ العَدالةُ، أَمِ المَنطِقُ؟
تاريخ النشر: 21st, April 2025 GMT
«مشاهد من محاكمة في جمهورية التأويل الزائد وزمن اللامعقول… حين يتأخر الموت وتُعجَّل المحاكمة: البُعاتي بوصفه دليلًا على فشل الرواية»
عندما قررت عدالة حكومة بورتسودان أن تتأنّق بوقارها المزوّر، اختارت أن تبدأ بطيف يُحاكم نيابة عن غيابه، لا بجسدٍ يُحمل عبء ما اقترفت يداه.
محاكمة غيابية لرجلٍ حاضر في كل المآسي، وغائب فقط عن منصة الاتهام.
نُصبت الخيمة في بورتسودان، وتفتّحت سرديات الطهارة المؤقتة كإزهار خريفيّ يُزهر فوق ركام ذاكرة لا تُنبت إلا الإنكار.
أول الداخلين: السلطان سعد بحر الدين، يرفرف ثوبه بين عربات الشرطة والكلاب البوليسية، وكأننا أمام عرض تعبوي للهيبة لا للقانون.
خلفه، اصطفت وجوه جامدة كمذيعات نشرة العاشرة، يحملن شعارات مصقولة بصوت المونتاج، لا بصوت الشارع، وكأن ذاكرتهن أُعدّت مسبقًا في غرفة أخبار.
في الخارج، تم نصب «الدمية» الرديئة الصنع التي يُفترض أن تمثل حميدتي.
لا نعرف إن كانت هذه هي النسخة القديمة التي تعرّضت للرجم سابقًا، أم أن نحّاتًا مجهولًا أُعيد استدعاؤه على عجل لصياغة نسخة تتناسب مع متطلبات هذه الحلقة من المسرحية.
جمهور المحكمة مشغول بالدمية أكثر من النص، والصيحات تتعالى: «أضربوه!»، «أقلعوا رقبتو!»…
كأننا لسنا أمام محكمة، بل أمام طقس طرد رمزي للخطيئة…
لكن الخطيئة تمشي خارج المحكمة، ترتدي بزات رسمية، وتُجالس القضاة.
داخل القاعة، يتلعثم القاضي طويلًا عند قراءة الاسم:
هل هو «حِميتي» أم «محمد حمدان»؟
ينطق الاسم وكأنه يحاول انتزاع جريمة من مقطع صوتي، لا من سجل دموي طويل.
الرجل – أو لِنقل: تلك الدمية الرمزية الرديئة الصنع – يُحاكم بالنيابة عن سرداب عميق من الجرائم التي لم تُدفن، بل تسرح في الهواء، حرة، أنيقة، ومترقية.
ولا شيء في الورق يطابق الحياة.
ملفات، أختام، لائحة اتهام، شقيق المتهم…
لا شهود، لا سياق، لا تاريخ.
فقط حفنة من الكلمات تغطي فجوة كاملة من العار الوطني.
الوجوه متيبّسة، والعيون تلاحق كائنًا غائبًا لا ليمثل، بل ليتحمّل كل ما لن يتحمله أحد.
عربات مطافي، باصات ترحيل، كلاب بوليسية، أجهزة لا داعي لها في محاكمة ورقية،
وحتى المولد الكهربائي قرر أن يعلن موقفه:
توقف، فرغ من الوقود، وتوقفت معه الجلسة!
كأن الميكانيكا نفسها ترفض هذا التواطؤ.
أما العم سعد بحر الدين، فحين لاحظ أن النص انزلق إلى الكوميديا الساخرة أكثر من الدراما القضائية، انسحب بسيارته الـ«لكزس» الفارهة في صمت،
وترك خلفه جمهورًا يصفّق للفراغ، وقاعة تشهد على واحدة من أكثر اللحظات شفافية في التاريخ السوداني الحديث:
محاكمة دمية نيابة عن كابوس، في وطن اعتاد أن يُحاكم الضحايا ويُكافئ الجناة.
ألا يحق لنا نحن – ضحايا البث المشروخ – أن نسأل: من الذي يُحاكم اليوم؟
هل هو حميدتي الذي أعلن إعلام الكيزان وفاته مرارًا، ونشروا نعيه في نشراتهم قبل أن يدفنوه في الذاكرة باسم «البُعاتي»؟
أم أنهم يحاكمون البُعاتي نفسه، بوصفه تهديدًا سرديًا لم يكتمل موته؟
أم تراهم يحاكمون الدمية، لأنها تجرّأت على الوقوف بدلًا عن الجنرال؟
أم لعلّهم ببساطة، يحاكموننا جميعًا… على تجرؤنا في تصديقهم؟
حميدتي يُحاكم اليوم ليس لأن الجرائم لم تعد تُحتمل، بل لأنه بات خارج التحالف، مجرد خصم سياسي مؤقت.
والساخر في المشهد، أن من يحاكمونه الآن هم شركاء له في هندسة المذبحة، ورفاق سلاح وخرائط.
بينهم من ارتكب، ومن أمر، ومن صمت، ومن صاغ بيانات القتل بلغة وطنية.
