إلى أين تتجه غزة في ظل الصمت الدولي عن الإجرام الصهيوني؟
تاريخ النشر: 21st, April 2025 GMT
الثورة / يحيى الربيعي
على امتداد قطاع غزة المحاصر، تتكشف فصول مأساة إنسانية غير مسبوقة، حيث تتحول الحياة اليومية إلى كابوس مرعب، وتتلاشى أبسط مقومات البقاء أمام أعين العالم الصامت، الحاجة «أم أحمد»، رمز لمعاناة آلاف الفلسطينيين، تجسد بذهابها المتكرر إلى عيادة «الأونروا» بحثاً عن علاج لأمراضها المزمنة، الواقع المرير الذي يواجهه سكان القطاع، عودتها في كل مرة خالية الوفاض، ليس بسبب ندرة الدواء فحسب، بل بسبب نفاده التام نتيجة الحصار الخانق وإغلاق المعابر الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي منذ الثاني من مارس المنصرم.
تصاعدت التحذيرات الدولية والفلسطينية من كارثة إنسانية غير مسبوقة في قطاع غزة، وسط استمرار هجمات العدو الإسرائيلي وتشديد الحصار، ما دفع منظمات دولية إلى وصف الوضع بأنه “جحيم” و”مقبرة جماعية” للسكان والعاملين في المجال الإنساني.
غزة مقبرة جماعية
حذّرت الأمم المتحدة من أن سكان غزة يعيشون “أسوأ فترة” منذ بداية الحرب، مع تحوّل القطاع إلى “جحيم” بسبب النقص الحاد في الغذاء والدواء والوقود، وفق تصريحات أجيت سانغاي، مدير مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينية، وأكد سانغاي توقف المساعدات منذ مارس ما يفاقم معاناة أكثر من 2.4 مليون فلسطيني.
من جهته، نبّه مدير عام منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم إلى أن الهجمات على المستشفيات تهدّدُ بوقف الخدمات الصحية، التي تعتمد على مولدات كهرباء واليت باتت أمام تهديد حقيقي بتوقفها بسبب نقص الوقود ودعا إلى “حماية المرافق الصحية ورفع الحصار فورًا”
بينما حذّرت منظمة “أطباء بلا حدود” من تحوّل غزة إلى «مقبرة جماعية» نتيجة الهجمات المتعمدة على العاملين في المجالين الطبي والإنساني، ووصفت الوضع بأنه “تطهير عرقي يستهدف ملامح الحياة”، وأضافت أن الحصار الكامل على غزة أدى إلى نفاد مخزون الغذاء والوقود والأدوية، وحذّرت من أن نقص الوقود في مختلف مناطق غزة سيؤدي إلى توقف الأنشطة الطبية بشكل حتمي، بسبب اعتماد المستشفيات على المولدات الكهربائية.
ودعت المنظمة سلطات العدو الإسرائيلي إلى رفع الحصار اللاإنساني والقاتل على غزة فورًا، وشددت على ضرورة حماية حياة المدنيين الفلسطينيين، وضمان سلامة العاملين في القطاعين الطبي والإنساني، ووصفت “أطباء بلا حدود”، في تصريحات سابقة، الوضع الكارثي في غزة، بأن “رائحة الموت تفوح في كل مكان”، وأن العقيدة العسكرية الإسرائيلية ترتكز على مبدأ الانتقام العشوائي الأعمى. واعتبرت المنظمة أن ما يجري هو “تطهير عرقي يستهدف ملامح الحياة في غزة”.
الجريمة في الذريعة
المشهد المأساوي يتجاوز حدود الرعاية الصحية ليطال كل تفاصيل الحياة في غزة. لا حليب للأطفال، لا خبز يسد الرمق، لا دواء يخفف الألم، ولا غذاء يقي من شبح المجاعة الذي يخيم بثقله على أكثر من 2.3 مليون إنسان، وإن وُجدت بعض هذه الضروريات شحيحة، فإن أسعارها الملتهبة تقف عائقاً أمام جيوب الغزيين التي أنهكتها سنوات الحرب والحصار المتواصلة.
