الواقع النيجرى.. أكثر تعقيداً بكثير
تاريخ النشر: 25th, August 2023 GMT
الانقلاب فى النيجر أو محاولة الاستيلاء على السلطة التاسعة فى غرب ووسط إفريقيا منذ عام 2020. قد يبدو هذا للوهلة الأولى بمثابة تخندق، وإعادة الدول الإفريقية إلى الحكم العسكرى والثقافات الديمقراطية الضعيفة، مع اندفاعة من الأذى الروسى لإكمال صورة المنطقة الهشة تحت نزوة الرجال الأقوياء المحليين والتدخلات.
إن هذا المنظور الذى ينظر إلى إفريقيا باعتبارها مجرد حلقة ضعيفة فى سلسلة الأمن العالمية قد بالغ فى التأكيد على الإرهاب الإسلامى فى منطقة الساحل باعتباره عاملاً تاريخياً، مساهماً. أثار وجود الجماعات الجهادية فى المنطقة رد فعل عسكرياً ضيقاً من القوى الغربية التى نشرت قوات فى النيجر وغرب إفريقيا الكبرى. لكن هذا لا يوفر حلاً أو فهماً لحقيقة أن النشاط الإرهابى المتزايد، مثل الانقلابات نفسها، هو أحد أعراض الاتجاهات الديموغرافية والاقتصادية فى جميع أنحاء المنطقة وليس محركاً أساسياً لعدم الاستقرار الديمقراطى.
ما يقودنا إلى الأسباب المتنوعة وراء هذه الانقلابات. ورغم أنها مثيرة للقلق بالنسبة للمصالح الأجنبية، إلا أنها فى معظمها محلية للغاية. إن الدول الضعيفة، والقوى العسكرية وشبه العسكرية القوية، وأزمة المناخ التى عطلت سبل العيش، والتضخم الديموغرافى الذى أدى إلى ظهور أعداد كبيرة من الشباب ذوى الآفاق الاقتصادية الضعيفة، كلها تتضافر لتمكين الحكومة من الاستيلاء على السلطة وزرع اليأس والشعور بالإحباط على نطاق واسع. فقدان القدرة التى يمكن أن يستغلها الرجال الأقوياء الشباب ذوو الكاريزما.
ومن السهل أن نلخص هذه الأسباب فى استنتاج حتمى مفاده أن أجزاء من إفريقيا التى تشترك فى هذه الأنماط محكوم عليها ببساطة بدورات من العنف. لكن هذه المشاكل البنيوية غالباً ما توجد جنباً إلى جنب مع الجهود المحلية لبناء وتعزيز الديمقراطية التى تصمد، على الرغم من التحديات.
وفى الوقت الحالى، فإن المجال الجوى لليبيا فى شمال إفريقيا، والنيجر فى الغرب، والسودان فى الشرق مغلق أمام الرحلات الجوية التجارية، ما يخلق مثلثاً يجب أن تربطه حركة البضائع والركاب. على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، اضطرت الحركة الجوية إلى إفريقيا من أوروبا إلى إعادة معايرة مسارات الطيران مرتين، حيث أصبحت البلدان غير آمنة للطيران. إن المخاطر كبيرة، ليس فقط عندما يتعلق الأمر بالأمن، بل أيضاً بالاستقرار الاقتصادى. وكانت نتيجة هذه المخاطر التى تشمل القارة بالكامل أن انقلاب النيجر اجتذب استجابة غير مسبوقة من قبل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا. وهددت المنظمة بعمل عسكرى إذا لم يتم التراجع عن الانقلاب.
فى الواقع فإن موسكو وواشنطن وباريس ولندن ليس لديها ما تقدمه للدول الإفريقية وإن مخاوفها بشأن الديمقراطية تبدو واضحة. إنها جوفاء لأنهم لا يفعلون سوى القليل من أجل تحقيق مصالح ضيقة فى المنطقة.
