أفكار علامية
بقلم: خالد البلوله
رغم مرور عقود على انطلاق البث التلفزيوني في السودان، لا تزال الصورة /بوصفها حاملاً جماليًا وفكريًا /تعاني من الثراء البصري في معظم ما يُقدَّم على الشاشة الرسمية،فبرامج كثيرة تُنتَج وكأنها خصصت للإذاعة،لا تُولي اهتمامًا للصورة كمكوّن أساسي للجاذبية بل تعتمد على حوار مباشر، ولقطات جامدة وزوايا تصوير تبدو مكررة، تفتقر إلى الروح والتكوين البصري المحكم.
لقد آن الأوان في ظل انتشار المنصات الرقمية لأن يتحوّل التلفزيون السوداني من(شاشة مسموعة)إلى (شاشة بصرية) تقوم على بناء مشهد بصري جاذب،لا مجرد بث محتوى مرئي. يوظف الصورة توظيفا مبهرا بكل أدواتها الإضاءة والإخراج والزوايا والمونتاج في التعبير عن الفكرة وتوسيع أثرها.
*مالذي يجعل التلفزيون عاجزا عن القيام بذلك ؟
اولا :-وفي هذا السياق، من المهم أن تعيد القنوات الرسمية النظر في بنيتها المؤسسية،بحيث تعتمد صيغ التعاقد المرن مع المبدعين والفنيين، في مجالات الإخراج والتصوير والديكور والمونتاج،بدلاً من حصر الإبداع في القوالب الوظيفية الجامدة.وفي ذات الوقت،تُبقي على صيغ التوظيف الإداري في الأقسام التي تستدعي الاستقرار الوظيفي،مع مراعاة الكفاءات الخلّاقة داخل المؤسسة،التي تفهم طبيعة العمل التلفزيوني وتملك أدوات التجديد،بدلا أن تُكبّل بالرُّتب الوظيفية والمكاتبية بهذه الرؤية المتوازنة،يمكن للتلفزيون أن يجمع بين الاحترافية والإبداع والهوية البصرية ويصنع تحولًا حقيقيًا نحو شاشة تُنتج مشاهد بصرية تُلامس وجدان الانسان السوداني.
ثانيا :-إن هذا التحوّل نحو بناء المشهد يتطلب وعيًا بصريًا واستثمارًا حقيقيًا في الطاقات المبدعة التي أثبتت جدارتها في تشكيل هوية بصرية سودانية،سواء في الدراما أو الوثائقي أو البرامج الإنسانية.
ثالثا:-لايمكن الحديث عن المشهد البصري في السودان دون الوقوف على تجارب درامية خالدة أسهمت في هذا المسار، من خلال تكامل النص،الأداء، التكوين، لمسة اخراجية عبر الكاميرا. نذكر منهم:جمال حسن سعيد،الفاتح البدوي، الصلحي، وفرقة الأصدقاء،التي كانت وما زالت مثالًا لصناعة صورة درامية لها عمق وشخصية،وفي الانتاج الوثائقي،تلمع عدة أسماء اجتهدت في تقديم محتوى بصري توثيقي وإنساني في غاية الرصانة مثل المخرج سيف الدين حسن،وصالح مختار عجب الدور وعبد الحفيظ مريود ود.الأرقم الجيلاني الذي جمع بين التنظير الأكاديمي واللمسة الإخراجية،وحاتم بابكر الذي أخرج وثائقيات ذات روح معاصرة ووعي اجتماعي،ولا ننسى المجلات الوثائقية مثل برنامج دنيا الذي يُعد من البرامج التي ساهمت في ابراز الحياة السودانية بتقديم معالجات بصرية عبر افلام قصيرة جدا Semi decumantray
رابعا :-إن مستقبل التلفزيون السوداني،في ظل ثورة المنصات الرقمية يعتمد على قدرته في ابتكار صورة تحكي،وتؤثر،وتُدهش ويتحقق ذلك بالأتي:-
١-إعادة النظر في فلسفة الإنتاج التلفزيوني.(تكوين فرق انتاج في المجالات الثقافية والدراما والبرامج الوثائقيات والمنوعات والغناء والتراث الشعبي).
٢-الاستثمار في تدريب الكوادر البصرية.(العاملين في مجالات الجرافيك والمونتاج والتصوير وكتاب السيناريو والاضاءة )
٣-فتح المجال للموهوبين بغض النظر عن خلفياتهم السياسية والفكرية.
