لجريدة عمان:
2025-04-24@23:25:52 GMT

موسكو.. بين صدى التاريخ ونبض الذاكرة

تاريخ النشر: 19th, April 2025 GMT

موسكو.. بين صدى التاريخ ونبض الذاكرة

لم يحتج الأمر إلى تخطيط طويل، كانت الفكرة فكانت موسكو هي الخيار الأول رغم الكثير من التحذيرات المرتبطة بتعقيدات الحرب وما يصاحبها من خوف بدا لاحقا أنه غير مبرر أبدا. لم تكن موسكو هدفا لإضافة مشهد جديد إلى ألبوم الصور العائلية المتخم بالأحلام التي لا تتحقق إلا نادرا، ولكن كان ثمة شيء داخلي يريد أن يختبر المسافة بين ذاكرة حُفِر عليها اسم موسكو منذ أن قرأت رواية الأم فـي مرحلة مبكرة من العمر وبين مدينة تكبر فـي الأخبار كل يوم ولا تكشف حقيقة وجهها بالكامل، وبين قراءات عن اليسار وعن أحلام الكثير من شعوب العالم الذين خُنقوا بالرأسمالية.

اخترت أن لا أحمل كاميرا فأنا مسافر مع أسرتي ومن أجلها هذه المرة، لكن لم تتركني كاميرا الهاتف أنسى أنني صحفـي، ولم يتركني الدفتر الصغير الذي كان يستحثني كثيرا من أجل أن أدوّن بعض الملاحظات والمشاهدات التي تكبر مع الوقت ومع المزيد من التأمل.

العتبة التي لا تفتح بسهولة

كادت العتبات الأولى من رحلة موسكو أن تعكر صفو الرحلة وتسمها بسمتها لولا أنني كنت أستحضر تاريخ المدينة المتخم بالشك والريبة وبالأسوار التي كانت تحيط بكل شيء. أول ما استوقفني فـي المطار ليس صفوف الجوازات الطويلة والوجوه الخليجية الأكثر حضورا، ولكن كان هناك شعور يحضر بقوة أن هذه المدينة لا تستطيع الخروج من ماضيها بسهولة. عبرتْ زوجتي وثلاث من بناتي صف الجوازات إلى الداخل بينما قرر موظف الجوازات أن يستبقيني أنا وابنتي الصغيرة سحر، واصطحبتنا موظفة بدت جميلة رغم كل شيء إلى غرفة تحقيق صغيرة. جلست على مقعد معدني بارد، يلمع تحت ضوء أبيض يصنع ظلالا زرقاء على البلاط المغسول بدقة. تمسّكت سحر بذراعي، وكنتُ أسمع خوفها كأنه يصعد من عمق أبعد من طفلة فـي التاسعة من العمر، كانت أكثرنا فرحة بأن حلم السفر تحقق أخيرا ولكن كانت أكثرنا دهشة ثم خوفا من المفاجأة الأولى. خطر لي، حينها، أن الحذر فـي هذه المدينة ليس إجراء احتياطيا بسبب الحرب والعقوبات والتهديدات النووية، بل عادة وطنية عمرها أكثر من قرن، ورثتها موسكو الروسية عن موسكو السوفـييتية. ذكرني ضابط الجوازات الذي بدا صارما رغم برود ملامحه بحرّاس قرأت عنهم فـي مذكرات المنشقين السوفـييت، الذين يقفون بين المواطن وحقه فـي المغادرة مثل جدار عظيم لا مثيل له إلا فـي دول محور وارسو عندما كان فـي العالم محاور وجدران عظيمة. حاولت فهم المشكلة دون أن أحصل على مجرد رد قبل أن أتذكر تأشيرتي الأمريكية غير المستعملة، وتساءلتُ وحيدا إن كانت تلك الصفحة فـي جواز سفري يمكن أن تستدعي كل هذا التاريخ من الشك والريبة. كانت موظفة الجوازات التي تدخل علينا من هذا الباب وتخرج من ذاك فـي ما يمكن أن يكون ضغطا نفسيا مبالغا فـيه تراقب دموع سحر وكأنها تختبر صدق خوفها أو ما يمكن أن يخفـيه والدها من حكاية سياسية يمكن أن تكشف عنها محاولات البحث والتحري.

حين سُمح لنا بالعبور بعد ساعتين من الانتظار والترقب خرجنا مثل ناجيَين من فصل محذوف فـي رواية دوستويفسكي، فصل يُختبر فـيه القلب قبل أن يبدأ السرد الحقيقي. كانت العتبة الأولى مخيفة، وخشينا أن ما يمكن أن يأتي بعدها هو امتداد لها؛ لكن ما حدث كان العكس تماما. فإذا أسقطنا هذه الحادثة من الخط الزمني للرحلة فإن كل شيء مر وكأنه الحلم.

