سورية التسعينيات .. الفن والتنفيس
تاريخ النشر: 19th, April 2025 GMT
ربما تكون تسعينيات القرن الماضي هي الحقبة الأبرز من عمر الدولة المركزية وهيمنتها على الفضاء العام في بلدان العالم العربي. قد تتفاوت دقة هذا الاستنتاج من بلد عربي إلى آخر، لكن سطوة الدولة على منابر الإعلام، بشكله التقليدي، كانت قد بلغت أوجها خلال عقد التسعينيات، مع تراجع بدا ملحوظًا في نشاط الصحافة المستقلة، حتى في أهم العواصم العربية التي كانت يومًا ما تمثل مركز صناعة الرأي العام العربي.
لا يغيب عن البال تزامن تلك المرحلة مع التحول الكبير الذي طرأ على النظام العالمي بعد هزيمة المعسكر الاشتراكي بسقوط الاتحاد السوفييتي وتسيُّد الخطاب الأمريكي على السياسة الدولية. بالنسبة لدولة عربية مثل «سورية»، فقد ترك هذا الحدث أثره العميق على بنية نظام البعث الذي لطالما اعتمد خطابه على الشعارات الاشتراكية، قبل أن يجد نفسه في مواجهة واقع جديد لا يشبه أدبياته. ففي وقت بدأت فيه عواصم أوروبا الشرقية تعلن استقلالها واحدةً تلو الأخرى، أدرك الرئيس حافظ الأسد بأن زمن الأيديولوجيا الاشتراكية قد تغير إلى غير رجعة، وأن سقوط جدار برلين قد فتح على بلاده رياح الديمقراطيات الغربية القادمة إلى المنطقة بشروطها الجديدة. فكان لا بدَّ لنظامه أن يواكب الزمن الجديد بالتخفيف من نبرة خطابه القديم والتوجه نحو سياسيات مخاتلة، مزدوجة، توحي للعالم الخارجي - على الأقل- بأن «سورية» ليست ذلك البلد القمعي المُتَخيَّل.
ميريام كوك، وهي مستشرقة أمريكية متخصصة بدراسة أدب المرأة العربية، قررت مغادرة جامعتها لزيارة دمشق للتعرف عن قرب على أدب الأديبات السوريات، بغيةَ فهم هموم المرأة الكاتبة وأجواء عالمها خلال تلك السنوات الغامضة من عمر البلاد. وكان شغف كوك بالتعرف على أدب المرأة السورية قد بدأ من بيروت، في صيف 1980، حيث كانت تعكف بُعيد تخرجها على مشروع كتاب عن الأدب في الحرب الأهلية اللبنانية، فساقتها المغامرة في عز الحرب للقاء بالروائية غادة السمان والشاعرة الصوفية هدى نعماني.
أقامت كوك في «سورية» فترةً بين خريف عام 1995 وربيع 1996، تعرفت خلالها على كوليت خوري، وإلفة الإدلبي، ونادية خوست، ونادية الغزي، وملاحة الخاني. لكن لقاءها بالشاعر والمسرحي ممدوح عدوان وبالمخرج السينمائي محمد ملص، قادها لتوسيع أفق الدراسة وتوجيهها لتكون عن الأدب المعارض في ما أسمتها بـ«سورية الأخرى»، تلك التي لا يعرفها الدارسون الأجانب، الذين ساد لدى قسم كبير منهم الاعتقاد بأن ما يُكتب في سوريا من أدب يبدو راضخًا عن قناعة وتواضع لإملاءات السلطة وشعاراتها القومية الجوفاء، دون اعتراض أو تحدٍ نقدي يُذكر: «الأدب السوري ما هو إلا استجابة سيئة للقمع... أدب غاية في البساطة لا يستحق الدراسة»!