٤-واستقطاب الخبرات السودانية الإعلامية المتميزة التي تعمل في المؤسسات الإعلامية بالخارج.(الجزيرة / BBC/ CNN/DW MBC رويترز وغيرها)
5-اعتقد إن من واجب التلفزيون السوداني،أن ينحاز إلى المجتمع في لحظة هشاشته وانكساره، وأن يكون صوتًا للناس لا صدى للسلطة فقط,فمن أولى مسؤولياته في هذه المرحلة العصيبة،أن يُسلّط الضوء على بطولة الناس العاديين، أولئك الذين صنعوا من جراحهم تضامنًا، ومن فقرهم نجدة،ومن شظف العيش مقاومة يومية، وأن يُبرز الدور الإنساني العميق للسودانيين في المهاجر،الذين لم ينقطع دعمهم ولا تراجع عطاؤهم.لقد غابت كثير من هذه المواقف النبيلة عن شاشة التلفزيون،وهي تصنع يوميًا في القرى والفرقان والريف البعيد. فهناك،تدور بطولات صامتة،يصوغها إنسان بسيط يقتسم اللقمة الحلال مع غيره،ويفتح قلبه وبيته للمُهجّرين وأهل الحاجات ..
أخيرا :-
إن السودان زاخر بالحكايات والمشاهد والوجوه التي تنتظر من يرويها بصورة مغايرة،وحينما تنجح الشاشة في أبراز ملامح الانسان السوداني والوجه المشرق للسودان من عادات وقيم وتقاليد وتراثه نكون قد خطونا نحو تلفزيون يُشبهنا… ويُشبه العالم.
خالد البلولة ..صحفي وباحث في الإعلام.
khalidoof2016@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التلفزیون السودانی
إقرأ أيضاً:
انسحاب
تدفعنا الحياة للتعامل مع صنوف مختلفة من البشر بشكل يومي، سواء أقارب أو أصدقاء وزملاء عمل أو غيرهم ممن نلتقي بهم في شتى الأماكن ونتعامل معهم بشكل مباشر، وهي بلا شك ليست عملية سهلة، لأنهم مختلفون في تفكيرهم وطباعهم ومستوى ثقافتهم، والأهم من ذلك قدرتهم على الحوار والنقاش وتبادل الآراء.
نُصدم أحيانًا من أن بعضهم لا يُحسن بشكل جيد فن ومهارة الحوار والنقاش، فيلجأ إلى أسلوب الجدل العقيم الذي لا ينتهي، دون أن يفكر، ويكون هدفه الأساسي من الجدل هو الانتصار لنفسه فقط، حتى وإن كان على خطأ، وذلك إن دل على شيء فإنه يدل على ضعف الحجة وعدم القدرة على الإقناع والتعصب للرأي فقط، ومع الأسف، هذا هو أسلوب أولئك الأشخاص ممن يتسمون بهذه العقلية.
وهنا يستحضرني كلام معبر لهيلين ميرين وهي ممثلة قديرة اتسمت بقوتها وحكمتها وهي مصدر إلهام حقيقي.
قالت هيلين ميرين ذات مرة: قبل أن تتجادل مع شخص ما، اسأل نفسك، هل هذا الشخص ناضج عقليًا بما يكفي لتقبل وتفهم مفهوم جديد أو منظور مختلف؟ فإذا كان الجواب بالنفي، فجدالك سيكون غير منطقي.
ليس كل جدال يستحق طاقتك. في بعض الأحيان، بغض النظر عن مدى وضوح التعبير عن نفسك، لا يستمع الشخص الآخر لمحاولة الفهم، بل يستمع لتكوين رد فعل حسب فهمه. فهم محاصرون في نطاق منظورهم الخاص، غير راغبين في النظر في وجهة نظر أخرى، والتفاعل معهم يرهقك فقط.
هناك فرق بين النقاش الصحي والنقاش الذي لا معنى له. الحوار مع شخص منفتح العقل، ويُقدّر النمو والفهم، يمكن أن يكون مشرقًا، حتى لو لم توافق. ولكن محاولة التفاهم مع شخص يرفض أن يرى أبعد من آراءه؟ هذا مثل التحدث إلى حائط. بغض النظر عن مقدار المنطق أو الحقيقة، سوف يحرفون كلماتك أو يشوهونها أو يتجاهلونها، ليس لأنك مخطئ، ولكن لأنهم غير راغبين في النظر إلى الاتجاه الآخر.
النضج ليس بمن يفوز في الجدال، بل هو معرفة متى لا يستحق الجدال. إدراك سلامك أكثر قيمة من إثبات نقطة ما لشخص قرر بالفعل أنه لن يغير رأيه. ليست كل المعارك بحاجة إلى خوضها. ليس كل شخص يستحق تفسيرك.
في بعض الأحيان، يكون أقوى شيء يمكنك فعله هو الابتعاد، ليس لأنك لا تملك ما تقوله، ولكن لأنك تدرك أن بعض الناس ليسوا مستعدين للاستماع. وهذه ليست أمتعتك لتحملها.
إذًا، فالحل الأسلم هو الانسحاب من الحوار “العقيم”، وهو السبيل الأفضل حتى لا نقع في دائرة المجادلة التي لا نفع ولا طائل منها.