المفاوضات والوسطاء.. حصان طروادة الإمبريالية
تاريخ النشر: 19th, April 2025 GMT
يمانيون/ كتابات/ إبراهيم محمد الهمداني
جرت العادة أن القوى الاستعمارية، حين تُهزم في ميدان المواجهة العسكرية، أو في ميدان فرض مشاريع الهيمنة الاستعمارية، فإنها كانت تلجأ دائماً، إلى الخطة البديلة، المتمثلة في تفعيل استراتيجية المفاوضات حيناً، وتحريك مبادرات الوسطاء حيناً آخر، لتبقى الشعوب في حالة انتصار مع وقف التنفيذ، حيث كان المهزوم “المستعمِر” يحجر على المنتصر فرحته، ويمارس عليه وصاية إلزامية، بتأجيل فرحته بالنصر، حتى تحدد المفاوضات والوسطاء، طبيعة وكيفية وحدود الفرحة، بعد موافقة الطرف الآخر “المهزوم الإمبريالي”، الذي يعمد إلى تفكيك معادلة الصراع، حين يقدم اعتراضه على صورة الفرحة ذاتها، بمعزل عن النصر الذي أنتجها، متجاهلاً ما يقابل شرف انتصار الآخر، من عار الهزيمة عليه، فيأتي بمنطق الخبير في صناعة وتنسيق الأفراح، ليقترح على المنتصر، الجلوس إلى طاولة المفاوضات، والاستفادة من نصائحه المجانية، في صياغة طقوس فرائحية، أكثر حداثية وتطوراً، لتحظى بمباركته واعترافه، وقبوله انضمامها إلى سجل التحولات الكبرى، في مشروعه الحضاري الإمبريالي، وهنا يأتي دور الوسطاء، الذين يزينون للمستضعفين المنتصرين، ذلك العرض الإمبريالي، ويشيدون بعدالته وإنسانيته، ويقسمون على مصداقيته، ويشهدون على أخلاقه ونبله، وحرصه على عدم إراقة المزيد من الدماء، ويضمنون الوفاء بالتزاماته، مؤكدين أفضلية الفرحة المعترف بها دولياً، على تلك المصنفة في قائمة الإرهاب، وهو ما يقتضي بالضرورة، نبذ مشروع الجهاد والمقاومة وإلقاء السلاح، للخروج من حالة العنف، والتهيئة للدخول في الحوار والمفاوضات، وما إن يجلس قادة الجهاد والمقاومة (المنتصرون)، إلى تلك الطاولة، حتى يكون الفرح بالنصر، أول جرم يوقعون على عقوبته مرغمين، ليتم تنفيذ العقوبة مباشرة، في صورة مجازر جماعية، تحصد أرواح المئات والآلاف، من المدنيين الأبرياء، الذين فرحوا (بالنصر)، حسب طبيعتهم العفوية وأسلوبهم الفطري، وهو ما رآه القاتل الإمبريالي، مظهرا من مظاهر التطرف والعنصرية، والعداء للسامية والحضارة؛ حينها تتجاوز الشعوب سؤال:- كيف تفرح؟ إلى سؤال:- بماذا تفرح؟، خاصة وأن الحرية، قد أصبحت حلماً بعيد المنال، والانتصار وهماً مسكراً باهظ الثمن، في ظل قيادة وطنية عاجزة، سلمت قوتها لعدوها المتوحش، أملاً في إنسانيته المزعومة، وثقة في وعود وضمانات الوسطاء، الذين حقق بهم المستعمر الإمبريالي المحتل الغاصب، ما عجز عن تحقيقه هو، بقوة السلاح ومجازر الموت، وهو ما يؤكد أنهم ليسوا فقط جزءاً من المشروع الاستعماري، وإنما هم رافعته الأساس، ومركز الثقل الأكبر فيه.
ولولاهم لما سلّم مجاهدو المقاومة أسلحتهم – كما حدث في فلسطين عام 1948م – ولما فقدوا حاضنتهم الشعبية، ولما تنازلت الشعوب عن حقها في الحرية، ونزعتها الفطرية للفرح بالنصر، ولما سقط جسر الثقة، الذي كان يربطها بقادتها، في مستنقع التخوين المتبادل، وهكذا نجح الوسطاء، في إرغام أو إقناع عامة الشعب، بالتعايش مع المحتل المجرم، والاكتفاء بالمطالب الناقصة، والحريات الجزئية (حرية التعبير، حرية المعتقد، حرية التنقل، …..إلخ)، بدلاً من انتزاع الحرية الكاملة، واستجداء فتات الحقوق (حق العودة، حق الأسرى، حق المعتقلين حق الـ …..)، من لصٍ جلادٍ غاصب، لا يملك أدنى ذرةٍ من حق، أو مشروعية وجود على هذه الأرض، كما نجح الوسطاء، في تدجين المقاومة بالمفاوضات، ورغم وصولهم إلى طريق مسدود، إلا أنهم لم يجرؤا على إعلان ذلك، بل استمروا في تسويق أوهام اقتراب الحلول، والتعويل على دور بعض الوسطاء، أو المنظمات والمؤسسات الدولية، وبهذا أصبح الموت بالخروج من المفاوضات ورفضها، لا يختلف عن الانتحار بالاستمرار فيها.
