ما يحدث في أمريكا غير طبيعي ويلـزمـه انتفاضـة غيـر طبيعيـة
تاريخ النشر: 20th, April 2025 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
في البدء كان العذاب. في ظل الامبراطوريات القديمة، كان الأقوياء يفعلون ما يشاؤون والضعفاء يحتملون العناء مرغمين.
لكن بمرور القرون، أقام الناس دعائم الحضارة، فوضعوا الدساتير لكبح السلطة، وأقاموا التحالفات الدولية لتعزيز السلام، والأنظمة التشريعية لتسوية النزاعات سلميا، والمؤسسات العلمية لعلاج الأمراض، والمنابر الإخبارية لزيادة فهم الشعب، والمنظمات الخيرية لتخفيف المعاناة، والمشاريع التجارية لتحقيق الثروة وتعميم الرخاء، والجامعات من أجل الحفاظ على أمجاد أسلوبنا في الحياة ونقلها وتطويرها.
والترامبية تهدد هذا كله، فهي بالأساس تتعلق بطلب السلطة ـ السلطة من أجل السلطة، وهي عدوان متعدد الجبهات يهدف إلى أن يجعل الأرض ملعبا للقساة، ولذلك بطبيعة الحال لا بد من إضعاف أي مؤسسة قادرة على كبح السلطة أو لا بد من تدميرها. والترامبية تتعلق بالأنا، والشهوة، والرغبة في التملك، ودافعها هو المقت الجذري لكل العناصر الرفيعة في الروح الإنسانية، من قبيل التعلم والتعاطف والفضول العلمي والسعي إلى العدالة.
ونحن إلى الآن نتعامل مع هجمات الرئيس ترامب وأتباعه في إدارته باعتبارها سلسلة هجمات منفصلة. فهم في مسار يسعون وراء شركات القانون. وفي مسار آخر يهاجمون بشراسة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وفي آخر يهاجمون الجامعات. ثم في مسار آخر يقوضون حلف شمال الأطلسي، وفي غيره يفككون التجارة العالمية.
وهذه طريقة خاطئة في التفكير في الأمر، فهذه ليست بمعارك منفصلة، ولكنها سعي واحد للإجهاز على مكونات النظام الحضاري القادرة على كبح استحواذ ترامب على السلطة. ولا بد من تنسيق الجهود لإلحاق الهزيمة بذلك.
وحتى الآن، فإن كل قطاع تعرض لهجوم ترامب قد استجاب للهجوم منفردا، فشركات القانون تسعى إلى حماية نفسها، والجامعات، تحاول أن تفعل مثل ذلك منفردة. صحيح أن مجموعة شركات قد تجمعت لدعم شركة بيركنز كوي، ولكن في حالات أخرى تحاول شركات قانون منفردة أن تتوصل إلى سلام منفرد مع ترامب. وصحيح أن جامعة هارفرد تمكنت أخيرا من وضع حد للهجوم عليها، ولكن جامعة كولومبيا توصلت إلى صفقة. وهذه استراتيجية كارثية تضمن لترامب أن يسحق الضحية تلو الضحية، متبعا سياسة فرق تسد.
ببطء، يدرك الكثيرون منا أننا بحاجة إلى التكاتف. ولكن حتى هذه الجهود منعزلة ومتشرذمة.
ويعمل العديد من أعضاء مؤتمر العشرة الكبار على تشكيل تحالف للدفاع عن الحرية الأكاديمية. وهذا جيد. ولكنه لن يشمل غير ثماني عشرة مؤسسة تعليمية من قرابة أربعة آلاف كلية وجامعة أمريكية مانحة للشهادات العلمية.
وحتى الآن، فإن الشيء الحقيقي الوحيد الواعد بتحرك أكبر ـ أي بحركة مناهضة شعبية ـ هو المسيرات التي قادها بيرني صاندرز وألكسندريا أوكاسيو كورتيز. ولكن حتى هذه أيضا طريقة غير فعالة للرد على ترامب، لأن هذه المسيرات الحزبية تجعل النضال يبدو وكأنه منافسة طبيعية بين الديمقراطيين والجمهوريين.
إن ما يجري الآن ليس سياسة طبيعية. لأن ما نشهده هو هجوم على المؤسسات الجذرية في حياتنا المدنية، وعلى ما ينبغي أن نتعهد جميعا بالولاء له، ديمقراطيين أو مستقلين أو جمهوريين.
لقد حان الوقت لانتفاضة مدنية قومية شاملة. لقد حان الوقت للأمريكيين في الجامعات والقانون والاقتصاد والمنظمات غير الربحية ومجتمع البحث العلمي والخدمة المدنية وغيرها أن يشكلوا حركة شعبية واحدة منسقة. فما يسعى إليه ترامب هو السلطة. والطريقة الوحيدة التي يمكن إيقافه بها هي مواجهته بحركة تملك سلطة منافسة.
