أوروبا في مواجهة قرارات ترامب: كارثة أم آفاق؟
تاريخ النشر: 20th, April 2025 GMT
يعيش الأوروبيون هذه الأيام مرحلة قلق غير عادية، غير مسبوقة بالنسبة إليهم منذ نهايات الحرب العالمية الثانية؛ بل منذ أيام الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى التي كانت (أزمة الخميس الأسود – أزمة الكساد الكبير) في خريف عام 1929 التي حدثت في الولايات المتحدة وأثرت في الاقتصاد العالمي برمته، بل في السياسات والاصطفافات العالمية أيضاً.
فأوروبا الغربية، التي وجدت نفسها أمام تحديات جديدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت تعول كثيرا على مد الجسور مع جناحها الشرقي، لتتمكن من تشكيل قطب عالمي وازن يتناسب مع حجم القارة ودورها، وإمكانياتها واحتياجاتها. ولكنها لم تتمكن من تحقيق هذا الهدف لأسباب كثيرة منها داخلية وأخرى خارجية، فاعتمدت أسلوب الاستثمار في المصالح الاقتصادية بغية التخفيف من التوترات السياسية على المستوى العالمي. هذا في حين أنها واظبت في اعتمادها على الحلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة في سياساتها الدفاعية.
ورغم التحالف الوثيق بين القوى الأوروبية الغربية الأساسية (ألمانيا، فرنسا، وبريطانيا وغيرها) والولايات المتحدة، ظلت المواقف متباينة على صعيد التعامل مع القوى الدولية الأخرى خارج التحالف الغربي. ويُشار هنا إلى روسيا والصين بصورة أساسية، إلى جانب الدول الطموحة الأخرى خاصة آسيا.
فبينما وجد الأوروبيون في العولمة وقواعد النظام التجاري العالمي، والمصالح المتبادلة، والتخفيف من حدة الهواجس عبر المشاريع الاقتصادية المشتركة الأداة الأفضل لبناء العلاقات الدولية على مقومات استقرار مستدامة، استمرت الولايات المتحدة في نهجها الرامي إلى الاحتفاظ بموقعها الريادي على مختلف المستويات عبر التمسك بالقوة العسكرية الرادعة، ومحاولات توسيع نطاق حلف الناتو، وقطع، وعرقلة الطريق أمام امكانية نشوء قوة عسكرية أوروبية دفاعية خاصة من شأنها ضمان مصالح واستقلالية الدول الأوروبية من دون أن تصل الأمور إلى حد القطيعة أو المنافسة مع الولايات المتحدة. ومع ذلك تمكن الطرفان الأوروبي والأمريكي من الحفاظ على أوثق العلاقات في مختلف الميادين، وأفلحا في تنسيق المواقف، رغم تباين المصالح والرؤى والحسابات الاستراتيجية، وأساليب التعامل والتقنيات وإمكانيات الذكاء الاصطناعي، والقدرة على مراقبة أدق التفاصيل في حياة الأفراد.
وتمكن الطرفان من بلوغ درجة مقبولة من التكاملية فيما بينهما على أساس المصالح الاقتصادية الكبرى المشتركة، وما ساعدهما في هذا المجال تمثل في المرجعية الديمقراطية لدى الجانبين، وهي المرجعية التي كانت تتمكن، رغم كل نقاط الضعف، من تجاوز الأخطاء والعثرات، واستعادة الحيوية والمبادرة استناداً إلى الشرعية الشعبية التي كانت، وتظل، في جميع الأحوال الأكثر طمأنينة واستقراراً من أنماط أخرى من الشرعيات المفروضة سواء بصورة مباشرة صارخة، أو خفية عبر ثورة الاتصالات. ومن خلال تشجيع بعض النزعات، وتحوير الحقائق، وتسويق المرغوب اعتماداً على تقنيات وإمكانيات الذكاء الاصطناعي، والقدرة على التحكم بأمزجة وسلوكيات الأفراد، وتكوين النزعات، والتأثير في المواقف عبر مختلف شبكات التواصل الاجتماعي وأجهزة الإعلام.
مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى موقعه في البيت الأبيض للمرة الثانية، شعر الأوروبيون بأن عليهم الاستعداد لكل السيناريوهات السيئة؛ وذلك بناء على المواقف السابقة لترامب، وتصريحاته؛ بالإضافة إلى علاقاته الجيدة مع بوتين، وتوجهاته الاقتصادية السياسية التي لا يمكن التكهن بها.
