رغد خضور **

منذ أن كانت عُمان واحدة من الموانئ التجارية الرئيسية في المحيط الهندي، استطاعت بناء روابط تاريخية وثقافية قوية مع دول عديدة، ولا يمكن الحديث عن ذلك دون التطرق إلى علاقتها بالصين، التي تمتد لحوالي خمسة آلاف عام، حين بدأ البحارة العُمانيون والصينيون بنسج خيوط هذا التعاون والتبادل بين الحضارتين العربية والصينية.

تلك الرحلات دفعت العلاقات الودية والتجارية بين البلدين، فقد كان طريق الحرير البري وطريق البخور البحري خلال القرن السادس الميلادي وشاجا ربط الشعبين، وانتقلت بعدها لتصبح علاقة دبلوماسية على مستوى السفراء عام 1978، ما فتح صفحة جديدة للعلاقات العُمانية الصينية المعاصرة، قائمة على الاحترام المتبادل وصون المصالح المشتركة ونموها واستقرارها.

ثقة متبادلة..

على مدى أكثر من 46 عامًا تعززت الثقة السياسية المتبادلة بين مسقط وبكين، حيث يولي قادة البلدين أهمية كبيرة لتنمية العلاقات الثنائية ودفعها إلى الأمام.

وقد شهدت السنوات الماضية زيارات متبادلة بين السلطنة والصين، وضع خلالها الرئيس الصيني شي جين بينغ والسلطان هيثم بن طارق التوجيهات الاستراتيجية لتنمية العلاقات الثنائية.

وخلال القمة الصينية العربية الأولى والقمة الصينية الخليجية الأولى التقى الرئيس شي مع صاحب السمو السيد فهد بن محمود آل سعيد، نائب رئيس الوزراء لشؤون مجلس الوزراء، في الرياض، وحددا اتجاهات تطور الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، حيث أكد الرئيس الصيني أن بكين مستعدة للعمل مع سلطنة عُمان على ترسيخ الثقة المتبادلة وتعميق التعاون الودي والدفع نحو تحقيق تقدم جديد في الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وهذا أظهر الرغبة الصادقة والثقة الراسخة من الجانب الصيني في تطوير العلاقة الصينية العُمانية.

القضايا الدولية..

إنَّ كلًا من سلطنة عُمان والصين تتبع سياسة خارجية قائمة على الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، ما يعكس موقفًا متوازنًا في العلاقات الدبلوماسية.

كما يتشارك البلدان بوجهات نظر متقاربة في القضايا الدولية مثل الأمن الإقليمي والاستقرار العالمي والتنمية المستدامة، ويعملان معًا في المنظمات الدولية لتعزيز السلام والاستقرار.

وتلتقي الصين مع السلطنة في دورهما كوسيط في حل النزاعات الإقليمية بمنطقة الشرق الأوسط، ما يساعد في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي الذي يعد مهمًا لمصالح الصين الاقتصادية والتجارية.

تكامل الاقتصادات..

تتأسس نقاط التلاقي بين سلطنة عُمان والصين على المصالح الاقتصادية المشتركة، حيث يعمل الطرفان للمواءمة بين مبادرة "الحزام والطريق" ورؤية "عُمان 2040"، وفي هذا الجانب، شهد التعاون العلمي بين الجانبين تطورات متواصلة في مجال البنية الأساسية والطاقة وتقنيات الاتصالات وغيرها.

الاقتصادان الصيني والعُماني متكاملان ويملكان إمكانيات كبيرة، ورؤية السلطة تركز على التنوع الاقتصادي وتوسيع القاعدة الإنتاجية وتنمية الصناعات الوطنية وهو ما نجحت الصين فيه بكفاءة؛ فضلًا عن أن السلطنة تمثل أرضية خصبة لمشاريع البنى الأساسية الكبرى الصينية، ومراكز التصنيع في السلطنة إلى العالم.