وفي ظل هذا الحصار المطبق، عاد الموت ليفرض حضوره القاتم مجدداً منذ الثامن عشر من مارس، بعد أن استأنف الاحتلال عدوانه الوحشي تحت ذرائع هي في ذاتها تندرج ضمن جرائم تصفية للقضية الفلسطينية. زعم الاحتلال أن هذه العمليات تهدف إلى إجبار المقاومة الفلسطينية على إطلاق الأسرى ونزع سلاحها، بينما أن الحقيقة على الأرض تتجاوز هذه المزاعم لتكشف عن استهداف ممنهج لتصفية الشعب الفلسطينية وتهجيره وسلبه حقه في الأرض والحياة، فقد ارتفعت حصيلة الشهداء منذ استئناف العدوان إلى 1652 شهيداً و4391 جريحاً، معظمهم من النساء والأطفال، ليرتفع العدد الإجمالي لضحايا حرب الإبادة المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023م إلى أكثر من 51 ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى.
لم يكتف الاحتلال بالقتل المباشر، بل عمد إلى استخدام التجويع والعطش والحرمان من العلاج كسلاح فتاك ضد الفلسطينيين، فقد استهدف أكثر من 37 مركزاً لتوزيع المساعدات و28 تكية طعام، في محاولة واضحة لتطبيق سياسة التجويع كأداة حرب، وهو ما أكده المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، محذراً من كارثة إنسانية حقيقية ومجاعة وشيكة تهدد حياة أكثر من 1.1 مليون طفل يعانون من سوء تغذية حاد.
كل شيء في غزة على حافة الانهيار
وتتفاقم الكارثة مع منع الاحتلال دخول أي شاحنات إغاثة أو وقود إلى القطاع، تاركاً آلاف الشاحنات المحملة بالمساعدات عالقة على المعابر لأسابيع طويلة، هذا الحصار الشامل يضرب أساسيات البقاء، ويدفع المرافق الخدمية والإنسانية إلى حافة الانهيار التام، حيث تعمل المستشفيات بقدرات محدودة وتنذر بالتوقف الكامل خلال أسابيع قليلة بسبب نفاد الوقود والأدوية.
لم تتردد وكالة «الأونروا» في دق ناقوس الخطر، معلنة نفاد مخزونات الغذاء التي دخلت القطاع خلال فترة وقف إطلاق النار، محذرة من خطر المجاعة الوشيك، وهو ما أكده المفوض العام للوكالة، فيليب لازاريني، الذي اتهم إسرائيل صراحة باستخدام الغذاء والمساعدات الإنسانية كسلاح في غزة، واصفاً الحصار الخانق بأنه «عقاب جماعي».
ولم يكن استخدام التجويع سلاحاً خفياً، بل تجلى في تصريحات علنية لمسؤولين إسرائيليين، على رأسهم ما يسمى بوزير الحرب «يسرائيل كاتس» والمدعو وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير، اللذين أعلنا صراحة منع دخول المساعدات للضغط على حركة حماس، في تجاهل تام للقانون الدولي والأعراف الإنسانية.
إن ما يجري في غزة ليس أزمة إنسانية، وإنما جريمة إبادة جماعية منظمة ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي بدعم أمريكي وصمت دولي مخزٍ، فآلة القتل الصهيونية تواصل غاراتها الوحشية على الأحياء السكنية المكتظة، مستخدمة قنابل شديدة التدمير تسفر عن تدمير كامل للمنازل ومقتل وإصابة المئات من المدنيين في كل غارة، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ.
الصمت رخصة مفتوحة
ورغم المناشدات المتكررة من العالقين تحت الأنقاض، فإن عمليات الإنقاذ تجري ببطء شديد وبأدوات بدائية، مما يزيد من أعداد الضحايا الذين يفقدون حياتهم اختناقاً أو متأثرين بجراحهم، وفي محاولة لتبرير جرائمها، تلجأ سلطات الاحتلال إلى الادعاءات الكاذبة باستهداف «قياديين عسكريين في حماس»، دون تقديم أي دليل ملموس أو السماح بتحقيق مستقل في هذه الادعاءات.
يؤكد خبراء القانون الدولي أن هذه الادعاءات لا تعفي إسرائيل من مسؤولياتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك إجراء التحقيقات الفعالة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات وجبر ضرر الضحايا، كما أن صمت المجتمع الدولي وتقبله الضمني لهذه الادعاءات يمنح إسرائيل عملياً رخصة مفتوحة لمواصلة استهداف المدنيين تحت غطاء قانوني زائف.