ولقد كان ذلك بالضبط هو دأب الشعوب على مدار التاريخ كلما واجهها هجوم استبدادي. ففي كتابهما «لماذا تفلح المقاومة المدنية» نظرت إيريكا تشينويث وماريا ج. ستيفان إلى مئات الانتفاضات غير العنيفة، وتبين أن هذه الحركات استعملت أدوات كثيرة في أيديها ـ منها رفع الدعاوى القضائية والمسيرات الشعبية والإضرابات وإبطاء العمل والمقاطعة وغيرها من أشكال عدم التعاون والمقاومة.
كان دأب هذه الحركات أن تبدأ صغيرة ثم تحتشد. وتوجه رسائل واضحة إلى جماعات مختلفة، وتغيّر السرديات بحيث لا يبقى المستبدون في مركز الهجوم الدائم. وكانت في بعض الأحيان تستعمل وسائل غير عنيفة لاستفزاز النظام ودفعه إلى عمل عنيف، فيهز ذلك الشعب، ويقوض سلطته، ويزيد من قوة الحركة. (وتذكروا حركة الحقوق المدنية في سيلما). والترامبية في الوقت الراهن تقسم المجتمع المدني، فإن قامت انتفاضة سلمية فبوسعها أن تبدأ بتقسيم قوى الترامبية.
تؤكد إيريكا تشينويث وماريا ج. ستيفان أن ذلك يقتضي تنسيقا. لا ينبغي أن يوجد دائما قائد واحد ذو كاريزما، ولكن ينبغي أن توجد منظمة تمثل ركيزة أساسية، وهيئة تنسيقية واحدة تعنى ببناء التحالفات.
في كتابه «الجَيَشان»، نظر جاريد دايموند إلى بلاد مرت بأزمات وتعافت منها. ويشير إلى أن الدول التي تتعافى لا تهول الأمور بأن تقول إن كل شيء فاسد ولا بد من هدمه. ولكنها تجري جردا دقيقا لما يجدي نفعا وما لا نفع فيه. والقادة يتحملون نصيبهم من المسؤولية عن مشاكل المجتمع.
ويبدو لي هذا نصيحة جوهرية للأمريكيين اليوم. فنحن نعيش في بلد فيه مستويات منخفضة انخفاضا كارثيا من الثقة في المؤسسات.
إذ يواجه رؤساء الجامعات، وشركات القانون الكبرى، والمنظمات الإعلامية، والمديرون التنفيذيون للشركات جدارا من الشك والسخرية. فإن كانوا سيشاركون في انتفاضة مدنية شعبية ضد ترامب، فيجب أن يظهروا لبقية البلد أنهم يفهمون خطايا المؤسسة التي أدت إلى صعود ترامب في المقام الأول. ولا بد أن يظهروا أنهم يسعون سعيا ديمقراطيا إلى إصلاح مؤسساتهم. ولبس هذا محض دفاع عن المؤسسة إنما هو حركة إلى مكان جديد.
ولننظر في أمر الجامعات. لقد شرفت بالتدريس في جامعات أمريكية على فترات متقطعة من السنوات الثلاثين الماضية وأزور العشرات منها كل عام. والجامعات هي جواهر تاج الحياة الأمريكية. فهي بوتقات الإبداع العلمي والابتكار في ريادة الأعمال. وبطرق لا حصر لها يساعدنا باحثو الجامعات في فهم أنفسنا وفهم عالمنا.
ولقد رأيت مرارا وتكرارا فتاة صغيرة تدخل حرما جامعيا في سنتها الأولى بفضول كبير وعلم قليل. ثم لا يحل عليها العام الدراسي الأخير حتى يكون أمرا مثيرا للإعجاب قد حدث لها، فإذا بها استنارت وتثقفت وبات لها تفكير نقدي، فأعلم أن الجامعة مارست عليها سحرها مرى أخرى.
والناس يتوافدون من أرجاء العالم على جامعاتنا إعجابا بها.
لكن شأن جميع المؤسسات، فإن فيها عيوبا. فقد سمح الكثيرون لأنفسهم بأن يغرقوا في تقدمية خانقة تقول لنصف البلد: أصواتكم لا تهم. ومن خلال سياسات القبول في الجامعة بإيثارها أبناء الأثرياء، أسهمت جامعات النخبة في تعميق فجوة الشهادات. فلو أن العائلات الثرية نفسها تنتصر جيلا بعد جيل، فلا ينبغي لأحد أن يندهش حين يعمد الخاسرون إلى قلب الطاولة.
بعبارة أخرى، يجب أن تكون للانتفاضة المدنية رؤية قصيرة المدى ورؤية طويلة المدى. فعلى المدى القصير: إيقاف ترامب. إحباط جهوده. تكديس الدعاوى القضائية. تأليب بعض أتباعه عليه. أما الرؤية الثانية فرؤية طويلة المدى لمجتمع أكثر عدالة، لا يقتصر تشدده على ترامب فحسب، بل يشمل أيضا أسباب الترامبية، فهي رؤية إيجابية. وسواء أتعلق الأمر بالجامعات أم بنظام الهجرة أم بالاقتصاد العالمي، لا يمكننا العودة إلى الوضع الراهن الذي كان سائدا عندما صعد ترامب إلى السلطة للمرة الأولى.