ومن جهتها تمثل الصين قوة اقتصادية عالمية تسعى لتعزيز شراكاتها التجارية والاقتصادية ضمن مبادرة "الحزام والطريق"؛ الأمر الذي يفتح المجال أمام تعاون وثيق يحقق فوائد ملموسة لكلا البلدين.

مكاسب استراتيجية..

تكامل الأدوار الاقتصادية كوّن مكاسب استراتيجية لكلا البلدين، حيث تستفيد مسقط من الاستثمارات الصينية في تطوير بنيتها التحتية، خاصة في قطاعات الموانئ والنقل البحري، إلى جانب توسيع وتنويع المنشآت الصناعية في مختلف محافظات البلاد.

بالمقابل، تستفيد الصين من موقع عُمان الاستراتيجي لتعزيز سلسلة التوريد الخاصة بها، بما يتماشى مع خططها لتوسيع نطاق مبادرة "الحزام والطريق"؛ حيث تمتلك السلطنة موانئ تتمتع بإمكانيات لوجستية، مثل صلالة والدقم وصحار، تجعلها مركزًا إقليميًا لنقل البضائع الصينية العابرة إلى الأسواق الأفريقية والأوروبية.

تبادلات تجارية..

التعاون التجاري والاستثماري يعد نقطة التقاء رئيسية بين البلدين، فالصين أكبر شريك تجاري لسلطنة عُمان، والسلطنة هي رابع أكبر شريك تجاري للصين في العالم العربي.

وهذه الشراكة كانت واضحة من خلال حجم التبادل التجاري، وبحسب السفير العُماني لدى الصين، سعادة ناصر بن محمد البوسعيدي، فقد بلغ ذلك، خلال النصف الأول من عام 2024، حوالي 19.7 مليار ريال عُماني (51.2 مليار دولار)، مع تسجيل نسبة ارتفاع بلغت 6.7% للصادرات و10.8% للواردات.

مشاريع استثمارية..

العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم تم توقيعها بين البلدين، في المجالات الاقتصادية والاستثمارية، والتي تضمنت قطاعات عديدة منها الموانئ والنقل والخدمات اللوجستية.

المشاريع الاستثمارية الصينية في السلطنة عديدة ومتنوعة، وفي أحدث خطوات تعزيز هذا الجانب، أعلنت شركة "جيتور" الصينية، الرائدة في صناعة السيارات الكهربائية، عن خططها لتوطين قطاع صناعة السيارات في السلطنة.

ويركز المشروع على إدخال تقنيات متقدمة لشحن واستبدال البطاريات، وهي تقنيات تُستخدم حاليًا في الصين، وهو ما يسهم في نقل المعرفة والتكنولوجيا إلى السوق العُمانية، الأمر الذي يتماشى مع رؤية "عُمان 2040"، التي تولي من خلالها السلطنة اهتمامًا خاصًا بالقطاعات ذات الأولوية، مثل الصناعات الكثيفة، والصناعات القائمة على المعرفة، ومن بينها أشباه الموصلات، والمركبات، والبطاريات.

التعاون التكنولوجي..

يلتقي البلدان في تعزيز الابتكار، خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة التي يمكن أن تسهم في تعزيز التنمية المستدامة، فعُمان تسعى للاستفادة من الخبرة الصينية في الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، وهو ما يسهم في تحقيق أهداف رؤيتها لعالم 2040 المتعلقة بالاستدامة والابتكار.

والبُعد التكنولوجي للتعاون الصيني العُماني شمل أيضًا الزراعة، إذ توجد مشروعات تتعلق بالزراعة الذكية، تستهدف تطوير تقنيات الزراعة الحديثة لزيادة الإنتاجية وتحسين الأمن الغذائي.