ويشدد المحللون العسكريون على أنه حتى في حال وجود مقاتل في مكان ما، فإن ذلك لا يبرر هذه المجازر الوحشية ولا يسقط عن سلطات الاحتلال التزاماتها القانونية بموجب القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك مبادئ الإنسانية والتمييز والضرورة العسكرية والتناسب واتخاذ الاحتياطات الواجبة.
ويؤكد خبراء القانون الدولي أن وقائع هذه المجازر تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن قوات الاحتلال تتعمد استهداف المناطق المكتظة بالمدنيين، مع علمها بأن غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وتستخدم أسلحة ذات قدرة تدميرية عالية دون مراعاة لمبدأ التمييز أو اتخاذ الاحتياطات اللازمة لحماية المدنيين. هذه العمليات العسكرية غير القانونية ترتقي إلى جرائم دولية مكتملة الأركان تستوجب الملاحقة القضائية والمساءلة الجنائية الدولية.
وصمة عار على جبين الإنسانية
إن تحول المجازر الجماعية بحق الفلسطينيين إلى مشهد مألوف يثير الصمت هو وصمة عار على جبين الإنسانية، فتسامح النظام الدولي مع هذه الجرائم ليس مجرد إخفاق أخلاقي، بل هو إخلال جسيم بالالتزامات القانونية للدول والمجتمع الدولي، ويحول القتل الجماعي للفلسطينيين إلى سياسة علنية تُنفذ على مرأى من العالم.
إن منهجية القتل الإسرائيلية تشير بوضوح إلى سياسة ترمي إلى القضاء على المدنيين الفلسطينيين في كل مكان في قطاع غزة، وبث الذعر بينهم، وحرمانهم من الإيواء والاستقرار، ودفعهم للنزوح القسري المتكرر، وإهلاكهم وإخضاعهم لظروف معيشية قاتلة.
ختاماً، فإن المجتمع الدولي بأسره مطالب بتحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية والتحرك العاجل لوقف جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، واتخاذ جميع التدابير الفعلية لحماية المدنيين الفلسطينيين، وضمان امتثال الكيان الصهيوني لقواعد القانون الدولي وقرارات محكمة العدل الدولية، ومساءلته ومحاسبته على جرائمه، كما أن العالم مطالب بتنفيذ أوامر القبض الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في هذه الجرائم، وفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية على الكيان المؤقت بسبب انتهاكاته المنهجية للقوانين الدولية والأعراف الإنسانية، بما في ذلك حظر تصدير الأسلحة إليه ووقف كافة أشكال الدعم والتعاون معه، بل إن تفعيل قنوات المساءلة والمحاسبة يجب أن يطال الدول المتواطئة والشريكة في هذه الجرائم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، إن صمت العالم تواطؤ، وتقاعسه جريمة أخرى تضاف إلى سجل الاحتلال الأسود.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
كيف تمحو إسرائيل أحلام الفلسطينيين في المنطقة «ج»؟
في تلك اللحظة الفاصلة بين الليل والفجر، وبين الحلم والخراب، كانت أمّ كرم تعدّ خبز التنور في خيمتها المتواضعة في خربة حمصة الفوقا بالأغوار الشمالية، حين داهمتها الجرافات الإسرائيلية برفقة جنود مدججين بالعتاد. صرخت الأم قبل أن تنهار الخيمة على رؤوس أطفالها: «ما لحقت حتى ألمّ البطانيات... هدّوا كل شيء، حتى صاج الخبز اللي ورثته عن أمي».
كانت هذه ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة. ففي قلب المنطقة «ج»، التي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية، يخوض الفلسطيني معركة بقاء يومية. لا تحميه القوانين، ولا تصله الكهرباء، ولا يسمح له ببناء جدار أو حفر بئر، في حين تزدهر المستوطنات على التلال، وتتكاثر مثل الطفيليات.