الحق أنني لست بالشخص الحركي. فلا أشارك بطبيعتي في المظاهرات أو المسيرات التي لا أغطيها بوصفي صحفيا. ولكن هذا ما تحتاج إليه أمريكا الآن. فلو أن ترامب يغلل أعظم المؤسسات في الحياة الأمريكية، فليس لدينا ما نخسره إلا أغلالنا.
ديفيد بروكس روائي وأحد كتاب الرأي في نيويورك تايمز
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لا بد من
إقرأ أيضاً:
ماذا يحدث في البنتاجون الآن؟.. تسريب جديد قد يطيح بـ وزير الدفاع الأمريكي
بيت هيجسيث.. تشهد وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) حالياً حالة من الاضطراب والفوضى بعد تسريب جديد قد يؤثر بشكل كبير على مستقبل وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيجسيث.
وسط هذه الفوضى، تشير التقارير إلى أن التسريب قد يكون بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير، مما يزيد من الضغط على «هيجسيث» ويهدد مستقبله في منصبه.
تسريب جديد يتسبب في انتشار الفوضى داخل أروقة البنتاجونالتسريب الأخير يتعلق بمشاركة وزير الدفاع «بيت هيجسيث» معلومات حساسة تتعلق بالضربات العسكرية التي تستعد الولايات المتحدة لتنفيذها في اليمن ضد الحوثيين، عبر تطبيق المراسلة المشفرة «سيجنال»، حيث كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» عن أن «هيجسيث» قد أرسل تفاصيلا دقيقة حول الغارات العسكرية المرتقبة إلى مجموعة من المقربين منه، بما في ذلك زوجته، شقيقه، ومحاميه، وهو ما يعد انتهاكًا واضحًا للبروتوكولات الأمنية الأمريكية.
في حين أن تسريب المعلومات عبر تطبيق «سيجنال» يمثل خرقًا للأمن القومي، إلا أن المتحدث باسم البنتاجون، شون بارنيل، نفى صحة التقارير التي أفادت بأن الوزير قد نشر محادثات سرية عبر التطبيق، واصفًا ما نشرته الصحيفة بأنها «أخبار كاذبة».
ما زال التسريب يشكل قلقا كبيرا داخل أروقة البنتاجون، خصوصًا في ظل الاتهامات المتزايدة بالفساد والفوضى التي تسود الوزارة تحت إدارة هيجسيث. وفي مقال نُشر مؤخرًا في مجلة «بوليتيكو»، انتقد جون أوليوت، المتحدث السابق باسم وزارة الدفاع الأمريكية، هيجسيث بشدة، مشيرًا إلى أن الوزارة تمر بأزمة حادة تحت قيادته. أوليوت، الذي استقال الأسبوع الماضي، اتهم وزارة الدفاع بالتخبط وافتقاد القيادة الفعالة، مما جعلها تصبح مصدر إلهاء للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
تسريحات واسعة في البنتاجونالتسريب الأخير ليس الحادث الأول الذي يشعل نار الاضطرابات في البنتاجون. في الأسابيع الماضية، قامت وزارة الدفاع بإقالة عدة مسؤولين كبار، منهم المستشار الكبير دان كالدويل، ونائب رئيس الأركان دارين سيلنيك، ورئيس ديوان نائب وزير الدفاع كولين كارول، بعد تحقيقات أظهرت تسريب معلومات حساسة.
البيت الأبيض وترامب يدعمان هيجسيثورغم الانتقادات الداخلية في البنتاجون، لا يزال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يدعم وزير دفاعه، حيث أعرب عن ثقته في هيجسيث في أكثر من مناسبة، مشيرًا إلى أن الوزير يعمل على التخلص من العناصر الفاسدة داخل الوزارة. وفي تصريحاته الأخيرة، قال ترامب: «هيجسيث يقوم بعمل رائع في تطهير البنتاجون من الأشخاص السيئين».
في ظل الظروف الحالية، تبقى التسريبات الداخلية والفضائح المستمرة محط أنظار وسائل الإعلام والمراقبين السياسيين. وبينما تواصل المعارضة الديمقراطية الضغط على وزارة الدفاع، يبدو أن هيجسيث قد يجد نفسه في موقف حرج في حال تبين أن التسريبات قد تسببت في خرق كبير للأمن القومي.
وبحسب خبراء في الأمن القومي، فإن استمرار التسريبات والفضائح قد يهدد استمرارية هيجسيث في منصبه، حيث من المتوقع أن يقوم الرئيس ترامب باتخاذ قرار بشأن مستقبله في الوزارة في الفترة القادمة.
اقرأ أيضاً%20 من الأرض مقابل السلام.. خطة أمريكية تثير الجدل في أوكرانيا
للمرة الأولى منذ 35 عاما.. تفشي مرض الحصبة فى ولاية أمريكية
«جبتك يا عبد المعين».. سرقة حقيبة وزيرة الأمن الداخلي الأمريكية