إن «الحقيقة التى لا مفر منها»، أن الأفارقة سوف يصنعون أو يحطمون المشهد الجيوسياسى لقارتهم فى نهاية المطاف- والمتطفلون الأجانب، مهما بدت عضلاتهم قوية، محكوم عليهم فى نهاية المطاف بأن يلعبوا دوراً ثانوياً. وسط تأثيرات الحرب الباردة التى لا معنى لها، والحسابات العسكرية الغربية حول عدوى الجهاديين والقلق بشأن فقدان النفوذ من جانب القوى الاستعمارية السابقة، فإن الانقلاب فى النيجر وتلك التى سبقته قد يرسم فى الواقع طريقاً لمستقبل يصبح فيه من الواضح أخيراً أن استقرار إفريقيا لن يتم صياغته فى البنتاجون أو فى لجان التحليل الساخنة التى تبثها القنوات الإخبارية، بل بشروطها الخاصة ومن خلال آلياتها الخاصة، بمجرد أن تواجه أسوأ مخاوفها وتختار الحفاظ على ذاتها.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصطفى محمود
إقرأ أيضاً:
بين حرية المخرج ورؤيته الفنية وحدود الصدق
يعرف الفيلم الوثائقي ببساطة على أنه فيلم عن الحياة الواقعية، فيلم يروي ويجسد قصة لتجربة شخص ما مع الواقع. تقول باتريشيا أوفدرهايدي -أستاذ دراسات التواصل في كلية التواصل بالجامعة الأمريكية في واشنطن- في كتابها "مقدمة قصيرة جدًا: الفيلم الوثائقي" إن المشكلة أن الأفلام الوثائقية تدور حول الحياة الواقعية، لكنها ليست حياة واقعية، وإنما لوحات ومادة خام عنها، فأبطال هذه الأفلام يقدمون الأدوار بتوجيه من المخرجين مثلما يفعل الممثلون في أي فيلم روائي. فإلى أي مدى يحق لمخرج الفيلم الوثائقي أن يصوغ الواقع؟ سؤال طرحناه على عدد من صُنّاع الأفلام الوثائقية، لنعرف ما إذا كانوا يملكون حرية الترتيب والمونتاج لإيصال الرسالة، وما إذا كان ذلك يهدد صدقهم.
أمانة الواقع
يصف المخرج السينمائي محمد الكندي المخرج بأنه "القائد الفني والفكري" للعمل السينمائي، سواء كان وثائقيًا أو روائيًا أو من أي جنس من أجناس المحتوى البصري، وقال: من خلال الفيلم يستطيع المخرج إيصال رسالته كيفما يشاء، دون المساس بمبادئ وقوانين العمل السينمائي الإنساني النبيل، وهو الصدق دون زيف، لأن الفيلم الوثائقي يرصد وقائع تكون في المستقبل تاريخًا، أو تاريخًا يُعاد صياغة أحداثه بالممكنات المتوفرة في عصره، وكما سبق آنفًا دون تزييف للوقائع، وعليه أن يكون محايدًا في طرح القضايا من حيث اختياره للشخصيات والمتحدثين والمكان والزمان احترامًا لأمانة الواقع.
وأضاف: بالنسبة لحرية الترتيب والمونتاج، بلا شك ذلك حق أصيل للمخرج وللمونتير في صياغة العمل فنيًا حسبما يتطلبه الموضوع، بدءًا من طريقة التصوير إلى اتخاذ خط سير العمل ومعالجته الدرامية إلى أن يصل إلى وحدة المونتاج ومن ثم إلى المتلقي، لذا للمخرج الوثائقي الحق أن يصوغ عمله الواقعي أو التاريخي متى ما كانت إرادته تجسيد الحقيقة بعمق دون تزييف.
سرد الحقيقة
رأت المخرجة السينمائية الفلسطينية رنا أبو شخيدم أن هذا السؤال مهم، خاصة في المرحلة الحاسمة من التاريخ الفلسطيني، وقالت:
"في الحقيقة، كمخرجة أفلام وثائقية، أؤمن بأني أقدم وجهة نظري للحقيقة، وأحاول استخدام كل الأدوات التي تساعدني في إظهار الفيلم بأعلى درجة من المصداقية، مثل استخدام الأرشيفات والصور الحقيقية والمقابلات، حتى أظهر الواقع بكل ما يشمله من تناقضات تُبين الوجع الفلسطيني بكل القوة والصمود على الأرض.
واقع مُعاد
أما من وجهة نظر عراقية، فأجاب المخرج السينمائي حسين رعد بقوله: أنا كمخرج وثائقي أتعامل مع الواقع، لكنه لا يأتي جاهزًا أمامي، أضطر أن أكتشفه وأنتزع قصصه من بيئة مليئة بالتعقيدات والتحديات.
وأضاف: في العراق أواجه معركة مزدوجة مع الواقع نفسه ومع الظروف المحيطة بي، فالقيود اللوجستية والأمنية تحد من حريتي في التنقل والتصوير، وأحيانا تفرض رقابة غير معلنة على المواضيع الحساسة. محدودية الدعم الإنتاجي والتمويلي تجعل من الصعب إنجاز مشاريع مستقلة تُعبّر بصدق عن هموم الناس وتفاصيل حياتهم اليومية.