المنطقة «ج»: حيث تُهدم البيوت وتُحاصر الحياة
منذ توقيع اتفاق أوسلو، قُسّمت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق، وظلت المنطقة "ج" - الأكبر مساحة - تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة أمنيًا وإداريًا. تضم أكثر من 200 مستوطنة وبؤرة استيطانية، وتقطنها قرى فلسطينية مهمشة، محرومة من الحد الأدنى من البنية التحتية.
في هذا الفراغ القانوني، أصبحت الجرافة الإسرائيلية أداة تشريع، وأصبح الفلسطيني هدفًا دائمًا للمحو. كل شيء هنا مؤقت، هش، ينتظر أمر الهدم، أو حجارة مستوطن، أو اقتحامًا ليليًا يخلع أبواب المنازل وينثر سكانها في العراء.
فالهدف الإسرائيلي من هذه السياسات لا يخفى على أحد: فرض وقائع على الأرض تُمكّن من السيطرة الكاملة على المنطقة دون الحاجة إلى مفاوضات أو اتفاقيات، ودفع الفلسطينيين إلى اليأس والنزوح الذاتي البطيء، عبر خنق سبل العيش، وحرمانهم من الحق في البناء، والماء، والكهرباء، والتعليم. إنها سياسة استيطان توسعية تتستر بذرائع أمنية وقانونية زائفة، لكنها تسعى فعليًا إلى تفريغ الأرض من أصحابها، لتُعاد هندسة الجغرافيا والديموغرافيا بما يخدم مشروع الضم والهيمنة.
أقسى من الجندي: رعب المستوطن
في شرق نابلس، وتحديدًا في بيت دجن، كان أحمد صوافطة، سائق الجرافة الفلسطيني، يحاول تسوية قطعة أرض تعود لعائلة زراعية فقيرة، حين داهمتهم قوة من جيش الاحتلال الإسرائيلي وصادرت المعدّات.
يقول خلال حديثه لـ«عُمان»: «أنا لم أقوم ببناء مستوطنة، ولا اقوم بحفر نفق! أنا أعمل في عملي، قالي لي جنود الاحتلال: هذا نشاط غير مرخّص، مع أن الأرض لنا، فقام جنود الاحتلال بضرب شاب من كان يعمل معي، ووقع أرضًا من الضرب المبرح».
أما في عصيرة القبلية جنوب نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة، فكان المشهد أكثر رعبًا. المستوطنون لا يكتفون بسرقة الأرض، بل يهاجمون القرى نهارًا، تحت حماية جنود الاحتلال.
محمد عارف، شاب من القرية، يروي لـ«عُمان» مشهد الاقتحام الأخير: «دخلوا على القرية مثل قطيع مسعور، معهم سلاح وملثمين. رجموا البيوت بالحجارة، ضربوا الشجر، كسروا السيارات. حاولنا نصدهم، فهجم علينا جنود جيش الاحتلال، بدل ما يبعد عنا غلاة المستوطنين».
جبع: ذاكرة تهدمها الجرافات
في بلدة جبع الواقعة شمال مدينة القدس المحتلة، تقف الجرافة شاهدًا على جريمة جديدة. منزل عطا أمين العبيدي، المشيد منذ أربعين عامًا، تم تسويته بالأرض. لم تُمنح العائلة أي إخطار، ولم تُعطَ فرصة للاستئناف.
يقول عطا العبيدي لـ«عُمان»، وهو يضمد جراح ابنه الذي أُصيب أثناء الاقتحام: «12 نفر ساكنين في هذا البيت. صحونا على صريخ، دخلوا البيت بدون إذن، دفعونا، طخّوا ابني، وحجرونا، وبلشوا بالهدم. الدار راحت، كأنها ليست أربعين سنة تعب».
سامي توام، رئيس مجلس قروي جبع، يحاول أن يلملم ما تبقى من ذاكرة القرية: «هذا البيت من ثلاث طوابق، 200 متر، فيه بئر ماء وشجر عمره سنين. نحن لم نخسر بيت فقط، وإنما خسرنا تاريخ. للأسف، الاحتلال الإسرائيلي لم يهدم بيوت، ولكن يهدم مستقبل بلدة كاملة».
وأضاف بأسى: «من شهرين تقريبًا، فجأة ظهروا مستوطنين في سهل البلد، نصبوا خيام، وبدأوا يهاجموا الشجر والمزارعين. حاولنا بكل الطرق نمنعهم - اتصلنا بالارتباط الفلسطيني، والشرطة، وجهات أجنبية - ولكن بيرجعوا تاني يوم، أقوى».