وفـي الحقيقة لا بد من القول إن دهشة رافقتني فـي الرحلة وبشكل خاص فـي الأيام الأولى قبل أن تتحول إلى يقين أن هذه المدينة أكبر بكثير من الكلام. فلم نرَ علامة واحدة تشير إلى أن روسيا تخوض حربا، لا ملصقات تعبئة، ولا طوابير أمام محطات الوقود، ولا حواجز عسكرية فـي الطرق ولا ارتفاعا فـي أسعار المواد الغذائية! بدا لي بعد محاولة تفكير أن المدينة انتقلت إلى «اقتصاد شعوريّ» جديد حيث الحرب تتم فـي مكان آخر، وتُدار بآلات غير مرئية للناس هنا وهم يواصلون صنع الخبز، وجمع الكتب المستعملة، وتنظيف النصب التذكارية. فـي مقهى وسط مول «جوم» فـي الساحة الحمراء سألتُ نادلا شابا عن شعوره، هزّ كتفـيه وقال بالإنجليزية: «الحروب بعيدة، أمّا قهوتنا فحاضرة»، ضحك، ثم أضاف: «موسكو أكبر من أي كلام».

أربات.. الشارع الذي يكتبك

كان شارع أربات الذي سكنّا فـيه يشبه قصيدة تمشي على قدمين. لا أظنّ أن مدينة أخرى تسمح للحنين أن يتجول علنا مثل موسكو فـي أربات. واجهات خشبية تحمل ملامح القرن التاسع عشر، عازفُ أكورديون يجر أغنية قوقازية إلى الهواء، ولوحات زيتية ترسم كاتدرائية لا تبعد سوى مئات الأمتار لكنها تبدو من زمن آخر. توقفت أمام متجر يبيع تماثيل صغيرة للقديسين، ذات عيون زجاجية تلمع كأنها تتذكر. شعرت للحظة أن هذه العيون تراقبني لأنني لا أفهم قواعد اللعبة.. هنا لا تُشترى التذكارات للذكرى، بل تُشْتَرى لتشاركك مهمة أن تتذكّر.

لكن أربات لم يبق كما كان بروائح قرون مضت، استطاع أن يلد إلى جواره شارعا آخر «أربات الجديد» ويخرج من قيم المدينة القديمة إلى مدينة أخرى لا تشبهها أبدا، فتجد فـيه محلات الموضة وبذخ المدن الرأسمالية سواء فـي المطاعم أو فـي محلات الملابس والكماليات وفـي تنوع المولات.

مترو القصص السفلية

كان مترو موسكو أيقونة حداثة سوفـييتية وكتابا من الرخام والبرونز، نزلنا إليه وفـي الذهن صور تعود إلى عام 1935 يوم افتتح ستالين أول خط بأنشودة «نحن بنينا المترو من أجل المستقبل». لكنّ المستقبل فـي هذه الأنفاق أصبح ماضيا متجمدا بين قباب مرصعة بنجوم حمراء وتماثيل عمال يمسكون بمطارقهم إلى الأبد. كل محطة لوحة ذات إطار من ضجيج القطارات، تروي سيرة تلخص أحلام الحقبة السوفـييتية. فـي محطة «كومسومولسكايا» رفعنا أبصارنا إلى سقف ذهبي يتوهّج بموزاييك معارك 1812، بينما يمر الناس تحته بسرعة لا تسمح لهم برؤية النسر المرسوم وهو يسقط من جناحيه.

فـي عربة المترو جلسنا قبالة امرأة سبعينية تقرأ فـي كتاب قديم تخيلت لوهلة أنه رواية من روايات تولستوي، قلت لزوجتي إنني أشعر الآن وكأنني أعود إلى نهاية القرن التاسع عشر حيث كانت المدينة فـي أوج نهضتها الأدبية. كان تولستوي قد نشر رواية «الحرب والسلام» و«آنا كارينينا» وكانت أكشاك القطارات تبيع نسخا رخيصة منها ومن أعمال تشيخوف الواقعية وكانت أعمال بريوسوف الرمزية المتأثرة ببودلير ومالارميه تتسلل إلى أيدي العمال وهم يسافرون عبر هذه القطارات. يتجاوز المترو هنا كونه مجرد ممر بين محطة وأخرى، إنه أقرب إلى آلة تصوير تطبع وجوه التاريخ على قوالب متحركة ما يتيح لنا قراءة تاريخ المدينة فـي وجوههم.