وعلى اعتبار أن الصين من الدول الرائدة في مجال تكنولوجيا الفضاء، فقد فتح ذلك آفاقًا واسعة للتعاون مع عُمان، التي تسعى لتطوير قدراتها في هذا القطاع، وهناك اتفاق مع إحدى الشركات الصينية لإطلاق قمر اصطناعي عُماني يحمل اسم O.L.Y، يهدف إلى مراقبة الأرض وتعزيز الاتصالات وتطوير التكنولوجيا الفضائية في سلطنة عُمان.

الطاقة..

تُعد عُمان شريكًا مثاليًا للصين في مجال الطاقة، فالصين أكبر مستورد للنفط العُماني منذ سنوات، ووفقًا للإحصائيات صَدّرت السلطنة، عام 2021، حوالي 80% من إنتاجها النفطي إلى الأسواق الآسيوية، مع حصة كبيرة موجهة إلى الصين.

هذا التعاون يعكس تكاملًا طبيعيًا بين احتياجات الصين وموارد عُمان، بالإضافة إلى التعاون في مجالات الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ووفقًا لتقارير منظمة الطاقة الدولية، تُعتبر الصين من أكبر المستثمرين في تقنيات الطاقة النظيفة، الأمر الذي يوفر فرصة لعُمان للاستفادة من الخبرة الصينية في هذا المجال لتطوير مشاريع مستدامة داخل السلطنة.

قطاعات أخرى..

التبادلات بين الصين وسلطنة عُمان شملت العديد من القطاعات، ومنها السياحة، والتي تمثلت بمشروعات مشتركة لتطوير الواجهات السياحية في السلطنة، بالتعاون مع شركات صينية لجذب السياح من الصين؛ ففي عام 2019، ومع استئناف حركة السفر العالمية، زار أكثر من 50 ألف سائح صيني السلطنة، وتشمل المواقع التاريخية في عُمان عوامل جذب رئيسية للسياح الصينيين، إضافة إلى الصحاري والشواطئ الجميلة التي توفر تجربة فريدة.

علاقات الشعوب..

تنامت علاقة الصداقة بين الشعبين الصيني والعُماني على مدى سنوات، وحقق البلدان تقدمًا كبيرًا في مجال تدريب الموارد البشرية والتبادلات الثقافية والتدريسية، فمنذ عام 2018، عُقدت حوالي 150 دورة تدريبية للجانب العُماني غطت مجالات التكنولوجيا والتجارة والتعليم والصحة والإدارة وغيرها، كما أقيمت دورتان في المنتدى التعاون السياحي بين الصين وسلطنة عُمان.

وفي عام 2021 أُقيمت فعاليات الأسبوع الثقافي الرقمي بين الشباب الصيني والعُماني، وأنشئت آلية التعاون والتواصل بشكل دائم بين المتحف الوطني الصيني والمتحف الوطني العُماني وكذلك بين دار الأوبرا الوطنية الصينية ودار الأوبرا السلطانية مسقط.

التبادل الثقافي..

الجانب الثقافي كان له مساحة واسعة ساهمت في تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، من خلال المهرجانات الثقافية والمعارض الفنية والبرامج التعليمية التي قربت الثقافات بين الشعبين.

ويُبتعث العديد من الطلبة العُمانيين إلى الصين، مقابل ابتعاث طلبة صينيين إلى السلطنة لتعلم اللغة العربية، وجاء ذلك مدعومًا بزيارة عدد من المسؤولين الصينيين لجامعة السلطان قابوس ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار.

إنَّ المسيرة الرائعة التي تتميز بها العلاقة الصينية العُمانية والأصول الغنية المتراكمة، لم تخدم الشعبين وحسب؛ بل إنها ساهمت في السلام والتنمية العالمية أيضًا؛ فالتعاون الوثيق بين البلدين ليس فقط فرصة اقتصادية؛ بل إنه جسر ثقافي يُسهم في بناء علاقات مستدامة تعود بالنفع على الشعبين.