الاهتمام بموضع المرأة تحديدًا، من قبل باحثة أمريكية قادمة إلى «سورية»، وفي ذلك الجو الحذِر خلال فترة التسعينيات، كان لا بدَّ أن يُقابل بدايةً بشيء من الارتياب بين أوساط المثقفين والمثقفات في «سورية»، خاصةً أن السؤال الغربي عن أحوال المرأة في هذا الجزء من عالم لطالما كان مدخلًا استشراقيًا غير بريء بالمرة. ألهذا السبب ظلت كوك تتهيب من وصفها بـالمستشرقة؟ فعلى الرغم من إجادتها اللغة العربية (كيف لا وهي التي درست أشعار الخنساء) وانجذابها الشديد للأدب العربي الذي مثَّل مدخلها الأساس للبحث والكتابة عن قضايا العالم العربي، أشارت في حوارها التلفزيوني المهم مع الصحفي السعودي محمد رضا نصرالله في برنامجه «هذا هو»، عام 1996، إلى أنها كغيرها من المستشرقين المعاصرين تُفضل أن توصف «باحثةً متخصصة في دراسات الشرق الأوسط»، هذا طبعًا بعد أن أصبحت صفة «المستشرق» بالغة الخطورة والحساسية إثر الضجة الكبرى التي أثارها إدورد سعيد بعد صدور كتابه «الاستشراق» في سبعينيات القرن الماضي.
«سورية الأخرى... صناعة الفن المعارض» هو عنوان كتاب ميريام كوك الصادرة ترجمته إلى العربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، بعد أن كانت جامعة ديوك الأمريكية قد نشرته عام 2007 بعنوان «Dissident Syria» أي «سورية المنشقة». تسلط كوك في كتابها الضوء على العلاقة الجدلية والمعقدة بين الفن والسلطة في عهد الأسد الأب. تتحدث مثلا عن نوع خاص من النقد الذي يظهر فجأة على السطح في لحظات الاختناق السياسي، وتصفه بـ«النقد المُكلَّف»: ذلك النقد الموعز والموجه من قبل السلطة لتخفيف الاحتقان الشعبي. غير أن خطورة هذا «النقد المُشترى» لا تتوقف عند كونه صمام أمان بمواجهة السخط الشعبي المحتقن، بل تكمن خطورته في لعبة السلطة التي تسعى من خلاله لخلق معارضة بديلة مشتراة، مصممة وفق المعايير الرسمية والأمنية، تحظى بشرعية الجمهور لتسحب البساط والأضواء عن المعارضين الحقيقيين الذين سيعزلون مع الوقت عن الحاضنة الشعبية.
يصبُّ النقدُ المكلَّف في مصطلح بدا شائعًا حينها بين السوريين؛ وهو «التنفيس» الذي يستحوذ على تركيز المؤلفة في معظم فصول الكتاب كمدخلٍ رئيس لفهم العلاقة التبادلية والنفعية المزدوجة بين السلطة والفن المعارض. ولكن عندما يتبنى الفنانون، عن وعي أو لاوعي، سياسة التنفيس التي تتمثل حدودها القصوى في تفريج هموم المضطهدين في لحظة انتشاء عابرة، فسيكون الفن حينئذ قد خان جوهره، موظفًا موهبة الفنان، من غير أن يشعر، أداةً للتنفيس عن الجمهور في يد السلطة، فيما يظن الفنان أنه يحسن صنعًا ويلعب دوره المثالي كمعارض شجاع.
يدين سعدالله ونوس بقوة «مسرح التنفيس» الذي تحول منذ مطلع السبعينيات إلى حالة عربية قد تأتي في صدارتها مسرحيات الماغوط التي أشهرت بطولة دريد لحَّام في أعمال مثل «ضيعة تشرين» أو «كاسك يا وطن. إن مسؤولية المسرح وفقًا لفلسفة سعدالله ونوس هي أن يشحن لا أن يفرِّغ، كما عبر في «بيانات لمسرح عربي جديد» عام 1970: «المسرح الذي نريد لا يريح المتفرج أو يُنفس عن كربته... بل على العكس، هو المسرح الذي يُقلق، الذي يزيد المتفرج احتقانًا... لا أن يتحول إلى أداة تفريغ تطهر المتفرجين من عوامل النقمة والغضب، وتزيد من قوة احتمالهم لمأساتهم، وفي النهاية تخدر المتفرج وتزيد الوضع القائم رسوخًا ومتانة».