الساحة الحمراء قلب يخفق خارج الجسد

لم تكن الساحة الحمراء منطقة تُزار مرة واحدة، إنها مركز الرحلة اليومي، فمنها بدأت الرحلة ومنها انتهت، وإليها كان الحلم وفـيها علقنا ونحن نحاول وداع المدينة. كنا نزورها يوميا طوال أسبوع كامل فـي محاولة يائسة لفهم كيف تتعايش سلطة الدين والدولة والفن فـي ساحة واحدة! أصوات خطوات الجنود قرب ضريح لينين، ورنين أجراس سانت باسيل بألوانها اللاهبة، وبزوغ أبراج الكرملين التي تبدو فـي الليل كأنها أقلام تكتب وثيقة سرية خوف أن تتسرب إلى دول المحور. لا يمكن أن تسير هنا دون أن تتذكر الحقبة السوفـييتية والحرب الباردة ودون أن تجيب مرارا على سؤال: «ما هي الشيوعية؟» و«من هذا لينين؟» و«إلى ماذا يرمز شعار المنجل؟». ليس ثمة إجابة يمكن أن تكون كاملة فلكل شيء ظلاله التاريخية وارتباطاته بمرحلته التي من الصعب أن يستطيع تصورها جيل ولد بعد سقوط جدار برلين بأكثر من عقدين من الزمن.

فـي زاوية من الساحة الحمراء جلست عجوز ثمانينية تحمل آلة تشبه العود، تعزف بتؤدة أغنية «كتيوشا» التي تعد الأغنية الأشهر فـي روسيا، كان لحنها يلامس ذاكرة الحرب العالمية الثانية عندما كانت موسكو تقصف ولكنها لا تتراجع، وعندما تداخلت الحرب بمصائر العشّاق الذين يذهبون للجبهة ولا يعودون.. كنا نستمع إلى الأغنية دون أن نفهم بدءا كلماتها ولكن اللحن الجميل كان يشعرك وكأنها تحكي قصة عظيمة. تجمعت فتيات حول العجوز وبدأن فـي ترديد الأغنية معها فـي وقت فهمت فـيه أن قصة الأغنية تعيد نفسها فـي هذه اللحظة التي تخوض فـيها روسيا حربا جديدة تتداخل فـيها، أيضا، مصائر العشاق الذين يذهبون للجبهة ولا يعودون.. فـيما «كتيوشا» القديمة تشبه عشرات «الكتيوشات» اللاتي تتعلق قلوبهن مع أحبتهن على الجبهة الأوكرانية.

الغيوم تحرس جامعة موسكو

فـي اليوم الرابع من الرحلة صعدنا إلى مرتفعات لينين، كانت المدينة تمتد تحت قوس السماء كلوحة بانورامية، تبدو جامعة موسكو فـي أقصى اللوحة بقبتها الشهيرة وكأنها معبد للعقل أُقيم فوق رابية من الثلج. تخرجت من هنا الكثير من الشخصيات العربية خاصة خلال الحقبة السوفـييتية، ورغم ما شهدته روسيا من تحولات كبرى بقيت هذه الجامعة الشامخة وكأنها سلّم للعلم يصعد نحو السماء. يعرف السياح جيدا سفح مرتفعات لينين، ينظرون من فوقها إلى مدينة لا تكاد تنام. ولكن سكان موسكو نظروا من فوق هذه التلال نحو المستقبل حينما احتشدوا هنا لمشاهدة أول رحلة نحو الفضاء، وكأنها رحلة سوفـييتية نحو المستقبل المجهول. وهنا يحضر العشاق والأزواج لتخليد عشقهم بصورة تمنحهم شرعية المرور نحو المدينة أو ربما نحو السماء على اعتبار أن المكان هو الأقرب من حيث الارتفاع إلى السماء.

نهر للذكريات وحديقة للصدمة

لا يمكن أن تترك هذه المدينة دون أن تشاهد لحظات الغروب فـيها، كان الخيار الأمثل أن نستقل سفـينة سياحية تعبر بنا نهر موسكفا. بدا ماء النهر وكأنه صفحة رمادية تكتب عليها الشمس آخر توقيعات اليوم. انعكست قباب كنيسة القديس باسيل والكرملين فبدت وكأنها مقلوبة فـي النهر، وكأن التاريخ يسقط نحو الأسفل ليُعيد قراءة ذاته، شعرت للحظة وكأن الزمن مثل الجسر الحجري الذي مررنا تحته، يتحوّل من معمار إلى صدى، ومن صدى إلى سؤال. تبدو موسكو فـي الماء مرآة نفسها لا تشبه أحدا ولا أحد يشبهها. لكن الأسئلة تكثر أمام هذه الصور المنعكسة وتتداخل عميقا كلما بدا أن النهر يلتوي على المدينة ويحيط بها بإحكام كما يحيط بها التاريخ. على أن الأسئلة مهما كثرت لا تفضي بالضرورة إلى إجابات واضحة أو يقينية. فهذا يحتاج إلى فهم عميق لها لا نملكه وليس من اليسير البحث عنه فـي الكتابات التي لا وقت لها الآن.

