(1)
ثمة نوعية من الكتاب "الكبار"، بعد أن تعايش نصوصهم وتتأمل أعمالهم على مدى زمني طويل، تستطيع بعد هذه المعايشة وهذا التأمل أن تضعهم في مكانة خاصة "مضافة" فوق مكانتهم الطبيعية التي يحظون بها بين أقرانهم من كتاب الطبقة الأولى في الثقافة التي ينتمون إليها واللغة التي يبدعون بها.
وأظن أن الكاتب البيروفي الكبير ماريو بارجاس يوسا (28 مارس 1936-13 أبريل 2025) الذي غادر عالمنا الأسبوع الماضي عن 89 عامًا؛ ينتمي إلى هذه الفئة من الكتاب ذوي القيمة الإبداعية والإنسانية "المضافة"، إن جاز التعبير وصدق الوصف، على الأقل بالنسبة لي في دائرة القراءة وخبرة تذوق النصوص السردية، على مدى يقترب من العقود الأربعة!
"يوسا" عندي يماثل في قيمته، ومكانته، وضخامة مشروعه الإبداعي، وغزارته، وتجدد حضوره والرغبة الدائمة في معاودة قراءته، مكانة نجيب محفوظ في الأدب العربي، ومكانة كازانتزاكيس في الأدب اليوناني، وبورخيس في الأدب الأرجنتيني، وساراماجو في الأدب البرتغالي.
ينتمي "يوسا" إلى هذه الفئة من الكتاب الذين آمنوا بضرورة الحلم ومواصلته، واختيار القراءة والكتابة سبيلًا وحيدا للحياة ومقاومة الفناء؛ صرح يوسا بذلك بحروف ناصعة واضحة محددة قاطعة: "علينا أن نواصل الحلم، القراءة والكتابة، إنها الطريقة الأكثر فعالية التي نعرفها لتخفيف وطأة شرط فنائنا، لهزيمة دودة الزمن ولتحويل المستحيل إلى ممكن"..
(2)
على مدى ربع القرن أو يزيد (منذ قرأت أول رواية وقعت في يدي ليوسا بعنوان («من قتل بالمينو موليرو؟») وأنا أقرأ يوسا بتأنٍ وعلى مهل، جنبًا إلى جنب نصوص محفوظ (العربي)، وكازانتزاكيس (اليوناني).. هؤلاء الثلاثة فرضوا بمحبة (في تجربة قراءتي لهم) فورة خيالهم وزبدة إبداعهم، وقدراتهم السردية المدهشة وانتقالاتهم العجيبة بتقنيات السرد وألاعيب القص، والتدفق المذهل في الحكي واقتناص اللحظة الفريدة التي لا تأتي إلا مرة واحدة فقط من اقتنصها فقد فاز!
الثلاثة الكبار؛ نجيب محفوظ ونيقوس كازانتزاكيس وماريو بارغاس يوسا كانوا من أصحاب المواهب الكبيرة جدا جدا؛ وهم معا قرروا كلٌّ بانتمائه الثقافي، ولغته التي أبدع بها، ووعيه المستوعب لنقاط الاتصال بين المحلي والإنساني، بين الخاص والعام، بين التاريخي الموغل في قدمه والآني المتجدد، قرروا بإرادة لا تلين وعزيمة جبارة أن يديروا هذه الموهبة، ويستثمروها أحسن استثمار وأعظمه.. فكانت الثقافة الواسعة والعريضة والعميقة، وكانت القراءة الواعية المستوعبة، وكان الوعي الذي لا يكف لحظة عن التحديق بدهشة وتمعن في كل شيء ومحاولة إدراك كنهه والنفاذ إلى جوهره..
كل ذلك بالإضافة إلى أنهم كانوا معا من النافذين لروح وجوهر الثقافة التي ينتمون إليها؛ نجيب محفوظ الذي قال عن نفسه إنه ابن حضارتين تزاوجتا معا «الفرعونية» و«العربية الإسلامية»، في معرض إجابته عمن يكون هذا الذي جاء من أطراف العالم ليحصد الجائزة المرموقة..
وكازانتزاكيس ابن الثقافة اليونانية الهيلينستية الكريتية المتميزة، الذي استطاع استخلاص جوهر هذه الثقافة وهُويتها المتفردة في أعماله الخالدة «الحرية أو الموت»، «المسيح يصلب من جديد»، و«زوربا اليوناني»..