واليوم يشعر الأوروبيون بصورة عامة، والغربيون منهم بصورة خاصة، والاسكندنافيون والفنلنديون على وجه أخص، أنهم أمام تحديات كبرى، منها أمنية دفاعية، ومنها اقتصادية؛ هذا إلى جانب التحديات المستقبلية سواء البيئية منها أم التكنولوجية؛ وحتى على مستوى استمرارية الأنظمة الاجتماعية والسياسية والمالية في صيغتها المستقرة الراهنة.
فبعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام من الحرب القاسية شبه المباشرة بين الدول الأوروبية وروسيا على الأراضي الأوكرانية نتيجة الغزو الذي أعلن عنه بوتين ضد الأخيرة بذريعة منعها من الانضمام إلى الناتو، وبحجة إبعاد مخاطر الحصار الغربي على بلاده؛ تعاني الدول الأوروبية بصورة عامة من استنزاف اقتصادي خطير، أثر في ميزانياتها ومشاريعها التنموية ومستوى معيشة مواطنيها. كما ألزمها برفع سقف ميزانياتها الدفاعية، بل دفع ببعضها مثل السويد وفنلندا، إلى إحداث تغييرات جذرية في عقيدتها الحيادية، ودفع بها إلى أحضان الحلف الأطلسي، الأمر الذي وضعها في عين العاصفة حيث تواجه مباشرة مخاطر جدية أمنية ومستقبلية من حدوث مجابهات تصادمية بينها وبين روسيا.
ومع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى موقعه في البيت الأبيض للمرة الثانية، شعر الأوروبيون بأن عليهم الاستعداد لكل السيناريوهات السيئة؛ وذلك بناء على المواقف السابقة لترامب، وتصريحاته؛ بالإضافة إلى علاقاته الجيدة مع بوتين، وتوجهاته الاقتصادية السياسية التي لا يمكن التكهن بها. ولا يمكن ان توحي بما إذا كانت هناك خطة متكاملة توجهها، أم أنها مجرد مواقف مزاجية تتوافق مع التوجه الشعبوي السائد اليوم في العديد من الأنظمة الديمقراطية في العالم، سواء في الولايات المتحدة أو في غيرها، وهي الدول التي عُرفت بديمقراطياتها المستقرة نسبياً، أو بتوجهاته الرئيسية الديمقراطية على الأقل.
أما بالنسبة إلى الدول الاسكندنافية، خاصة السويد، فهي تعيش وضعية قلقة للغاية، تستوجب اتخاذ الخطوات المدروسة في مختلف الاتجاهات بحذر شديد. فهي دولة قريبة من روسيا التي كانت لها أطماع دائمة، وما زالت، في التوسع شمالاً وغرباً، ولديها تاريخ أسود مفعم بالصراعات والحروب مع السويد أيام كانت فيها هذه الأخيرة من القوى الإقليمية الكبرى. واليوم هناك مشاريع روسية وأمريكية واسكندنافية للتوسع شمالاً باتجاه منطقة القطب بعد التغييرات المناخية التي شكلت تحدياً بيئياً ينذر بالكثير من المخاطر من جهة، ويفسح المجال في الوقت ذاته أمام استغلال المستجدات المترتبة على ذلك من ناحية الاستثمار في الموارد والاستفادة من الممرات الجديدة من جهة ثانية.
وبناء على ما تقدم، تستعد السويد، رغم ظروفها الدقيقة الحرجة، لصراعات قادمة، وتحركات روسية استخباراتية وعسكرية وحتى سيبرانية وغيرها، تهدد أمنها الداخلي، وأمن دول البلطيق التي تعتبرها الدول الاسكندنافية جزءأً من منطقتها الحيوية على مختلف المستويات.
وهذا ما يفسر حالة الإحباط والقهر التي تخيم على توجهات السياسيين الاسكندنافيين، خاصة السويديين، وذلك بفعل تراجع الإدارة الأمريكية في عهد ترامب عن التزاماتها بشأن دعم أوكرانيا والحليولة دون خضوعها للهيمنة الروسية مجدداً. بل أن التصريحات العلنية لترامب، وضغوطه بشأن غرينلاند قد أدت إلى تنامي أزمة ثقة كبيرة بين الحكومات الأوروبية في الشمال بصورة عامة، والإدارة الأمريكية الجديدة؛ وهناك خشية حقيقية من أن تؤدي إجراءات ترامب الخاصة بالتعرفة الجمركية؛ ورغم ظهور مؤشرات وبوادر لامكانية التوصل إلى حلول وسط تقطع الطريق على الحرب التجارية المفتوحة بين الطرفين، خاصة بعد تسرب معلومات بخصوص جهود تبذل بين كل من الصين والولايات المتحدة من أجل الموضوع ذاته، وبعد الاتصالات الصينية مع الدول الآسيوية الفاعلة في هذا المجال.