منذ بواكيره الأولى في التاريخ، اعتمد العقل الاستعماري، على توظيف الوسطاء والمفاوضات، لاستعادة ممكنات قوته وسيطرته، ولم يبتكر جديداً سواهما، وربما كان ذلك شاهداً على عجزه وجموده، أو دليلاً على كفايتهما أكثر من غيرها، وفاعليتهما في جميع الأزمنة والأمكنة، وليس هنالك ما هو أكثر خطراً على النصر الوليد، من خدعة المفاوضات، التي تعيده إلى درجة الصفر، وتسلب صانعيه مقومات قوتهم الميدانية والشعبية، وتلك هي خلاصة دروس التاريخ عبر العصور، وصولاً إلى مفاعيل النشاط الاستعماري في العصر الحديث، وسياسته التسلطية الإجرامية، من أمريكا الشمالية إلى أستراليا، إلى جنوب أفريقيا، وصولا إلى الاستعمار الغربي في الوطن العربي، والالتفاف على الثورات التحررية، من خلال استراتيجية المفاوضات مع المستعمر، وعودته بعد ثورات الربيع العربي، من خلال الوساطات ومبادرات الوسطاء، وعندما وُجِدَ مشروعٌ تحرري حقيقي في اليمن، استعصى على خداع الوسطاء وأوهام المفاوضات، تكالبت عليه كل قوى الشر والإجرام والعمالة والارتزاق.
ربما كانت فلسطين هي الشاهد التاريخي الأبرز، الذي جسد دور الضحية، في تلك الحالة الاستعمارية، بتكرارها المستمر، ورغم أن قادة الجهاد والمقاومة الفلسطينية حاليا، قد استوعبوا الدرس جيداً، فلم يذهبوا للمفاوضات – بعد 15 شهراً من طوفان الأقصى – إلا وسلاحهم في أيديهم، بالإضافة إلى أوراق ضغط كبيرة وقوية، داخلية وخارجية، إلا أن الوسطاء، مازالوا يمارسون دورهم الخياني القذر، ويسعون للضغط على فصائل الجهاد والمقاومة، بمختلف السبل والوسائل، طمعاً في تحقيق أهداف الكيان الغاصب، في سلب حماس قوتها، وإخراجها من غزة، وهو ما عجزت عنه ترسانة الغرب الإمبريالي مجتمعة، على مدى 15 شهراً.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الجهاد والمقاومة وهو ما
إقرأ أيضاً:
في زمن التيه.. الرجولة أن تكون من أنصار الله
الرجولة ليست مجرد صفة بيولوجية، ولا تُقاس بالقوة الجسدية أو الانتماء القبلي أو المناطقي، بل هي موقف ووعي وانحياز دائم للحق. ومن تمام الرجولة، أن تكون من أنصار الله، لأنك بذلك تقف في صف المظلوم، وتكون من رجال الرجال في زمن قلّ فيه الرجال، وانحسرت فيه معاني الرجولة، خاصة بعدما انكشفت معالم المعركة بين حقٍ جلي عنوانه القرآن الكريم وآل بيت النبوة، وباطلٍ فاضح عنوانه التحالف بين الصهيونية العالمية وبعض الأنظمة العربية المتصهينة.
وفي اليمن، حين تبحث عن بديل لأنصار الله، فلن تجد إلا خيبات الماضي أو مشاريع الارتهان. فهل يكون البديل هو نظام عفاش؟ ذلك النظام الذي أسّس لحكم الفرد، وروّج للرذيلة والإفساد الأخلاقي، وفتح الباب أمام مشاريع التغريب والانحلال في وسائل الإعلام والمناهج التربوية، وهو الذي مكّن السفارات الأجنبية من التدخل السافر في الشأن اليمني. إن بقايا ذلك النظام لا تزال اليوم تقف في خندق الأعداء، تحت يافطات شتى، في الساحل الغربي وغيره، وجمعت حولها كل دعاة الرذيلة والفساد الأخلاقي، ممن يأنف الحر الشريف أن يسير في ركابهم.