أما يوسا ذلك البيروفي (نسبة إلى بيرو إحدى دول أمريكا اللاتينية القابعة بين الجبال والتضاريس الوعرة الطولية)، فقد نفذ إلى أبعد نقطة يمكن أن يصل إليها كاتب آخر ينتمي إلى الثقافة ذاتها، ويكتب باللغة السائدة بها "الإسبانية"، ويستخلص روافد تشكيل الخصوصية البيروفية في حضورها التاريخي القديم ويصلها براهنها وواقعها المعاصر، ويحدد لها موضعها البارز والمقدم بين ثقافات الأمم والشعوب أصحاب الآداب العالية والرفيعة والإنسانية..
(3)
ولا أجد أفضل من الأسطر التي أوجز فيها ماريو يوسا انتماءه الثقافي المحلي في امتداداته البعيدة في الماضي، والتراث والتاريخ، مدركا روابط التأثير والتأثر والمزج والدمج والتداخل والاختلاط بين أقدم جماعات وسلالات استوطنت هذه البقعة من الأرض التي تسمى "البيرو" كما يطلق عليها، وبين كل الأعراق وأصحاب الثقافات واللغات الذين عبروا المحيط ووفدوا إليها واستقروا بها أو حتى في دائرة المرور العابر، فكانت لمحة هنا ونفحة من هناك. يقول يوسا بوضوح (شأن كل ما يعبر عنه ويسجله خارج دائرة الإبداع المحض):
"مواطن بيرواني (نسبة إلى بيرو)، هو خوسيه ماريو أرجيداس، سمى «البيرو» بلد كل الأعراق. لا أجد صيغة أخرى أفضل لتحديد هُوية وطن. هكذا نحن، وهذا ما يحمله في داخلهم كل سكان البيرو، سواء أعجبنا أو لم يعجبنا، فنحن محصلة مجموع من التقاليد والسلالات، والمعتقدات، وثقافات تنتمي للجهات الأربع الأصلية..
بالنسبة لي، أفخر بإحساسي أنني وريث ثقافات ما قبل التاريخ، التي صنعت نسيجًا وملاءات من الريش عند "الناثكا والباراكاس"، والفخار الموتشيكو أو الإنكا والذي يُعرض في أفضل متاحف العالم، وأنني وريث بناة ماتشو بيتشو، والتشيمو العظيم، والتشان التشان، والكويلاب، والسيبان، ومعابد البروخا والشمس والقمر، وأنني وريث الإسبان الذين أحضروا اليونان وروما والتراث اليهودي المسيحي، والنهضة الأوروبية، وثربانتس وكيبيدو وجونجرا، واللغة الإسبانية الجزلة التي منحتها جبال الإنديز حلاوة، أولئك الإسبان بأحمالهم وسيوفهم وخيولهم، وأيضًا مع إسبانيا وصلت إفريقيا ببدائيتهم وموسيقاهم، وخيالهم الجياش، لإغناء التعدد البيرواني (البيروفي). وإذا تعمقنا قليلاً سنجد أن البيرو مثل «ألف» بورخيس: هي العالم كله في إطار صغير. أي تميز خارق للعادة لبلد بلا هُوية؛ لأنه يملك كل الهُويات"..
(من خطاب "ماريو بارغاس يوسا" يوم استلام جائزة نوبل 2010 في الأدب 7 ديسمبر من العام ذاته).
(4)
في دراسته الممتازة عن "خصائص الكتابة الإبداعية عند ماريو بارغاس يوسا"، كتب أستاذي الراحل الجليل الدكتور سليمان العطار (وهو أحد الكبار السباقين الذين عرفوا أبناء الثقافة العربية والأدب العربي بتيار الواقعية السحرية الذي انفجر على يد كتاب الرواية في أمريكا اللاتينية منذ النصف الثاني من القرن العشرين)، كتب يقول:
مرّ يوسا بمرحلتين فنيتين، في الأولى كان شديد الجدية، وفي المرحلة الثانية سيطر على حس السخرية، هكذا يشبه ماركيز الذي أمضى ربع قرن من الكتابة شديدة الجدية قبل القدرة على السيطرة على حس السخرية، وهو الأسلوب الأرفع والأصعب في نفس الوقت لدى كتاب الرواية.