وبالعودة إلى السويد، يلاحظ أنها دولة صغيرة الحجم مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى المركزية، ولكنها الركن الأساس في الشمال الأوروبي؛ وهي تحظى بتقدير خاص لسجلها الثري في ميادين الاختراعات والأبحاث والتكنولوجيا المستقبلية، إلى جانب امكانياتها الكبرى الاقتصادية والبحثية. وهي تعتمد بصورة أساسية على تصدير السلع النوعية إلى السوق الأمريكية تحديداً، وهناك شراكات بحثية وتجارية كثيرة مع مؤسسات وجامعات أمريكية عريقة. كما أن نظامها الديمقراطي رغم نقاط الضعف التي تبلورت في السنوات الأخيرة، لا سيما من جهة تنامي التيارات الشعبوية، وظهور شريحة بيروقراطية باتت العملية الديمقراطية بالنسبة إليها مجرد وسيلة للتحكم، وذلك بفعل ما تمتلكه من خبرات ومعلومات نتيجة استمراريتها سنوات طوال في مفاصل الدولة على المستوى المحلي والمركزي.
وكل ذلك من شأنه التأثير السلبي في مستقبل نظام الرفاه الاجتماعي المعتمد في السويد، وهو النظام الذي يضمن مقومات العيش الكريم لسائر المواطنين والمقيمين، ويعتبر أساس الاستقرار المجتمعي والسياسي الذي يعاني راهناً من مخاطر متعددة المصادر، لا سيما من جهة تنامي شعبية القوى اليمينية الشعبوية المتطرفة التي تدعو صراحة إلى وضع قيود صارمة تحد من قبول المزيد من المهاجرين. هذا فضلاً عن ارتفاع نسب البطالة والجريمة والتضخم، إلى جانب الصعوبات المعيشية الكبرى التي يعاني منها السويديون حالياً. وما يزيد من عمق الأزمة يتمثل في ظاهرة القلق وعدم الاستقرار التي تعاني منها الأحزاب الصغيرة التي تبحث عن مصالح حزبية انتهازية في المقام الأول، ومن دون مراعاة الحسابات الاستراتيجية التي ينبغي أن تكون لها الأولوية في مثل هذه الظروف.
وفي هذا السياق، يُعتقد أن التفاهم بين الحزبين الاشتراكي/الاجتماعي الديمقراطي زعيم المعارضة؛ وحزب المحافظين الذي يقود الحكومة الحالية، هو أفضل حل لضمان الاستقرار الداخلي، وطمأنة المستثمرين والشركات؛ واتخاذ المواقف الحاسمة الموحدة للتعامل الحكيم مع التحديات المفصلية. فالحزبان يمتلكان كفاءات خبيرة، ونضجا في التوجهات، وقدرة على وضع استراتيجية وطنية عامة تستوعب التحديات النوعية في هذه المرحلة المعقدة بكل المقاييس والمفتوحة على مختلف الاحتمالات.
أما العلاقات مع الولايات المتحدة فهي، رغم الخضات التي تحدث هنا وهناك، ستظل ركناً أساسياً في السياسات الاستراتيجية على مختلف الصعد. هذا مع أهمية ملاحظة أن ذلك لن يمنع السويد من الانفتاح على الدول الأخرى، لا سيما الصين والهند والدول العربية والإسلامية؛ وهو الأمر الذي ربما يؤدي، بالتنسيق مع الجهود الأوروبية والدولية المؤثرة الأخرى وبدعم ضروري منها، للدفع نحو حوار عالمي، يفضي إلى إعادة هيكلة الأنظمة القديمة في المؤسسات الدولية، خاصة الأمم المتحدة، والهيئات التابعة لها، لتصبح الأخيرة قادرة على مجاراة العصر وتحدياته في ظل التطورات والمتغيرات النوعية البنيوية المتلاحقة في سائر المجالات.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه السويد السويد أوروبا قرارت ترامب سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة الدول الأوروبیة التی کانت على مختلف إلى جانب من جهة
إقرأ أيضاً:
مخاطر الحرب الاقتصادية العالمية الثالثة
مع شرارة الحرب تتكثف الأدوات، وتتغير الجبهات، ويصبح الفيروس جنرالا، والميناء خندقا، والميدان سوقا للأموال، والدولار مدفعا، والعملة الرقمية بندقية، والتكنولوجيا مؤسسات عسكرية بكافة تشكيلتها، والعالم مجلس حرب، وفلسطين كاملة وغزة خاصة تسطر ملحمة صمود وصعود، تصبح الحرب مختلفة عن سابقتها، ليست كما عهدناها، فهي حرب لا تُخاض بالبارود، بل بالبيانات والمعلومات وسلاسل الإمداد، بالأسواق والنقد، بالغذاء والتقنية، فهي حرب لا عنفية في شكلها، لكن شرسة في أثرها.