الهدم بلا إنذار
وفي فجر آخر أكثر قسوة، اقتحمت قوات الاحتلال المنطقة بين بلدتي الرام وجبع، وهدمت منزلًا ومجموعة بركسات تأوي خمس عائلات فلسطينية.المنزل يعود للمواطن إبراهيم كعابنة، الذي يروي مشهد الطرد والهدم بذهول لا يزال في عينيه:«الساعة خمسة الفجر، سمعنا عراك كلامي. طلعوا علينا جيش الاحتلال، طلعونا من البيت حتى أواعينا ما قدرنا نأخذها، المبنى مشيد من 1988، معي عقد ملكية، وفيه ثلاث عائلات، وفيه مزرعة غنم فيها عائلتين. لكن ما سمعونا، ولا أعطونا مهلة، قالوا: تنفيذ أمر عسكري».
الاستيطان يزحف
ليس الهدم وحده ما ينهك الفلسطيني، بل اعتداءات المستوطنين اليومية. في قرى القدس، وخصوصًا في سهل جبع، سُجلت عشرات الهجمات في الأسابيع الأخيرة.
سامي توام يروي أن المستوطنين اقتلعوا مئات أشجار الزيتون، وهاجموا قطعان الأغنام، واعتدوا على الأهالي والمزارعين.
ويتابع : «كأنهم بيجربوا حدود صبرنا. كل يوم يأتون إلى هنا، كل مرة بخيمة جديدة. المستوطن عنده جيش محتل يحميه، ونحن لنا رب العالمين فقط».
يرى المحلل السياسي الفلسطيني عصمت منصور أن ما يحدث في المنطقة «ج» ليس سلسلة اعتداءات عشوائية، بل خطة مدروسة لتغيير الواقع الديمغرافي والجغرافي.
يقول: «إسرائيل تطبق سياسة (الضم الزاحف). لا تحتاج قانونًا لضم الضفة، بل تخلق وقائع على الأرض. تُطرد العائلات، تُسلب الأراضي، تُحاصر القرى، ويُغلق المجال للبناء والتنمية. وبهذا، تُفرغ المنطقة ج من سكانها الأصليين، وتُملأ بالمستوطنين».
ويضيف، في تصريح لـ«عُمان»: «الخطورة مش بس بالهدم، بل بكسر الروح. الفلسطيني لما يفقد البيت، الشجرة، الماء، حتى الظل، يبدأ يفكر بالرحيل. وإسرائيل تراهن على هذا التآكل البطيء».
وأشار إلى أن الاستيطان في المنطقة «ج» يجري وفق رؤية استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى قطع التواصل الجغرافي بين المدن والبلدات الفلسطينية، وتحويل الضفة الغربية إلى جزر معزولة يسهل السيطرة عليها.
ويوضح: «هذا المشروع الاستيطاني يقتل الأمل الفلسطيني بدولة قابلة للحياة. لا يكفي أن نرصد أرقام البيوت المهدمة أو البؤر الجديدة، علينا أن ننتبه إلى ما هو أخطر: تقويض فكرة الوطن في ذهن الإنسان الفلسطيني، وقتل الأمل لديه إقامة الدولة الفلسطينية».
صوت الجرافة أعلى من النداء
في المنطقة «ج»، لا توجد خطوط تماس تقليدية، ولا حرب تُعلن رسميًا، لكن هناك ساحة مفتوحة للمحو المنهجي. كل حجر يُهدم، كل شجرة تُقطع، كل طفل يُفزع من نومه، هو جرح في جسد الأرض.
ما بين خربة حمصة، وجبع، وبيت دجن، والرام، يتكرّر المشهد، وتتشابه التفاصيل، ويطغى صوت الجرافة على صوت الأم وهي تبكي خبزها الذي احترق على صاجٍ مقلوب.
هنا، حيث تُسرق الذاكرة ويُقتل الأمل، يبقى الفلسطيني واقفًا، يبني من الطين مرة أخرى، ويعيد زرع الزيتونة، ولو في علبة سمن فارغة، ويقول: «إحنا هون... ولو ما ضل إلنا غير ظل الشجرة».