ورغم كل ذلك، مهمتي أن أصوغ الواقع بصدق فني، لا أن أنقله حرفيًا. فالمونتاج والترتيب ليسا أدوات تزوير، بل وسيلة لإيصال جوهر الحقيقة، طالما أحافظ على أمانتي الأخلاقية في تمثيل الواقع دون مبالغة أو تشويه.
التحدي الأكبر هو أن أوازن بين حريتي الإبداعية ومسؤوليتي الواقعية، لأنتج فيلمًا يكون وثيقة صادقة وموقفًا إنسانيًا في الوقت نفسه."
حرية مسؤولة
معتبرا الفيلم وسيطا بين الواقع والجمهور وليس ناقلًا عنه، يقول مخرج الأفلام الوثائقية العُماني ماجد الإسماعيلي: يحق لمخرج الفيلم الوثائقي أن يصوغ الواقع بحدود، من خلال اختيار الزاوية واللقطات وطريقة السرد، بما يخدم الفكرة أو الرسالة التي يريد إيصالها. لكن هذه الصياغة يجب أن تبقى أمينة للحقائق، فلا يجوز له أن يختلق أحداثًا أو يغيّر تسلسلها بطريقة تضلل المتلقي."
وأضاف: أما فيما يتعلق بالمونتاج والترتيب، فهي أدوات فنية مشروعة في الوثائقي، لأن الفيلم في النهاية عمل إبداعي له إيقاعه ووجهة نظره. غير أن الحرية هنا يجب أن تكون مسؤولة، بحيث لا تُشوّه الواقع ولا تُخفي جوهر الحقيقة. فكلما حافظ المخرج على توازنه بين الصدق الفني والصدق الواقعي، كان عمله أعمق وأقرب إلى الوثائقي الحقيقي.
شعور الواقع
يجد المخرج السينمائي السعودي علي العبدالله أن القوة الحقيقية للمخرج في الأفلام الوثائقية تكمن في المونتاج، لأنه ليس وسيلة لتغيير الحقيقة، بل أداة لتوجيه الإحساس.
وقال: قد تبدو المشاعر التي تظهر على الشاشة مختلفة عمّا عاشه أبطال الحدث في لحظتها، لكنها ليست تزويرًا، بل إعادة بناء للشعور داخل زمن الفيلم، لا زمن الواقع. وهنا تظهر صنعة المخرج، حين يعيد ترتيب المشاهد بطريقة تعبّر عن رؤيته الخاصة وتوجّه إحساس المشاهد نحو معنى معين.
وأضاف: يملك المخرج أدوات كثيرة تساعده في توثيق موضوعه كما يراه، مثل زوايا التصوير، والتكوين، وتسلسل الأحداث في الخط الزمني للفيلم. تقديم مشهد أو تأخيره قد يخلق تأثيرًا شعوريًا مختلفًا، لكنه لا يغيّر من حقيقة الحدث، لأن الوقائع نفسها تظل كما هي، موثقة بصدق. حرية المخرج تكمن في المعالجة لا في التزييف، فالفيلم الوثائقي لا يختلق واقعًا جديدًا، بل يصنع إحساسًا جديدًا بالواقع نفسه.
في النهاية، الوثائقي ليس عن "ما حدث" فقط، بل عن "كيف شعرنا بما حدث"، وتلك هي المساحة التي يعيش فيها الإخراج الوثائقي الحقيقي.
وعي الإخراج
تقول مخرجة الأفلام الوثائقية العُمانية فاطمة سعيد: أؤمن أن دوري لا يقتصر على نقل الواقع، بل على فهمه وتقديمه من زاوية إنسانية تلامس المشاهد. لا أغيّر الحقيقة، لكني أرتبها بطريقة تجعلها أوضح وأقرب للناس. فالمونتاج بالنسبة لي ليس تلاعبًا بالأحداث، بل وسيلة لتنظيم الفكرة وإيصال الرسالة بأفضل شكل.
وأضافت: الحرية في الترتيب لا تعني فقدان الصدق، بل تتطلب وعيًا واحترامًا للحقيقة. هناك دائمًا خط رفيع بين الإبداع والتحريف، والمخرج الحقيقي يعرف كيف يحافظ عليه. صدق الفيلم الوثائقي لا يُقاس بعدد اللقطات الواقعية، بل بصدق نية المخرج في نقل ما يشعر به دون أن يبتعد عن جوهر الواقع. فعندما تكون الرسالة صادقة، يصبح الإبداع جزءًا من الحقيقة لا خطرًا عليها.