أشباح الأدب، وضحكة السيرك

من الصعب أن تسير فـي موسكو دون أن يصافحك ظلُّ تشيخوف فـي منعطف، أو يلمحك دوستويفسكي من نافذة معتمة. فـي صالة سيرك موسكو العريق، حين ارتفع المهرّج على الحبل وراح يتدلى يمينا ويسارا رأيت فـي عينيه مسحة من كآبة تليق بروايات روسية عن الألم المغلّف بالبهجة. لا يمكن أن يكون سيرك موسكو مجرد تسلية أبدا رغم أن أغلب الناس هنا جاؤوا من أجل لحظة ترفـيه لأطفالهم، لكنه بكثير من المعاني هو استعارة لمسرح يعلم جمهوره كيف يزغردون حين يتعثّر البطل، وكيف يصفقون عندما يفلت من السقوط! كما أن فـيه استعارة كبرى يمكن أن نقرأها فـي قدرة مروض الأسود على جعلها تستجيب دون أدنى مقاومة. لا أستطيع أن أقول الآن إنني أُسقِط دور هذا المروض على أي من الشخصيات الروسية لكن حتما فإن هذا المشهد يشبه روسيا فـي أشياء كثيرة.

وداعٌ لا يكتمل

حين أقلعت الطائرة بعد أيام جميلة فـي موسكو، حملتُ معي روائح شارع أربات وألحان عصور كثيرة سمعتها فـي الساحة الحمراء إلى جوار لحن «كتيوشا» وصرّة برد من ذلك الذي شعرت به فـي غرفة تحقيق المطار. وخرجت بيقين أن المدن التي تجرؤ على لمس ذاكرتنا هي تلك التي تتخفّى خلف أقنعة كثيفة، فلا تكشف سرّها إلا إذا استسلمتَ تماما لكونك غريبا.

ها أنا أكتب من مسقط بعد مرور عدة شهور محاولا استعادة المدينة فـي عبارات مختزلة.. لكن موسكو لا يسعها سطر ولا تختزل فـي يوميات صحفـي، إنها مدينة تُكتب على حواف الكلمات، فـي المسافة بين خوف سحر فـي المطار، ودهشتها فـي السيرك؛ بين رخام المترو وقشعريرة البرد الخفـيف فـي ليلة من ليالي أغسطس. كلُّ تفصيل فـيها يُطل على هاوية من القصص، وكلُّ صمت هو تذكير بأنّ التاريخ لا يغادر، بل يطلب مقعدا إلى جوارك فـي العربة.

أترك هذا النص مفتوحا، تماما كما تركت موسكو أبوابها مواربة. لعلي أعود لأجدَ أنّ المدينة استعادت ألوانها أو غيّرتها، ولعلّ الدفتر الذي أحمله يتهيّأ لفصل جديد، عنوانه: «كيف يتّسع قلب واحد لمدينة بحجم قارة ولحكايات بحجم قرن من الزمن».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الساحة الحمراء هذه المدینة یمکن أن دون أن کل شیء

إقرأ أيضاً:

عاجل. ترامب: عدم السيطرة على كامل أراضي أوكرانيا هو التنازل الذي يمكن أن تقدم

عاجل. ترامب: عدم السيطرة على كامل أراضي أوكرانيا هو التنازل الذي يمكن أن تقدم

مقالات مشابهة

  • هاني رمزي: «لام شمسية» من أعظم الأعمال الدرامية التي قدمت على مدار التاريخ
  • عاجل. ترامب: عدم السيطرة على كامل أراضي أوكرانيا هو التنازل الذي يمكن أن تقدم
  • مضغ المواد الصلبة يعزز الذاكرة
  • إسطنبول: المدينة التي حملت أكثر من 135 اسمًا عبر التاريخ
  • دراسة علمية تربط بين قوة الذاكرة والدهون في منطقة البطن
  • «شخبوط الطبية» تقدم خدمات متعددة لمرضى اضطرابات الذاكرة
  • وزير الاقتصاد والصناعة يصدر قراراً بتشكيل ثلاث إدارات عامة ضمن الوزارة بدل الوزارات التي كانت قائمة قبل الدمج
  • ما أبرز الرسوم الجمركية التي فرضتها أميركا عبر التاريخ؟‎
  • عيد القوات الخاصة في الذاكرة الوطنية . . !
  • أفضل 3 مشروبات طبيعية لتحسين الذاكرة