وهل ثمّة ما هو أكثر فداحة من مفارقة كهذه، حين تنقلب الذاكرة ضد ضحاياها؟
أليس من اللافت أن مالك عقار، الذي يشغل اليوم منصب نائب رئيس مجلس السيادة، ومصطفى طنبور، رئيس لجنة السلام، قد حُكم عليهما بالإعدام غيابيًا في زمن سابق؟
لا أحد جلب دمية لهما.
لا صرخات، لا قضاة تائهون في اللقب.
تمّ نسيان الأمر كما تُنسى الجرائم في بلد لا يحتفظ بأرشيف، بل بأحقاد سائلة.
أما نحن، الذين ما زلنا ننتظر محاكمة قتلة شهداء القيادة العامة،
فنجلس على الرصيف ذاته الذي كتب عليه نبيل أديب ذات مرة تقريرًا لم يُسلَّم، وعدالة لم تولد.
شهداء القيادة لا يشبهون الأبطال في الملاحم، ولا يُرفعون على لافتات ميتة كعُذر بيروقراطي.
ماتوا واقفين، بالحناجر العارية، وبأنفاس أخيرة نطق بعضها بـ«حرية، سلام، وعدالة»، وبعضها لم يُتح له حتى النداء.
المجزرة بثّتها أقمار الأرض جميعها، بما فيها تلك التي تدّعي الحياد وتمتهن المؤامرة.
والقتلة، ما زالوا يبدّلون أدوارهم:
هذا يصبح وزيرًا، وذاك نائبًا، والثالث يكتب قصائد وطنية في حفل استقبال رسمي.
فما الذي شهدناه إذن؟
محاكمة؟
أم احتفال رسمي بالإنكار وقد صار له منصة وقاضٍ ونشيد ودمية؟
أم مجرد تمرين جماعي على إعادة كتابة الجريمة دون شهود؟
يريدون منا أن نصدّق المعادلة المستحيلة: «لقد قتلناه… وها نحن نحاكمه».
فمع أي عقل يتعاملون؟
وأي ذاكرة هذه التي يُفترض أن تهتز، لا حين يُقتل الناس، بل حين يُبعث من رُوّج له كـ«بُعاتي» ليُقدَّم فجأة بوصفه حيًّا ومسؤولًا؟
وكأن من صدّعوا رؤوسنا بموته، لم يكونوا هم أنفسهم من يصنعون اليوم منصّة محاكمته.
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: ی حاکم
إقرأ أيضاً:
حاكم الشارقة في درس أبوي للأطفال: كونوا أصدقاء للأشجار (فيديو)
الشارقة: «الخليج»
قدّم صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، درساً أبوياً بيئياً للأطفال، حيث دعا سموه إلى الاهتمام بالبيئة وزراعة الأشجار لفوائدها العظيمة للحياة والكائنات الحيّة جميعها، في عمليات تنقية الهواء.
وقال سموه: «كونوا أصدقاء للأشجار».
وتابع سموه: «مدينة فيها أشجار تعني أن أهلها نشيطون وليسوا خاملين، فكل واحد لا بد أن يزرع. نتمنى أن تكون بلادنا خضراء. الشجرة تعطينا الأكسجين».
وأضاف سموه «هذه الشجرة مثل الأم التي تُرضع أبناءها، لذلك نقول: اعتنِ بالشجرة، ولا تَطأ عليها لأنك تطأ على الحياة. الشجرة هي التي تعطينا الحياة. نطلب من كل واحد منكم أن يزرع الشجر ويهتم به ويسقيه. كُن أنت صديق الشجرة».
جاء ذلك خلال قيام سموه، اليوم الاثنين، بتدشين مشروع وقف «جيران النبي» الذي أطلقته مؤسسة الشارقة للتمكين الاجتماعي، ليكون انطلاقة لسلسلة من الأوقاف المخصصة لدعم الأيتام، وذلك في منطقة الجادة.
واستمع صاحب السمو حاكم الشارقة، إلى شرحٍ مفصل عن المشروع وموقع المنشأة الوقفية، حيث تُعتبر أرض المشروع مكرمة مقدمة من سموه، بمساحة إجمالية 932 متراً مربعاً، وستتم إقامة مبنى متعدد الطوابق عليها بمساحة بناء تبلغ 13,835 متراً مربعاً، مكون من 15 طابقاً تضم 75 شقة سكنية، وذلك لتلبية احتياجات المستفيدين من خلال عوائد الريع.
كما تعرّف سموه خلال العرض إلى بقية مشروعات المؤسسة الوقفية وطرق المساهمة في الأوقاف الخاصة بالمؤسسة.
وتفضل سموه بالضغط على الزر المخصص لإعلان انطلاق المشروع الذي يعتبر خطوة نوعية في مسيرة العمل الوقفي، حيث تُوجّه عوائده لدعم مبادرات إنسانية تساهم في تلبية احتياجات الأيتام والارتقاء بجودة حياتهم، كما شاهد سموه والحضور مادة مرئية حول المشروع وفوائده.