وما نعيشه اليوم هو لحظة مفصلية في إعادة هندسة العالم.. بمخاطر لا تهدد ميزانيات الدول فحسب، بل تهدد وجودها السيادي ذاته، وربما وجهودها الجغرافي..
استهلال استراتيجي: حين صار الفيروس جنرالا.. والعالم مجلس حرب
البداية بتوقيت الحرب، نهاية 2019، حيث لم يكن فيروس كورونا مجرد وباء صحي، بل إعلانا صامتا عن تغيير قواعد الاشتباك الدولي، فتوقّف مصنع واحد في الصين كان كافيا لإحداث شلل في سلاسل الإمداد العالمية، وما تبعه من انخفاض لسعر النفط بنسبة 65 في المئة خلال ثلاثة أشهر، وتعطيل كامل لسلاسل الإمداد والنقل البحري والبري والجوي..
النقل البحري: اختناق الشرايين العالمية
• تعطيل الموانئ الكبرى: أُغلقت موانئ رئيسة مثل ميناء شنغهاي، ولوس أنجلوس، وسنغافورة لفترات متكررة بسبب تفشي الفيروس بين العمال، مما أدى إلى تراكم السفن وتأخر الحاويات، ثم تعطل ما يزيد عن 48 في المئة من حركة التجارة البحرية.
• تضاعف أسعار الشحن: ارتفع سعر شحن الحاوية من الصين إلى أوروبا من حوالي 1,500 دولار إلى أكثر من 12,000 دولار في ذروة الأزمة (زيادة تفوق 700 في المئة).
• نقص الحاويات: اختلت التوازنات بين الصادرات والواردات، مما أدى إلى نقص حاد في الحاويات الفارغة في آسيا، وركودها في أوروبا وأمريكا.
• زمن التسليم: تضاعف وقت الوصول إلى بعض الموانئ من 30 إلى 60 يوما في المتوسط.
النتيجة: تحوّل النقل البحري من شبكة فعالة منخفضة التكلفة إلى عنق زجاجة يكبّل الاقتصاد العالمي.
النقل البري: تجزئة سلاسل الإمداد وخنق الحدود
• إغلاق المعابر والحدود البرية بين الدول، خاصة في أوروبا وآسيا، أدى إلى تكدّس آلاف الشاحنات عند نقاط التفتيش.
• نقص في السائقين: بسبب الإصابات والإجراءات الصحية الصارمة، انخفض عدد سائقي الشاحنات بنسبة تقارب 30 في المئة في بعض الدول.
• ارتفاع التكاليف اللوجستية: نتيجة طول أوقات الرحلة، وزيادة الإنفاق على الوقود والتأمين، وأسعار تأجير الشاحنات.
• تباطؤ الإمدادات الداخلية: أُغلقت بعض المناطق داخل الدول، مما أعاق نقل السلع من وإلى المصانع والمزارع.
النتيجة: تفككت سلاسل الإمداد الداخلية، وتراجعت كفاءة النقل البري، خاصة في الدول النامية.
النقل الجوي: توقف مفاجئ ثم اضطراب لاحقة
• توقف شبه كلي للرحلات: أكثر من 90 في المئة من الرحلات الجوية التجارية أُلغيت خلال الربع الثاني من 2020.
• نقص طاقة الشحن الجوي: أكثر من 50 في المئة من الشحن الجوي يعتمد على الطائرات التجارية، ومع توقفها اختفى جزء كبير من طاقة الشحن.
• ارتفاع أسعار الشحن الجوي: تضاعفت الأسعار 3 إلى 5 مرات لنقل نفس الكمية بسبب ندرة الرحلات.