بارجاس يوسا احترف الصحافة منذ الخامسة عشر من عمره، وظل يعمل بها وما زال، وعرف الحياة العسكرية، أيضًا احترف العمل السياسي، كذلك كان رحالة، وتعددت مغامراته، لكنه لم يتوقف عن قراءة الأدب وإبداعه يوماً واحداً. أعماله الأدبية تنطلق من وقائع وتجارب حياتية يصوغها خيال عبقري، وسيطرة بديعة على "إسبانيته"، وعلى المعرفة الوجدانية لتاريخ الإنسان الحديث بطريقة مستحدثة تجعل من واقعية أعماله كتابة للتاريخ منحازة للحرية ضد الديكتاتورية، حتى أن حيثية منحه نوبل التي لفتت الأنظار هو تضمن أعماله أطلس الدكتاتوريات. المصادر المتعددة لخبرات وثقافة بارجاس يوسا وعلى رأسها التعدد الثقافي البيرواني منحت أعماله بعداً إنسانياً غائر عمق الصدى، غير محدود الأفق".
كانت هذه مجرد إطلالة على ما أسميته "القيمة الإبداعية المضافة" للكاتب البيروفي الكبير ماريو بارغاس يوسا؛ ذلك الذي ملأ الدنيا وشغل الناس طوال ثلاثة أرباع القرن، وأغنى مكتبة الرواية الإنسانية بعشرات الروايات التي أسعدت الملايين وأمتعتهم وألهمتهم، وصار اسمه ضمن قائمة العشرة الكبار الذين يلهمون ويمثلون القيمة الجمالية والمثل الجمالي الأعلى لأجيال وأجيال من كتاب الرواية في العالم أجمع، وبالأخص في عالمنا العربي، بخاصة في العقود الخمسة الأخيرة، وضمن التأثر بتيار الواقعية السحرية الذي انفرد بهيمنته واحتذاء جماليته وروحه الإبداعية الساعية إلى الوصول إلى المشترك الإنساني من خلال أخص خصائص التراث والهُوية والشخصية الوطنية..
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الأدب
إقرأ أيضاً:
دراسة: المراهقون الذين يعتادون على النوم مبكرا يتمتعون بمهارات إدراكية وعقلية أفضل
كشفت دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعتي كامبريدج وشانغهاي، أن المراهقين الذين يعتادون على النوم مبكرا ويحصلون على قسط كاف من النوم يتمتعون بمهارات إدراكية وعقلية أفضل مقارنة بمن ينامون في أوقات متأخرة.
وشملت الدراسة، التي تعد الأكبر من نوعها في مجال تطور الدماغ عند المراهقين، أكثر من 3 آلاف مشارك تتراوح أعمارهم بين 13 و18 عاما، حيث تم تتبع أنماط نومهم باستخدام أجهزة متخصصة، وإخضاعهم لسلسلة من الاختبارات المعرفية وفحوصات الدماغ.
وكشفت النتائج أن المجموعة التي اعتادت على النوم مبكرا (نحو 37 بالمائة من المشاركين) تميزت بأداء أكاديمي وإدراكي أفضل، حيث تفوقت في اختبارات القراءة وحل المشكلات والذاكرة. كما أظهرت فحوصات الدماغ أن أفراد هذه المجموعة يتمتعون بحجم دماغي أكبر ووظائف عصبية أكثر كفاءة.
ومن جانب آخر، أشارت الدراسة إلى أن معظم المراهقين لا يحصلون على القدر الكافي من النوم الذي يتراوح بين 8 إلى 10 ساعات يوميا وفقا للتوصيات الطبية، حيث بلغ متوسط نوم أفضل مجموعة مشاركة حوالي 7 ساعات و25 دقيقة فقط.
وأوضحت الباحثة باربرا ساهاكيان، إحدى المشاركات في البحث، أن الدماغ يقوم خلال النوم بعمليات معقدة لتنظيم الذاكرة وتقوية المهارات المكتسبة، ما يفسر الارتباط الوثيق بين جودة النوم والقدرات العقلية.
ونصح الباحثون المراهقين الراغبين في تحسين أدائهم العقلي بالالتزام بعدة إجراءات منها: تجنب استخدام الأجهزة الإلكترونية قبل النوم، وممارسة النشاط البدني بانتظام، والحفاظ على جدول نوم ثابت حتى في أيام العطل.
وتقدم هذه الدراسة دليلا إضافيا على أهمية النوم الكافي خلال مرحلة المراهقة التي تشهد تطورا حاسما في وظائف الدماغ.