** صحفية سورية

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الطائر الميمون وغصن الزيتون

 

ناصر بن حمد العبري

 

في رحاب السياسة الهادئة والدبلوماسية الرصينة، تواصل سلطنة عُمان أداء دورها التاريخي كجسر للتواصل بين الشعوب، وسفير للسلام في عالم يموج بالأزمات. فقد حملت الأمانة، وأدّتها على أكمل وجه، وكانت الزيارات الميمونة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- دليلًا ساطعًا على مكانة السلطنة المرموقة بين دول العالم.

وحرص جلالة السلطان على زيارة الدول الشقيقة والصديقة ليس مجرد بروتوكول دبلوماسي؛ بل رسالة عُمانية راسخة تؤكد أن السلطنة تسعى لإطفاء فتيل الحروب، ونشر ثقافة الحوار والتفاهم. إنها اليد التي تحمل غصن الزيتون وتُمد إلى الجميع بروح السلام والتعاون، في مشهد يختزل رؤية عُمان الإنسانية والسياسية.

ويرمز الطائر الميمون الذي يحلّق في السماء إلى الأمل والتفاؤل، ويعكس رؤية وطنٍ اختار طريق الحكمة، وارتضى لنفسه أن يكون صوت العقل في محيط مضطرب؛ فالدور العُماني في التوسط بين الأطراف المتنازعة عبر التاريخ يجعلها لاعبًا مؤثرًا في معادلات السياسة الدولية، ومحل ثقة لدى الجميع.

زيارة جلالة السلطان إلى روسيا- كما في غيرها من المحطات الدولية- تُعبِّر عن نهج مدروس يهدف إلى تعميق الحوار وتوسيع آفاق التعاون، والدفع بمبادرات السلام إلى الأمام. فهي ليست فقط رسائل دبلوماسية؛ بل خطوات استراتيجية تنبع من إيمان السلطنة بأن السلام هو السبيل الأوحد لتحقيق الاستقرار والنماء.

وغصن الزيتون، بما يحمله من رمزية عالمية للسلام، هو شعار عُمان الدائم في تحركاتها الدولية. فهي ترفض العنف، وتؤمن بالحوار وسيلة لحل الخلافات، وتحرص على دعم كل جهد يفضي إلى عدالة وإنصاف بين الشعوب.

كما تعكس هذه الزيارات حرص السلطنة على تنمية علاقاتها الاقتصادية والثقافية مع مختلف الدول، بما يواكب رؤيتها المستقبلية نحو تنويع الشراكات وتعزيز الحضور العُماني في مختلف المحافل الدولية.

في الختام.. تظل سلطنة عُمان، بقيادتها الحكيمة، نموذجًا للدولة التي تؤمن بأن قوتها الحقيقية تكمن في نهجها السلمي، وفي يدها الممدودة دومًا بغصن الزيتون؛ فذلك الطائر الميمون الذي يُحلّق عاليًا في سماء الوطن، لا يحمل فقط آمال العُمانيين؛ بل يحمل تطلعات الشعوب إلى عالم يسوده الأمن والتسامح والسلام.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • وزير الخزانة الأمريكي: الرسوم المتبادلة مع الصين تضر بمصلحة البلدين
  • رسائل السلام والهيدروجين الأخضر
  • وزير الاستثمار يبحث مع سفير الصين سبل تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين
  • بطلب عُماني... تأجيل محادثات الأربعاء الإيرانية-الأمريكية
  • الطائر الميمون وغصن الزيتون
  • روسيا وسلطنة عمان توقعان اتفاقية إلغاء التأشيرات بينهما
  • لقاء «الأول من نوعه» في تاريخ العلاقات بين روسيا وسلطنة عمان
  • منتدى الأعمال العُماني الليبي يعزز التعاون الاستثماري بين البلدين في قطاعات حيوية
  • التنمية العُمرانية المُستدامة وازدهار المجتمعات
  • الدماطي يوضح الملفات الشائكة بالقلعة الحمراء وفرص تخطي صن داونز