• أزمة في نقل المستلزمات الطبية واللقاحات: تأثرت بشدة عمليات نقل اللقاحات والأدوية التي تحتاج إلى ظروف تبريد دقيقة وسرعة في التوصيل.
النتيجة: تعطّل النقل الجوي عرقل استيراد التكنولوجيا الفائقة والسلع الحساسة، وعمّق أزمة سلاسل الإمداد الدقيقة.
استراتيجيا: كانت لحظات انكشاف عالمي.. فكورونا لم تكن مجرد جائحة صحية، بل اختبارا لمرونة الاقتصاد العالمي وانطلاقة حرب دون إعلان أو بيان عسكري: في لحظة واحدة، تعطّلت أكثر من 65 في المئة من سلاسل الإمداد الدولية، وفُقدت القدرة على التنبؤ بالأسواق، وتحوّلت "العولمة السلسة" إلى "اختناق استراتيجي".
ومن هنا، بدأ التحول نحو إعادة توطين الإنتاج، وتقريب سلاسل الإمداد، وظهور مفهوم سيادة النقل والتوريد كعنصر أمن قومي، حيث انهارت المنظومات الصحية والاقتصادية، في أقل من 90 يوما (ولا علاقة بين هذه المدة والمهلة التي منحتها الولايات المتحدة للعالم بتأجيل تطبيق الزيادة في التعرفة الجمركية 90 يوما)، ثم تجاوزت خسائر الناتج العالمي 12 تريليون دولار، وظهرت أسئلة لم تكن مطروحة سابقا: هل نملك غذاءنا؟ هل نملك دواءنا؟ هل نملك قرارنا النقدي؟ وهل يمكن لرقم على شاشة أن يُسقط اقتصادا؟ أو يسقط دولة، كما أسقط حكومة؟.. لقد كان ذلك استطلاع وانطلاق حرب تكنوبيولوجية صامتة.. بلا إعلان رسمي، ودون زحف أو إنزال أو احتلال ميداني عسكري.
استدلال.. مخاطر الحرب الاقتصادية العالمية الثالثة..
تمثل هذه الحرب انفجارا في طبيعة المخاطر وامتدادها، ويمكن تصنيفها إلى خمسة مستويات مركبة:
1- مخاطر الغذاء والسيادة الزراعية
• أكثر من 70 دولة تعتمد على واردات القمح لتأمين غذاءها اليومي.
• تكلفة استيراد الغذاء عالميا ارتفعت بنسبة 41 في المئة خلال 24 شهرا فقط.
• الدول غير المنتجة للأغذية تواجه اليوم خطر نفاد المخزون الاستراتيجي خلال أقل من 90 يوما في المتوسط.
2- المخاطر النقدية وأسواق العملات
• فقدت عشرات العملات المحلية أكثر من 60 في المئة من قيمتها خلال ثلاث سنوات، أبرزها في الاقتصادات الهشة.
• بلغت نسب الفائدة العالمية ذروتها منذ 22 عاما، مما أدّى إلى خروج جماعي لرؤوس الأموال من الأسواق الناشئة.
• الديون السيادية تجاوزت 100 في المئة من الناتج المحلي في أكثر من 45 دولة، ما يهدد بانفجار أزمات إفلاس متسلسلة.
3- مخاطر سلاسل الإمداد والنقل الدولي
• 12 في المئة من التجارة البحرية تمر عبر قناة السويس، ومع ذلك تعطّلت في حادث واحد لمدة 6 أيام، فخسرت السوق 10 مليارات دولار يوميا.
• تكلفة شحن الحاوية الواحدة من آسيا إلى أوروبا تضاعفت أربع مرات خلال عامين، وتستمر في التصاعد.
• 37 في المئة من الشركات الصناعية الكبرى أعلنت عن تعطّل جزئي أو كلي في خطوط إنتاجها بسبب نقص المكونات.
4- المخاطر الرقمية والسيبرانية
• سجلت شبكات البنوك والبنية التحتية أكثر من 1.5 مليون محاولة اختراق خلال 2023 وحدها.
• ارتفعت تكلفة تأمين البيانات بنسبة 220 في المئة خلال ثلاث سنوات فقط، مع ازدياد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في عمليات التشغيل.
• 68 في المئة من الاقتصادات لا تملك بنية رقمية وطنية مستقلة لإدارة بياناتها الحيوية.
5- مخاطر العقار والموارد الاستراتيجية
• ارتفعت أسعار الأراضي الزراعية عالميا بنسبة 35 في المئة خلال سنتين، كمؤشر على سباق الدول نحو سيادة الغذاء.