تتحدث كوك عن ضبابية الخط الأحمر الذي لا يعرف المثقفون السوريون أين ينتهي وأين يبدأ، فحدود التعبير المتحركة التي تضيق وتتسع، دون أن يمكن التنبؤ بها، تمثل في الواقع سياسة رقابية شديدة الذكاء، إذ تترك المثقف في حالة مستمرة من مراقبة الذات والتربص على تصرفاته وتصرفات الآخرين، فضلا عن دورها في تعزيز سلطة الرقيب الداخلي لدى كل أفراد المجتمع، بحيث يصبح المجتمع مجتمع رقابة متبادلة بامتياز.
اليوم، وبعد سقوط نظام البعث، سيكون كتاب مريام كوك دليلاً ضروريًا لإعادة قراءة نصف قرن من الأدب والفن في «سورية» بعيون جديدة.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذی ی
إقرأ أيضاً:
منتخب سورية للشباب والشابات لكرة الطاولة يشارك ببطولة غرب آسيا في السعودية
الرياض-سانا
يشارك منتخب سورية للشباب والشابات لكرة الطاولة ببطولة غرب آسيا المؤهلة لبطولة آسيا، والتي ستقام في مدينة الدمام بالمملكة العربية السعودية بالفترة الواقعة من الـ24 ولغاية الـ30 من الشهر الجاري.
وتتألف بعثة منتخبنا من محمد حزوري رئيساً، وحمزة موصلي مدرباً، ومن اللاعبين واللاعبات محمد سالم ظاظا وغيث غريب وعبد العزيز موصلي وآية علي وهند ظاظا وإباء حلاق وهلا حمامة.
تابعوا أخبار سانا على التلغرام والواتساب بطولة غرب آسيا 2025-04-22Hassan Nasrسابق بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا تتفقد واقع محطات مياه سيجر والعرشاني بريف إدلب انظر ايضاً منتخب سوريا للشابات بكرة القدم يلتقي نظيره الأردني غداً في بطولة غرب آسياعمان-سانا يلتقي منتخبنا الوطني للشابات بكرة القدم، مع نظيره الأردني، عند الساعة السابعة من مساء …
آخر الأخبار 2025-04-22منتخب سورية للشباب والشابات لكرة الطاولة يشارك ببطولة غرب آسيا في السعودية 2025-04-22مدير إدارة سجلات العاملين بوزارة التنمية الإدارية.. بناء القاعدة الوطنية الموحدة لسجلات العاملين بالدولة محطة رئيسية لتطوير الحوكمة الإدارية 2025-04-22وزير التربية والتعليم يبحث مع محافظ ريف دمشق سبل تعزيز التعاون المشترك للارتقاء بالعملية التربوية والتعليمية 2025-04-22انطلاق فحص البورد العربي في الهيئة السورية للاختصاصات الطبية بدمشق 2025-04-22هيئة الإشراف على التأمين: استئناف خدمات التأمين الصحي للقطاعين الاقتصادي والإداري 2025-04-22الاقتصاد والصناعة تجري مقابلات واختبارات لإعادة تقييم العاملين الحاصلين على إجازة بكامل الأجر 2025-04-22وزير النقل يستقبل وزير النقل والبنية التحتية التركي والوفد المرافق له 2025-04-22محافظ حلب يطلع على فعاليات المؤتمر العلمي الدولي العاشر لطب الأسنان، ويزور أجنحة معرض أدوات المعالجة السنية الذي أقيمت فعالياته على هامش المؤتمر 2025-04-22وزير الإدارة المحلية والبيئة يستقبل وفداً من منظمة الفاو لبحث سبل تعزيز الشراكة في القضايا البيئية 2025-04-22محافظ السويداء يبحث مع معاون وزير الإسكان والأشغال العامة وممثلين عن نقابتي المهندسين والمقاولين المركزيتين عدداً من القضايا التنموية
صور من سورية منوعات صفائح لعضلة القلب من الخلايا الجذعية… خطوة نحو العلاج الأول من نوعه في العالم 2025-04-17 أول سماعة طبية رقمية في اليابان تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل نبضات القلب 2025-04-10فرص عمل وزارة التجارة الداخلية تنظم مسابقة لاختيار مشرفي مخابز في اللاذقية 2025-02-12 جامعة حلب تعلن عن حاجتها لمحاضرين من حملة الإجازات الجامعية بأنواعها كافة 2025-01-23
مواقع صديقة | أسعار العملات | رسائل سانا | هيئة التحرير | اتصل بنا | للإعلان على موقعنا |