أما إن كان البديل هو حزب “الإصلاح”، ذلك الذي طالما تغنّى بالدين ظاهراً، بينما أفرغ معانيه من الداخل، وخرّج من معاهده نماذج ممسوخة لا تعرف من الرجولة إلا قشورها، فإنك حينها تكون قد تنازلت عن رجولتك مبكرًا. فماذا يمكن أن يُنتظر ممن يرون في المهرج “محمد الربع” – وهو رمز السخرية من القيم والمعارك المصيرية – نموذجاً للرجولة والفكر؟ هذا هو نتاج ثقافة حزبية لم تجعل من فلسطين قضية، ولا من الجهاد شرفاً، بل سخّرت منابرها للطعن في المجاهدين.
وينطبق هذا أيضًا على أولئك الدعاة المدجَّنين بالمال الإماراتي، ممن ارتضوا القعود عن نصرة قضايا الأمة، وتفرغوا لتثبيط الناس عن الجهاد والمقاومة، أمثال بعض من ينتسبون إلى الطرق الصوفية الجديدة التي اتخذت الدين طقوسًا لا تتصل بواقع الأمة. تراهم لا ينطقون بكلمة حق تجاه العدوان على غزة، بينما يسارعون لإدانة أي تحرك مقاوم أو موقف شجاع في اليمن أو فلسطين.
إنهم اختاروا أن يكونوا شهود زور، يغطّون الجرائم الصهيونية بصمتهم المطبق، ويهاجمون من يرفع سلاحه في وجه المحتل. يكفيك أن تقارن بين بياناتهم الغائبة عن مجازر الاحتلال في رفح وغزة، وبين تصريحاتهم السريعة في مهاجمة المقاومة اليمنية حين تضرب أهدافًا صهيونية.
أما إذا كنت صاحب فطرة سليمة، وقلبٍ حيٍّ لم تُطفئه أضواء الزيف الإعلامي، ولم تُمِتْهُ أبواقُ التطبيع، فإنك ستجد نفسك، دون كثير عناء أو تنظير، تقف إلى جانب أنصار الله، لا لأنهم فوق النقد أو أنهم بلا أخطاء، ولكن لأنهم – في واقع اليوم – يُمثّلون الخندق الأقرب إلى الموقف الحق، حيث المعركة واضحة، والعدو مُسمّى باسمه، لا يُدارى ولا يُجَمَّل.
هم الذين رفعوا شعار العداء للصهاينة في زمن أصبح فيه التطبيع بطولة، واعتراف المحتل واقعًا مفروضًا، والمقاومة تهمة تُلاحق بها الأحرار. هم الذين اختاروا الوقوف في صف القرآن الكريم، حين تفرّق الناس بين ولاء لواشنطن وتبعية لأبو ظبي والرياض، وبين من لا يزال يفتش عن “حل سياسي” في زمن لا يعترف إلا بمنطق السلاح والميدان.
لقد رسم القرآن الكريم معالم العداوة بوضوح، حين قال: ﴿لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا﴾ [المائدة: 82] فلا غرابة أن يكون أنصار الله في مقدمة من يحملون راية هذه العداوة، ويجعلون منها عقيدة وموقفًا، لا مجرد شعار سياسي موسمي.
وحين نقرأ: ﴿وقاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾ [البقرة: 190] نفهم أن القتال المشروع هو في وجه المحتل، المغتصب، الذي يقتل الأطفال في غزة، ويهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها في رفح وجنين، لا في وجه المجاهدين الذين يسعون لرد هذا العدوان، مهما كانت ملامحهم أو لهجاتهم.
وفي هذا الزمن الذي تهاوت فيه كثير من الأصوات، وسقطت فيه الأقنعة، ولم نعد نُفرّق في الإعلام الممول بين الضحية والجلاد، تظل الرجولة الحقّة أن تنحاز لخيار الجهاد، لا على أساس حزبي أو مناطقي، بل انطلاقًا من إيمانك العميق بأن الباطل لا يُجابه إلا بالقوة، وأن من يرفع راية الجهاد في زمن الضعف هو أحق الناس بالسمع والطاعة والنصرة.
لقد أصبح الوقوف في صف أنصار الله اليوم، موقفًا يتطلب شجاعة لا تقل عن شجاعة المقاتلين في الجبهات، لأنه تحدٍّ لموجة التضليل العالمية، ورفضٌ للانضمام إلى طوابير المنتفعين بالصمت. نعم، قد تُكلّفك الكلمة موقفًا، ويُكلّفك الموقف ثمنًا، لكن الرجولة الحقة، لا تُقاس بما تكسبه، بل بما تصمد فيه، وما تدفعه في سبيل الله، والحق، والمظلومين في كل مكان.