• أكثر من 22 دولة غيّرت قوانين تملك الأجانب للأراضي خلال العامين الماضيين.
• أصبحت المياه، والقمح، والليثيوم، والمعادن النادرة، أدوات تفاوض سياسي لا تقل عن النفط والغاز.
الحالة المصرية: نموذج حي في مرمى الحرب دون غطاء اقتصادي
في قلب هذه الحرب الاقتصادية تظهر مصر كواحدة من الدول الأكثر عرضة لانعكاسات الخلل البنيوي في النظام العالمي الاقتصادي المرتقب، وإن ظهرت في عضوية البريكس إلا أنها:
• الغذاء: أكثر من 62 في المئة من احتياجات المصريين من الغذاء يتم استيرادها من الخارج.
• الدواء: تعتمد مصر على استيراد ما يزيد عن 80 في المئة من المواد الخام الدوائية.
• النقد: الجنيه المصري فقد أكثر من 70 في المئة من قيمته خلال ثلاث سنوات فقط.
• الديون: تجاوز الدين الخارجي 165 مليار دولار، بما يفوق 95 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
• التضخم: بلغ ذروته في بعض الأشهر بنسبة قاربت 40 في المئة، ما أنهك القوة الشرائية للمواطن.
• العجز التجاري: يتجاوز 45 مليار دولار سنويا، ما يضع الدولة تحت ضغط استيرادي مزمن.
بدأ نموذج الانهيار المصري مع السقوط في الانقلاب العسكري، وما صاحبه من تحويل الدولة من منتجة إلى مستهلكة، ومن قرارات وطنية إلى إملاءات خارجية، ومن سيادة القرار إلى التبعية الاقتصادية، تارة بالاقتراض وأخرى بالودائع والاستثمارات دون دراسات، وأخرى ببيع الأرض وتبديد الثروات، وما سبق كل ذلك من اعتقال رجال أعمال واقتصاد، وخبراء وعلماء ومفكرين، واقتصاديين محترفين ومحللين، ورجال دولة من اختيار شعب وثورة.
استشراف المستقبل الاقتصادي للحرب.. من القرار في الـ90 يوما القادمة، إلى تصاعد حرب في الـ900 يوما المقبلة، والتي ستُعيد صياغة العالم اقتصاديا وسياسيا.. ستكون الأكثر حسما في التاريخ الاقتصادي الحديث، وأراها ضمن منظور استراتيجي تحمل سيناريوهين رئيسيين:
السيناريو الأول: بناء دولة منتجة ومكتفية ذاتيا
• تنويع مصادر الغذاء المحلي.
• توطين الصناعات الحيوية.
• إعادة هيكلة القرار النقدي تحت سيادة البنك المركزي.
• تحرير الإرادة السياسية والاقتصادية من التبعية.
السيناريو الثاني: الغرق في الانكشاف والتبعية
• اضطراب الاستيراد والغذاء.
• فقدان السيطرة على التضخم والدين.
• انهيار الثقة في العملة المحلية.
• تحوّل الدولة إلى ساحة لتجارب الخارج وقراراته.
الختام: من لا يُدير مخاطره.. تديره مخاطره ويُعاد تشكيله من الخارج
إنها معركة ساسة على سيادة، تشتعل بسلاسل الإمداد، ومخازن الغذاء، وشبكات البيانات، ومراكز القرار، وتستعر في أسواق الطاقة والنفط والغاز، وتزود بالتكنولوجيا، وتمول بأسواق المال والعملات، وفيها من لا يملك غذاءه ودواءه وسلاحه وقراره، لن يكون طرفا فاعلا، بل هدفا خاضعا.
في كلمات.. ومن لا يُخطط للـ900 يوم القادمة، سيتحول إلى ضحية في معركة لا ترحم، يرسم فيها خرائط العالم من يصنع التاريخ الاقتصادي الحديث، ويقاوم التبعية والتقييد، كونها لحظات فاصلة بين دول تقود ودول تُقاد، لا بجيش مدجج بأسلحة لدولة المنشأ القدرة على توجيهها وصيانتها وتقادمها وتجديدها، بل باستراتيجيات وسيناريوهات تكتواقتصادية، تصنع الفارق بين أمم تُخطط.. وأخرى تُستنزف، ومن لا يبدأ الآن.. لن يكون حاضرا حين يُكتب التاريخ.. فالأيام دول!